في الأوطان المستوردة – نحو الشرق العربي

بروفسور نسيم الخوري

عدت إلى تصفّح ملفّ تقارير التنميّة الإنسانيّة الضخم منذ ال2002 التي توسّلها الأميركي لتدمير العراق، متلمّسا جروح هذا الوطن التي لم تيبس الدماء فيه بعد، ومتابعاً وصول البابا فرنسيس بغداد ثمّ النجف وذي قار وأربيل ونينوى (6-8   آذار/مارس 2021) ومحاولاً تفكيك كلّ خطوة وكلمة وأرشفتها. صحيح أنّ رأس الكنيسة الكاثوليكيّة رقم 266 إختار إسم فرنسيس تيمّناً بالقدّيس فرنسيس الأسيزي أحد كبار معلّمي الكنيسة الجامعة الذي دافع عن الفقراء والمساكين والمعذّبين والبساطة والسلام، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ أبواب الحروب المفتوحة التي تتعرض لها الأمة منذ عشرات السنين مستمرّة في العراق ومتنقّلة في الأرجاء العربيّة. أنّها تقارير وأبواب مصقولة بأيادٍ عربيّة وأجنبيّة ولا موازين نهائيّة بعد لضبط مستويات التداخل بين الخارج والداخل. كيف؟

قد يفرح أستاذ جامعي ومفكّر أو مواطن عربي في هذا الشرق المنهوب بأن يبقى له صندوق بريد فوق باب داره مثلاً،  في أوطان باتت فيه صناديق التخريب التي أسست لدويلات القتل والفساد وثقافاتها الطائفية والمذهبية من دون أبواب لشدة ما حشرت فيها أموال الناس وأرواحهم سرقة وخلسة واغتصاباً ووقاحة. يبدو الحبر ذليلاً حيال  تراكم الجرائم الكبرى”الربيعيّة” لا يداويها لا بسمة مسؤول ولا موعظة كاهن أو خطبة شيخ أو حبرٍ أعظم أو حماسة محلل أو قرارات دوليّة منزوعة الفتائل والنتائج. لكن…ما العمل عندما يحشون صناديق البريد والرؤوس الفارغة بتقارير التنميّة وهي سجّادات الدم المرصّعة بالخرائب؟

 ما هي الحرية؟ كيف تحقّق حريتك؟ أين حقوق المراة وحقوق الطفل؟ أين مشاركة العربي في تشكيل الرأي العام؟ هل قرأت  دستورك؟ ما هو المجتمع المدني؟ كيف تنشئ الجمعيات؟.عناوين لا تنتهي في المواطنة، والطريق إلى الديمقراطية في الكراريس المقتضبة والكتيبات والنشرات والصور والأفلام وعناوين الجمعيات الأميركية وألأوروبيّة والجمعيّات “المحلية” الهائلة الأعداد، تجدها محشورة في صندوق بريدك، وهي توزّع نصوصاً مستوردة معرّبة في التنمية المستدامة والتنمية المؤسساتية ملفوفة بشعارات برّاقة شكّلت وتشكّل أجيالاً من العازفين على مصطلحات الشرق الأوسط الكبير وكوارثه التي لم تنته بعد.

‏إنها أمور وعناوين باتت قويّة راسخة في مؤسسات المجتمع المدني غير الحكومية أو الهيئات الإنسانية التطوعية والبرامج المحددة للتوعية والتثقيف والتماسك والاندماج الاجتماعي….الخ من الشعارات والمصطلحات والأوراق papers والأنشطة (أنظر أنشطة) التي يفلشها خليط من الشباب المتشظّين في سلوك الفكر التغييري و”الثوري”. لبنان الأنموذج الصارخ لما ذُكر. ينتشون يوميّاً بالجمعيات التي لا أحد يعرف أعدادها، وأيضاً بورش العمل  workshopsوتلفظ بالإنكليزية وورك شوب. ورش لا تنتهي من توزيع النصوص المستوردة التي تثقل أعباء منظّفي القاعات من بقايا الأوراق والكلام الجاهز المصفوف الذي لا يفصح كثيراً. يدير الورش مؤسسات وشخصيّات يقصّون عليك محاضراتهم présentations ومداخلاتهم التي تشرّبوها في أروقة الغرب ودهاليزه وجامعاته وسفاراته، يعرّبونها ويصفعوننا بقشورهم الإصلاحيّة مع كل غزو واحتلال.

