الأكاديمية والباحثة اللبنانية الدكتورة منى رسلان: المرأة اللبنانية قدوة في مسار التطور والسعي الإنساني

إنّ الناقد المثقّف، ينظر إلى النص الأدبي بعين القراءة الواعية والموضوعية؛ وما ارتباك الناقد في مواجهة الحالة المرصودة في تجليات النص سوى الدافع الأبلغ على سبر أغوار المعنى والترادف اللفظي، إذ يتحوّل الناقد إلى فاعل إيجابي ومنشّط ثقافي. وفي هذه الحالة ينتقل من الحيرة في مواجهة العبارة التي يجب أن تشهد على تجربة القراءة إلى مُشارك أساسي في فهم النص والتفاعل معه إيجابيًا. هنا نقف على تجربة الدكتورة منى رسلان، الأستاذة في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية والباحثة في النقد الأدبي الحديث والأدب العربي المعاصر والأدب المسرحي والحضارة ومقرر منهجية البحث للماجستير وعضو في اللجنة الوطنية للثقافة والعلم والتربية-اليونسكو.

 الأدب الموريتاني

الحصاد: الباحثة الأكاديمية أستاذة النقد الأدبي والمنهجية في الجامعة اللبنانية الدكتورة منى رسلان، والناشطة في مجال حقوق الإنسان وحقوق المرأة، أنت مثلتِ لبنان واللجنة الوطنية لليونسكو رسميًا في ملتقى “تمكين المرأة المبدعة”، فكانت المشاركة إنسانية وثقافية، ومعرفية في نواكشوط-موريتانيا، خلال العام 2021،  وأنت اليوم عنصر ميسّر في مشروع صون التراث الثقافي غير المادي في اليونسكو. ماذا عن انطباعاتك؟

منى رسلان: أفتخر بتمثيلي للبنان ولليونسكو في “ملتقى تمكين المرأة المبدعة”، وأدعو إلى إقامة ورش أعمال نقديّة أدبية ولغوية لدراسة الأدب الموريتاني.

وجدت نفسي في بلدي، ووجدت كلّ ترحاب مع كل محبة في نواكشوط. لقد انطلقت في زيارة لموريتانيا لتمثيل بلدي لبنان من منطلق التشارك الإنساني والمعرفي والثقافي، لذلك فانطباعاتي هي انطباعات جيدة وإنسانية، كما اكتشفت الكثير من الطاقات، وجمال هذا البلد الذي يمتدّ على المحيط وفي الداخل، وقد رأيت الداخل الموريتاني، كما شاهدت الصحراء والبحر أي المحيط، والترع والمناطق الخضراء في الداخل. إنّ هذه البيئة المتنوعة بجغرافيتها تشيد بتنوع على المستوى الثقافي والمعرفي والإنساني داخل هذا البلد.

 التراث الشعبي الموريتاني

الحصاد: بصفتكم أستاذة مقرري النقد الأدبي المعاصر والمنهجية والحضارة، هل اطّلعتم على نصوص شعرية وأدبية لشعراء وأدباء موريتانيين؟ وما هو تقييمكم للشعر في بلد المليون شاعر؟

منى رسلان: بلاد المليون شاعر هي بلاد جميلة فيها هذا التنوّع العرقي والتنوع الفكري، وأيضًا هي ذات جذور عربية، ومن الواضح جدًا أنهم يتقنون اللغة العربية بشكل جيد وقد حافظوا عليها. وهذه إحدى القيم الأساسية في المجتمعات العربية أن تحافظ على لغتها ولهجتها وعلى تقاليدها وعاداتها، وتنقل تجربتها إلى الشعر والنثر والقصة والمسرح والموسيقى وكل أنواع الفنون والمعارف الإنسانية لنتشارك فيما بيننا.

لفتني هناك بأن التراث الشعبي نقل مشافهةً كما حفظت العرب في الماضي تراثها مشافهة، وعمليًا حافظت على هويتها، يعني أن المجتمع الموريتاني حافظ على هويته وعلى لغته وعلى توجّهاته الفكرية والدينية وعلى الاعتدال. وأيضًا حمل الشعر هذه الخصائص المحبّبة إلى قلب أي مستمع والتي تتحدث عن العواطف والأشجان وسيرورة الحياة الإنسانية بكل فاعلية.

