استشراف المستقبلات في الوطن العربي

ا.د. مازن الرمضاني*

منذ زمان ما قبل التاريخ والإنسان يفكر في المستقبل. وقد استخدم لذلك أدوات عبرت عن نوعية تطوره الحضاري. وجراء ذلك مر هذا التفكير بأنماط مختلفة المضامين. فابتداءا كان دينيا، بشقيه الوثني والتوحيدي، ثم أضحى فلسفيا، وبعد ذلك خيالا علميا. ومنذ منتصف القرن الماضي صار ياخذ بالمقاربات المنهجية العلمية. وبالاضافة إلى أنه أضحى يُعبرعن أعلى درجات التفكير الإنساني في المستقبل حتى الآن، فأنه يتجه، في الوقت ذاته، إلى أن يكون ظاهرة شبه عالمية.

وإلى ذلك أدت مدخلات متعددة ذات مضامين مختلفة. وتكمن جلها في اثر مخرجات التقدم العلمي والتكنولوجي في بلورة عالم صار يتميز، وعلى نحوٍ غير مسبوق، بتسارع عملية التغيير وعلى شتى الصُعد، ومن ثم بخاصية اللايقين العميق الناجم عن مخرجات هذه العملية. وجراء هذه المخرجات كان لابد من توظيف العلم لإستشراف مشاهد المستقبل، استباقا واستعدادا لمعطيات قابل الزمان.

 يعود تاريخ الإستشراف العلمي العربي لمشاهد لمستقبل إلى منتصف عقد السبعينات من القرن الماضي. وبذلك كان متأخرا حتى بالمقارنة مع بعض دول عالم الجنوب. وعلى الرغم من ذلك تميزت بداياته بزخم لا يستهان به. اذ كان في وقته واعدا.

ونرى أن هذه البداية لا تكمن في مجرد تماهي بعض المثقفين العرب مع واقع الإنتشار العالمي للتفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته، كما يؤكد ابراهيم العيساوي فحسب، وانما أيضا وخصوصا في مخرجات هزيمة العرب في حرب عام 1967. فهذه المخرجات هي التي ادت الى أن يبدأ الإحساس على صعيد نخب عربية بجدوى توظيف التفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته العملية سبيلا للحد من تأثير المدخلات التي أدت إلى تلك الهزيمة، وبالتالي الحد من تفاقم التردي العربي على الأقل. ويؤكد ذلك تاريخ البدء بهذه الدراسات وبهذا الصدد تجدر الإشارة ، كمثال، إلى مؤلف انطوان زحلان وأخرون، الموسوم بالوطن العربي عام 2000، والصادر في عام 1975، والذي يُعد حسب معلوماتنا أول إصدار عربي يدعو إلى التعامل مع المستقبل أنطلاقا من مقاربة علمية.

إن هذا الأحساس أدى الى تتابع صدور مؤلفات ودراسات مستقبلية عربية مهمة توزعت على مستويين: نظرية ـ تعريفية، واخرى استطلاعية ـ معيارية.

فأما عن المؤلفات والدراسات النظرية ـ التعريفية، فلقد تميز اعدادها، ومنذ البدء، بجهد فردي انصرف أساسا الى التعريف بالجوانب المتعددة للحقل المعرفي، الذي اضحى يسمى الآن بدراسات المستقبلات. وتُعد مؤلفات كل من انطوان زحلان والصادر عام 1975، و قسطنطين زريق المعنون: نحن والتاريخ، الصادر في عام1977، و كذلك حسن صعب المسمى: المقاربة العربية للانماء الغربي، والصادر في عام 1979، ابرز المؤلفات الرائدة الأولى، ومؤلفيها من بين اوائل الرواد العرب في حقل التفكير العلمي في المستقبل.

ان ريادة هؤلاء المستقبليين العرب لا تكمن في الغاية التعريفية لمؤلفاتهم فحسب، وانما أيضا في الدعوة الى الأخذ بإستشراف المستقبل سبيلا للإرتقاء بالإستجابة العربية الى مستوى تحدياته. فهذه الدعوة انطوت، كما يؤكد محمود عبد الفضيل، على استثارة  »…الاهتمام بهموم المستقبل في الضمير العربي في عصر سادت فيه روح السلبية والإستسلام«.

ونفترض أن ادراك نخبة من المثقفين العرب بجدوى نشر ثقافة الانحياز الى المستقبل داخل المجتمعات العربية هو الذي أدى الى استمرار صدور مؤلفات، أو دراسات، أوبحوث عربية مستقبلية إلى الوقت الراهن. فهذه انصرفت إلى التعريف بالجوانب المتعددة للتفكير العلمي في المستقبل، وبضمنها التعريف بمقارباته المنهجية وكيفية توظيفها عمليا. ومثالها مؤلفات وليد عبد الحي وسواه.