وهنا ملاحظة ضرورية:

المحزن سباحة بعض المثقفين في مستنقات الشرق الأوسط، وحماستهم ليقظة الأحلام الامبراطورية العثمانية بوصفها “الرجل المريض” ينهض من فراشه، بعدما شاخ زمان اقتسام أراضيه وخيراته، وفيها البلاد العربية التي شكلت أجزاء من تركته آنذاك. نعاين اليوم أسرّة أكثر من “رجل مريض” في المحيط. لقد حملت تلك المرحلة في أعقاب الحرب العالمية الثانية متغيرات كثيرة في منطقة الشرق الأوسط، إذ اقتسمها الحلفاء (بريطانيا وفرنسا) بعدما ابرموا عدداً من الاتفاقيات خصوصاً سايكس- بيكو (1916) ثم مؤتمر سان ريمو الذي رتب الأوضاع القانونية في اقتسام لبنان وسوريا وفلسطين وأجزاء من العراق. وإذا كانت أوروبا قد وضعت حجر الأساس للبناء السياسي، فإن أميركا جورج مارشال وضعت يومها البنيان الاقتصادي للعالم بدءاً من أوروبا، وها هي تبدو مارشالاً جديداً، تضع يدها على المنطقة، وتتقدّم ببطء في مشروع الشرق الأوسط الكبير وكأنّه ضرورة للعالم ويؤلّف منطقة فريدة للرخاء.‏ ليس أقوى من بعض اليساريين السابقين في امتطاء هذه الموجات بشكلٍ لافت، وكأنّهم يقتدون بيساريي أوروبا في أعقاب أفول الحركات الفكرية مثل الظواهرية والوجودية والماركسية والبنيوية. المعروف أنّه بعد مقتل أستاذي في البنيويّة رولان بارت ونحن خارجون معه من الكوليج دو فرانس في باريس ثمّ انتحار جول دولوز ساقطاً من نافذة منزله، وغياب كلود ليفي شتراوس وموت جان بول سارتر والتوسير وفوكو مثلاً، وانهيار الإتّحاد السوفياتي، بدأت مرحلة انتهازية جديدة هائلة في تاريخ الفكر العالمي تستمريء بثّ الموت والقتل، ومعها تراجع العقل في العالم وتقدمت الغرائز.‏

لا تحصى مظاهر هذا الحماس المستورد، أحصره هنا بأمرين: الأّوّل، قيام مجموعة من أصولٍ عربيّة، لا يعرف بعضهم بلدان أجدادهم العربية ولاحتّى  لغتهم، بتصدير ونقل وسائل الإصلاح إلى وطن أجدادهم. العراق مثال قاسٍ وأنموذج معيب لسحق الحضارات العريقة التي يصلّي في بقاياها بابا رومية وأنا أحرّر هذا النص. لا يدرك هؤلاء المبرمجون والسياسيون المستوردون خطورة ما يشاركون به بالفعل، لأنهم يصدّقون بأنّهم يعيدون بناء أوطان أجدادهم بعدما تمّ بعثرة تاريخها وتدميرثرواتها ومعالم حضاراتها القديمة، وقتل أهلها وعلمائها وتهجير عائلاتها لتوكل إليهم المهمّات “الإصلاحيّة” بين قوسين بالطبع.

الأمر الثاني، نسيان العرب تقارير التنمية الإنسانية التي بوشر بها في ال 2004  بعد إهراق واشنطن دم العراق، بغية إضاعة الإصلاح الفارغ في حروبٍ مماثلة متنقّلة في الوطن العربي وليس العالم العربي كما نصّت التقارير، وأقلام العرب المستلقين في دماء مواطنيهم يعتمرون الابتسامات الملتبسة والأموال والوعود الكثيرة كتب الصحافي توماس فريدمان بعد الغزو: “إننا جئنا إلى العراق لتنفيذ تقريري التنمية الإنسانية”، إنّها التقارير التي تمدّ سجادة الاستعمار الجديد نحو الشرق الأوسط الجديد، والشرق في ميدان التنمية شرقان وله مقياسان: واحد للعرب وآخر للشرق الأوسط الكبير”، والقاعدة تقول:”إن من يدفع للعازف يطلب اللحن الذي يريد”.

كاتب وأستاذ العلوم السياسية والإعلاميّة ومشرف في المعهد العالي للدكتوراه

العدد 115 / نيسان 2021