لذلك هذا الإنتاج المعرفي الذي حُفظ مشافهةً، وفيما بعد كُتِب ونُقل، نَقَلَ إلينا الكثير من القيم الإنسانية التي نتشاركها فيما بيننا، لذلك على كل إنسان أن يشجّع كتابة الشعر وأن يعمد إلى كتابة القصة والمسرحية والرواية ولا يخاف من كتابة القصة أو السرد؛ وخصوصًا أننا في مجتمع معولم، فلا ضير بأن نعود إلى الماضي وأن نحفظ الماضي ونحافظ عليه وعلى إرثنا ولهجتنا ولساننا العربي، ولكن في الوقت نفسه نحن مطالبون بأن نعصر تجربتنا لأن العالم يتغير وتجربتنا نحن تتغير، لذلك فمؤسسات الشعر في كل الوطن العربي والمنتديات التي تُعنى أيضًا بالملتقيات، كالملتقى الذي كنت فيه والملتقيات الأدبية، هي ضرورة ملحّة لنتعرف إلى باحثين مجدّدين أو باحثين جدد، لدراسة أدبنا (شعرًا ونثرًا)، لغةً واشتقاقًا.

أنا دائمًا أشدّد على مشاركة العنصر الشبابي في كل المنتديات والملتقيات، ليس فقط بالحضور ولكن بالمشاركة الفاعلة وأن يستعرض أمام المنتدبين أو الحاضرين شعره وإنتاجه الفكري، ولا ضير في ذلك إطلاقًا، هذا شيء محفّز وجميل… لذا نحن ندعم إقامة منتديات معمّقة تدرس بشكل جيد الإنتاج الفكري والمعرفي للأدباء والشعراء الموريتانيين.

أتركها تسير داخل السرد

الحصاد:  إن الشاعر بخطورة الانتساب بصدق للقصيدة، يجعله يتهيب للسفر في مجهولها. هل تعابيرك أو صورك الشعرية تمتحن أفكارك أو مشاعرك، أم أنّ المشاعر تستل من أفكارك صورًا لتجليها؟

منى رسلان: عندما أكتب خاطرة شعرية أو نصًا شعريًا، تأخذني اللحظة في متاهة الفكرة التي تتشعّب إلى أفكار. غير أنني أكتبُ، ثم أتركُ النص، لأعود إليه لاحقًا.

قد أُغيّر في التشكّل الكلي للنص، وقد أُعيد تركيب مشهدياته مع محافظتي على صورتي الشعرية كما وردت إلى ذهني بادئ ذي بدء. وأحيانًا أُهمل نصي الشعري لسنة أو أكثر، ريثما تعتمل الشجون في نفسي، ويتبلور الكيان الكلي لقصيدتي. فمشاعري العميقة تأخذني إلى فضاءات تعبيرية جديدة، أحيانًا تأتي بعفويتها فأتركها تسير في رحاب من تواتر العلاقات داخل السرد أو المروي الشعري. فقصيدتي لوحة بتعابيرها وتصاويرها، وألوانها، تأخُذ مداها التعبيري من المجاز المُرسل والتشابيه وعلم البديع والبيان. وأحيانًا قد يتدخّل فكري النقدي ليقيّم هذه الفكرة هنا وهذه العبارة هناك، فأختار المعاني والمرادفات والتأويلات، بما يستهدف خلق بيئة حاضنة وجميلة للفكرة الأُم التي انطلقت من شغاف قلبي ومشاعري. هنا يمارس نقدي الأدبي وذائقتي الفنيّة دورهما، وتكون مشاعري المُسيطرة على النص. كل قصيدة تنبع من فكرة أو ومضة شعور، وتأخذ مداها كي تنضج وتتبلور في ذاتي، لتتوحّد في ذات المُتلقًي.