وأما عن المؤلفات والدراسات الإستطلاعية ـ المعيارية، فلقد تميزت بخاصيتين: الأولى، أن انجازها قد تم بجهد جماعي مشترك ضمن إطار مؤسسي، وعمد الى استشراف مستقبلات الوطن العربي على الصعيد الكلي. ومنها مثلا مؤلفات: خير الدين حسيب وأخرون المعنون: مستقبل الأمة العربية: التحديات والخيارات، والصادر في عام 1988، وسعد الدين ابراهيم وأخرون المعنون : صور المستقبل العربي، والصادر في عام 1988. أما الخاصية الثانية، فهي تُجسد انصراف مولفات أخرى، اما بجهد منفرد أو مشترك، إلى إستشراف مواضيع، على الصعيد الجزئي )القطاعي(، كمستقبل بعض الدول العربية، أو بعض هياكلها الداخلية، ومثالها مستقبل القرية المصرية.

وبالإضافة الى هذين المستويين الأساسيين من المؤلفات والدراسات العربية المستقبلية، استمر، مثلا، صدور دراسات عربية أفادت عناوينها أنها تبحث في المستقبل، بيد أنها، عمليا، كانت تتحدث عن الماضي اكثر من حديثها عن المستقبل. ومثالها دراسة معن بشور واخرون المعنونة: الواقع العربي وتحديات قرن جديد، والصادرة في عام 1995. ويتقابل هذا النوع من الدراسات العربية مع تتابع نشر مضامين ندوات علمية مهمة في المستقبل العربي ولكن دون أن تحمل عناوينها كلمة المستقبل. ومثالها دراسة السيد ياسين وأخرون المعنونة:الوطن العربي بين قرنيين، والصادرة في عام 2000.

وتفيد المقارنة الكمية بين المؤلفات العربية النظرية ـ التعريفية، والإستشرافية ـ االعملية، ان الغلبة لا زالت للنوع الأول منها. فمنذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى الآن لم يتجاوز عدد المؤلفات العربية ذات المضمون الإستشرافي ـ العملي عن خمسة مؤلفات ولا غير.

ويتزامن عدم ايلاءنا إستشراف المستقبل الأهمية التي يستحقها مع إستمرار الأخذ بأنماط من السلوك العملي تعبرعن نوعية رؤيتنا للمستقبل. وتؤكد ذلك العديد من المعطيات. ومنها الآتي:

أول، بقاء الإستشراف العربي الرسمي للمستقبل مقتصرا على عدد محدود من الدول العربية. فمن مجموع الدول العربية )أثنان وعشرون دولة( فقط عمدت حكومات سبع دول تتحدد حتى الآن في مصر، والمغرب، والاردن، والسودان، والمملكة العربية السعودية، ودولة الامارات العربية المتحدة، والبحرين، وقطر، وسلطنة عمان. إلى الأخذ بمشاريع لإستشراف مستقبلاتها ولأزمنة تمتد الى بضعة عقود قادمة. فبينما يمتد مثلا مشروع مستقبل مصر إلى عام 2020، يمتد مشروع المملكة العربية السعودية والمغرب للمستقبل إلى عام2030. أما مشروع سلطنة عُمان فهو يمتد إلى عام 2040.

ثانيا، ندرة استعانة الحكومات العربية بوزارات تتولى عملية إستشراف مستقبلات بلدانها. وتُعد دولة الامارات العربية المتحدة الدولة العربية الوحيدة التي تتوافر على مثل هذه الوزارة، والتي تسمى بوزارة شؤون مجلس الوزراء والمستقبل. ومثل هذه الندرة تنسحب أيضا على المراكز البحثية الرسمية، التي يفترض أن تُقدم للحكومات العربية الإستشارات والدراسات المستقبلية قبل اتخاذها لقراراتها. وتُعد مصر بمثابة الاستثناء.فهي الدولة العربية الوحيدة، التي يؤدي فيها مركز الدراسات المستقبلية، الذي يرتبط رسميا بمجلس الوزراء المصري، مثل هذه الوظيفة..