الشعر أنشودة

الحصاد: هل تؤمنين بأن الشعر قادر على تغيير العالم إلى ما هو أنقى وأصفى في ظل السلم والسلام بعيدًا عن الحروب وقتل الأبرياء والشيوخ والنساء والأطفال؟

منى رسلان: أؤمن إيمانًا بالغًا بأن الشعر يستطيع أن يُغيّر مصير الإنسانية جمعاء، فالشعر أنشودة هذا الوجود، منه ينبثق وفيه يتوحّد. وبالشعر ينمو الإنسان ويتحسّس مشاعره أو قد يكتشفها، كما أنه يتلاقى بالهم والفرح الإنسانيين مع نفسه والآخرين.

المرأة اللبنانية

الحصاد: المرأة اللبنانية تقلّدت العديد من المناصب الهامة في الحكومة. هل تمكّنت فعلًا المرأة اللبنانية والعربية من حرية وإظهار الإبداع ومواجهة سلطة المرجعيات التقليدية؟

منى رسلان: تتقلّد المرأة اللبنانية مراكز متقدّمة في الحياة الأكاديمية والثقافية والنيابية والقضائية والعسكرية والفنية والتربوية والإعلامية والإعلانية، وفي المؤسسات المالية ومراكز الأبحاث، وفي القطاع الطبي والقانوني والتكنولوجي والهندسة والآداب، وفي مسيرات النضال لحقوق الإنسان والعدل وحُكم القانون، وسواها الكثير… وضمن المؤسسات الإنسانية وتلك التي تُعنى بالأطفال المصابين بالسرطان أو التوحّد أو التلاسيميا وغيرها، وتنال جوائز عالمية.

لقد أثبتت المرأة اللبنانية كفاءة عالية في حلّ النزاعات بسلمية أيضًا… حتى إنّها تنال مراكز متقدمة وتتفوّق في المراكز والمحافل الدولية. لقد استطاعت المرأة اللبنانية أن تتبوّأ مراكز سياسية وحزبية وأمنية وقضائية وعدلية؛ استطاعت أن تكون رائدة في أعمالها، وفي الرياضة وفي إنشاء المؤسسات المالية والصحف الإلكترونية والبيزنس؛ حتى في أسوأ الظروف تبقى الطبيبة والممرّضة والحاضنة والأستاذة والمربّية والعاملة في الحقل الزراعي والإنتاجي، وفي الأزياء والرسم والنحت والموسيقى و…..الخ. المرأة اللبنانية مثال وأنموذج للاجتهاد والريادة. إنها قدوة في مسار التطوّر والسعي الإنساني.

فلسطين حاضرة

الحصاد: لقد قلتِ: “إن ارتباط الإنسان العربي بالأرض والقضية الفلسطينية هي مسألة وجود إنساني وحق لتقرير المصير”، هل برأيك الأدب نقل الصورة الحقيقية للمعاناة الفلسطينية، وهل أثّر على العالم؟

منى رسلان: رسّخ الأدب شعرًا ونثرًا والفنون الجميلة والرسم والنحت والفلكلور الفلسطيني، إلى جانب فن الخطابة، ناهيك عن الغناء والموسيقى، وجود فلسطين في ذاكرة الأمم والشعوب وفي أفئدة العرب واللبنانيين. فلسطين حاضرة في أنفسنا في كل حين، وللشعب الفلسطيني حقّه في تقرير مصيره وحقّه في أرضه، وسيعود على الرغم من التزوير والتهجير.

قضية فلسطين قضية وجود وحقّ إنساني وتاريخي وثقافي لشعب يناضل في كل لحظة لتحقيق هذا الوجود وتفعيل هذا الحضور الغني إنسانيًا ونضاليًا وشهادةً وصيرورةً كيانية.

نقد النقد

الحصاد: بصفتك أستاذة  مقرري النقد والمنهجية. هل النقد لقي نصيبه من الاهتمام على المستوى الأدبي في المشهد الثقافي العربي؟

منى رسلان: انطلاقًا من تجربتي الثقافية والأكاديمية في النقد الأدبي، وكأستاذة النقد الأدبي المعاصر والمنهجية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية، أشيد بكل المحاولات النقدية والتجارب النقدية لنقّاد نجباء، مما مارسوا فعل النقد ودرّسوا النظريات النقدية في الفكر النقدي العربي والغربي، وصولًا إلى نقد النقد والنقد الثقافي، لتحقيق نقلة نوعية بحثية وأكاديمية ونقدية في قراءة الأدب العربي والعالمي والحضارة برؤى متجددة؛ وإن اختلفت التجارب والآراء حول مدى جديتها أو جدّتها أو ممارسة للتقليد.

التجربة الإنسانية

الحصاد: ما رأيك بالمشهد الثقافي اللبناني الآن؟

منى رسلان: وعليه فإنّ المشهد الثقافي العربي يتطوّر ويتفاعل باحتضانه للتجارب الإنسانية والمجتمعية عبر فاعليتي المثاقفة والتجربة الإنسانية، ولكل ما يطرأ على ساحة المشهد التواصلي الاجتماعي والتكنولوجيا وانعكاسها على حياة الإنسان العربي وعلى الحياة الثقافية للمواطن اللبناني والعربي.

النقد يشغل بال القارئ

الحصاد: ما الذي يصنعه الناقد الجيد؟

منى رسلان: الناقد الجيّد يكون منشطًا ثقافيًا، يبحث في متن النص عن اللحظة والومضة وبريق الكلمات والتصاوير، والمشهديات الأخّاذة، يبحث عن الألق والجمالية في النصوص  ليدفع بالنص باتجاه المتلقين.

الناقد الجيد هو مُحفِّز ثقافي، يمتهن الجمال واستخراج الجماليات التعبيرية والتصويرية واللمحة والومضة الساحرة في النص، ويشغل بال القارئ في التنقُّل بين العبارات والعلاقات المتواترة داخل النص، بفرح. الناقد الفاعل، والجيد، يشغله النص عمّن سواه، فسحر الكلمات يشغله استقراءً للنص و بحثًا في المضمون، لتفعيل وتحفيز الذائقة الأدبية لدى القرّاء. الناقد الأدبي الجيد، يتثاقف مع النص، ولا يلعب دور الشرطي الأدبي مُحاكمًا النص وصاحبه، لا بل يشرِّح النص باسطًا أمام المتلقين، الجمال والكمال وسحر الترادف والتآلف والتعارض ما بين المبنى والمعنى، ليكون شريكًا تفاعليًا ومُحفّزًا في إعادة إنتاج الأدب.

مضمارها الثقافي

الحصاد: لقد ساهمتِ في إنشاء “شبكة المبدعات العرب”، ما أهداف هذه الشبكة وهل لقيت الحضور المناسب والجدوى منها؟

منى رسلان: تم إطلاق “شبكة المبدعات العرب” برعاية عربية كريمة. وبصفتي عضوًا مؤسسًا في الشبكة، أتمنى أن يُصار إلى تفعيل عمل الشبكة واحتضان أعضائها، لما تشكّله النساء المثقفات والمتمايزات من قيمة إنسانية، كل واحدة منهن في مضمارها الثقافي والعملي والأكاديمي والاجتماعي والصحفي.

النقد المحافظ

الحصاد: ما المشهد النقدي اليوم؟

منى رسلان: الاهتمام بالنقد الأدبي يتزايد يومًا بعد يوم، فهناك تجارب مثمرة لنقّاد متمايزين تركوا بصمتهم في دنيا الأدب والنقد، ففي أواسط القرن التاسع عشر، اتجه النقد المحافظ اتجاهين: أحدهما تقليدي صرف في تقليده كأنه صورة لما كان عليه في أوائل القرن الماضي، وثانيهما محافظ ومجدّد. أذكر من النقّاد: شاكر شقير وعيسى اسكندر المعلوف، رشيد الدحداح وبطرس كرامة، إبراهيم اليازجي، الأمير شكيب أرسلان، داوود عمون، نجيب الحداد، سعيد الشرتوني وحليم دموس. و من النقّاد المُعاصرين، الدكتور عبد الله الغذامي في النقد الثقافي، والعلاّمة الدكتور وجيه فانوس في النقد الأدبي المعاصر والمُثاقفة، مقارعًا الجمال والكمال في النصوص الأدبية العربية والأجنبية.