ثالثا، ضألة إهتمام جل الجامعات العربية، الرسمية والخاصة، في تعليم طلبتها التفكير العلمي في المستقبل، وكيفية تطبيقه عمليا. فباستثناء جامعات في مصر، والجزائر، والمغرب، والعراق، والاردن، وسوريا، والمملكة العربية السعودية، والكويت لم تزل بقية الجامعات العربية، وهي عديدة، تتجاهل إدخال موضوع المستقبل كمادة دراسية ضمن برامجها الاكاديمية، سواء على صعيد الدراسات الأولية أو العليا.

رابعا، وكما هو الحال مع جل الجامعات العربية، كذلك هو الحال مع جل مراكز البحوث العربية الخاصة التي تجعل من كلمات دراسات و/أوبحوت مستقبلية لصيقة بعناوينها الرسمية. فبغض النظرعن بضعة مراكز، تنحصر في تسعة دول عربية فقط، وتنصرف فعليا إلى الإهتمام بدراسات المستقبلات على الرغم من معاناتها من مشاكل مهمة كضعف التمويل الرسمي وغير الرسمي، ناهيك عن محدودية عدد اصحاب الاختصاص من المستقبليين المحترفيين العرب العاملين فيها، يؤكد ابراهيم العيساوي، أن جل المراكزالأخرى اما  »… معطل لا نشاط له )عمليا(، أو أنه ينشط ولكنه يزاول أنشطة لا تمت بصلة لعنوانه جلبا للموارد… )أو أنه( يحوم حول مجال البحث المستقبلي… )ولكن( دون أن ينتج بحوثا مستقبلية بالمعنى الحقيقي للكلمة…«

خامسا، كذلك نادرة هي الدوريات العربية الجادة والمتخصصة في نشر ما له علاقة بالتفكير العلمي في المستقبل عموما، والعربي خصوصا. وحسب معلوماتنا تتحدد هذه الدوريات في مجلة دراسات مستقبلية التي يصدرها مركز المستقبل في جامعة أسيوط المصرية، وكذلك في مجلة )كتاب( استشراف، التي بدأ المركز العربي للبحوت ودراسات السياسات في الدوحة، قطر، بإصدرها منذ بداية عام 2016. فهذه تُعد أحدث االدوريات العربية ذات العلاقة.

وبجانب هذه الدوريات، هناك اخرى رصينة يحمل عناوينها كلمة المستقبل، ولكنها لا تنصرف الى التخصص به حصريا، ومثالها مجلة المستقبل العربي الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت. كما أن هناك دوريات عربية أخرى، تحمل عناوين متباينة، تعمد إلى نشر مواضيع ذات مضامين مستقبلية. ومثالها مجلة السياسة الدولية الصادرة عن مؤسسة الاهرام في القاهرة.

وعلى الرغم من أن الإهتمام العربي في التفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته العملية، اقترن منذ منتصف عقد السبعينيات من القرن الماضي، ببداية واعدة، الا  أن مخرجاته خلال الزمان اللاحق لهذا العقد لا تستوي ونوعية زخم بداياته. ويعبر، ابراهيم العيساوي، عن هذه المخرجات بقوله إن الإستشراف العربي للمستقبل أضحى  »كاليتيم على مائدة البحث العلمي…)حظه( قليل من العناية )وحظه( أقل من التمويل«.

لذا لا غرابة في ان هذا الواقع لم يساعد على احداث نوع من التغيير في انماط تفكيرنا، نحن العرب، ومن ثّم سلوكنا حيال المستقبل. فالمجتمعات العربية استمرت، قدر تعلق الأمر بموقفها من المستقبل، تحتضن ثلات مجاميع اجتماعية تتبنى ثلاث رؤى متباينة :

فأما عن المجموعة الأولى، فهي تنطلق من رؤية فكرية ـ ثقافية قوامها القياس على ما سبق وليس على ما لم يقع. وبهذا فأنها تدعو الى سحب ما كان من أنماط الحياة الماضية على ما هو كائن وكذاك على ما قد يكون، بمعنى إحلال الماضي بديلا للحاضر والمستقبل. وبهذا الصدد، يقول السيد ياسين :  »… نحن في المجتمع العربي المعاصر قابعون في كهف الماضي نتعبد في محرابه وتخايلنا أشباحه…)والبعض يحاول( إقناعنا بأن الماضي بكل ما دار فيه يصلح لكي يكون مرجعيتنا في الحاضر ويوصلنا للمستقبل«.

ان هذه الرؤية، التي تفضي مخرجاتها الى أن يضحى الحاضروالمستقبل متقوقعا عند الماضي، تؤدي بالتالي إلى أن تكون كابحا لكل نزوع يتطلع الى تشوف المستقبل، خصوصا وأن الواقع العربي يتميز بإنتشار ثقافة تحتكر الحقيقة، وتلغي التجديد، وتنفر من التجريب، وتستريب بالمخالفة، وتقصي الآخر.

وأما عن المجموعة الثانية، فهي تتأسس على رؤية فكرية  ثقافية مختلفة عن الأولى. اذ تجعل من تأمين مستلزمات العيش في الحاضر وتغليب الإهتمام به على سواه، نبراسا لها. ويعبر، مثلا، الكاتب السعودي، عائض بن عبدالله القرني، في كتابه الموسوم: لا تحزن، عن هذه الرؤية بقوله :  »…اترك المستقبل حتى يأتي لا تسأل عن اخباره، ولا تنتظر زحوفه لأنك مشغول باليوم …«.

إن مثل هذه الرؤية تجد أيضا إنتشارا في الشارع العربي. فعندما تسأل أحد المواطنين العرب، هنا وهناك، عن موقفه من المستقبل، فأنه قد يقول بجواب يؤكد أن اهتمامه ينصب على الحاضر أساسا. ومثال ذلك اجابة أحد المصريين على مثل هذا السؤال. اذ قال:  » يا عمي أنت بتكلمني عن بكره )أي عن الغد(، خلينا في النهارده )أي دعنا نبقي في اليوم(«.

وقد ساعد على انتشار هذه الرؤية تاثير مدخلان مهمان: أولهما، تجذر تنشئة اجتماعية خاطئة مفادها أن المستقبل هو قدر محدد سلفا ومن ثّم هو شأن لا تستطيع الإرادة الإنسانية التدخل في كيفية صناعته على وفق ما تريد. أما المدخل الثاني، فهو يفيد بنزوع عربي رسمي استمر يتطلع، في العموم، الى اشغال المجتمع بإشكاليات ثانوية ومتجددة سبيلا لإبعاد اهتماماته عن اشكالياته الإساسية التي استمرت بدورها دون معالجات جذرية حقيقية، ومن ثّم اشغاله بمعطيات واقع حاضره. أن الإدارة بالإزمة هي الصيغة المفضلة لدى جل صناع القرار العرب في تعاملهم مع مجتمعاتهم، وليس الإدارة بالاهداف التي هي السبيل للإرتقاء الحضاري.

ان ما تقدم لم يؤد، اجتماعيا، الى انتشار سمات الإغتراب، واللا مبالاة، واليأس، والإحباط، بين شرائح اجتماعية عربية واسعة فحسب، وأنما أيضا الى تراجع الشعور بالمسؤولية حيال حاجة المجتمع العربي الى الإرتقاء الحضاري. وغني عن القول ان مثل هذا التراجع لا يسهل الأخذ بالتفكير في المستقبل واستشراف مشاهده المحتملة، سيما وأن مثل هذا التفكير يتطلب أصلا توافر الشعور بالمسؤولية حيال الإشكاليات التي يعاني منها المجتمع وأيجاد الحلول الجذرية لها.

ان الإنتشار الواسع لهاتين المجموعتين داخل المجتمعات العربية أفضى الى أن يكون موقفها من كل حديث عن المستقبل وجدوى الإستعداد له، موقفا سلبيا بل وحتى مناهضا. ان الإنحياز العربي الى الماضي و/أو الإنشغال بثقل معطيات الحاضر أفضى في العموم الى أن يستمر اختزال الحاضر في الماضي، واختزال المستقبل في الحاضر، هذا بديلا عن السعي الى نقل التفكير في المستقبل، انطلاقا من الحاضر، الى دائرة العمل الواقعي والجاد.

أما عن المجموعة الثالثة، فهي تعبر عن رؤية نخبة عربية، لا زالت محدودة الإنتشار، تتميز بإنحيازها الى المستقبل، تفكيرا وسلوكا. ويعبر محمد بريش عن غاية توجهاتها بقوله انها ترمي الى دفع الأنسان العربي  »…إلى العدول عن الفرار إلى جهة الماضي إحتماء وأدبارا عن مواجهة الواقع…وإلى إجتناب الميل المطلق جهة المستقبل تمنيا وحلما«.

ويجد هذا التوجه دعما من قبل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عبر الندوات التي تعقدها عن دراسات المستقبلات في الوطن العربي، وكذلك عبر وحدة الدراسات المستقبلية التابعة لها.

و غني عن القول أن عموم الموقف السلبي العربي من المستقبل ليس بمعزل عن تاثير مدخلات ذات تأثيرعميق في الذات العربية. ومقالنا للشهر القادم سيعمد إلى تناول أهمها.

* استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات