السخرية في الشعر العربي

السُّخْرِيَّةُ الاسْتِهْزاءُ والاِحْتِقارُ؛ ويقال سَخِرْتُ مِنه أَسْخَرُ سَخَراً وَمَسْخَراً وسُخْراً، أي اسْتَهْزَأْتُ به، والسُّخْرِيّ الرَّجُلُ الذي يُسْتَهْزَأُ بِهِ. وتأتي السُّخْرِيَّةُ بِمعنى الاسْتِهانَةِ بِالغَيْرِ؛ يُقال سَخِرَ مِنه إذا اسْتَهانَ بِهِ. وأَصْلُها التَّذَلُّلُ والانْقِيادُ. ومنه سُمِّيَ الاسْتِهْزاءُ سُخْرِيَةً؛ لأنّ فيه إِذْلالاً. ومِن مَعانِيها أيضاً الهَزْلُ والضَّحِكُ.

وفي الاصطلاح إن السخرية هي التنقّص والاستهزاء واحتقار المرء غيره والاستخفاف به وإسقاطه.

ولا تكون السخرية للمستهزء به إلّا من ضعف أو صغر أو علّة حادثة أو رزيّة أو عمل يتنقّص به منه.

ولقد ذمّ القرآن الكريم الاستهزاء والسخرية بالآخرين في مواضع كثيرة؛ منه كما في سورة الهمزة، حيث قال تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) وهو لم يقصر الويل على الكلام  دون الإشارة كتحريك اليد قرب الرأس للوصف أو تحريك العين للاستخفاف. كما نراه أيضا يحذر ويتوعد من يلمز أيضا سواء باسم لا يليق أو عاهة أو مرض أو صفة محتقرة وغير ذلك.

ويبيّن الله تعالى أن من يسخر سوف يجابه بنفس السخرية حتما ولو طال الزمن، يقول تعالى (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ). وكذا في قوله (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون).

من أجل ذلك، نجد أن المنظومة الالهية تدعو إلى العدالة واحترام الناس بعضهم بعضا وأن لا ينتقص أحدهم الآخر لأي سبب كان. وهذا ما دأبت عليه السنّة المحمدية التي رفدتنا بمجموعة لا بأس بها من الأحاديث تذمّ الساخرين والمستهزئين وتتوعدهم بالعقاب والويل؛ منها قوله (صلى الله عليه وآله) (المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ.. بحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ؛ دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ).

فالسخرية منقصة عند المرء لا محمدة فيها؛ وهو ما شاع في العرف أيضا. وقد عرف عن العرب اهتمامهم بموضوعات شتى في الشعر بينها السخرية. وأن لكل سخرية شعرية أسبابها ومضامينها وخلفياتها.

ومن بديه القول إن من السخرية والاستهزاء في الشعر ما يجري مجرى الفن واللطيفة وربما النادرة والحكاية المسليّة. إلّا أنّ شطرا منه قد يأتي على سبيل التنقّص والهجاء والقصد.

وقد نقلت لنا كتب الأدب كيف كان بعض الشعراء يتناظرون فيما بينهم حتى يصلوا لحد السخرية ببعضم البعض. وهو مثال حيّ قائم في الشعر العربي منذ زمن بعيد ولا يقتصر على عصر دون آخر.

ومن أروع الأمثلة على السخرية في الشعر العربي الذي لا يهدف الى التسقيط أو الخصومة، ما كان بين جرير والفرزدق من مناظرات شعرية وأدبية خلدتها كتب الأدب وكانت مثالا على موضوعية هذا النوع من الشعر، وأقوى دليل على ذلك رثاء جرير المرّ للفرزدق بعد موته في قصيدة قال فيها:

لَعَمري لَقَد أَشجى تَميماً وَهَدَّها

عَلى نَكَباتِ الدَهرِ مَوتُ الفَرَزدَقِ

عَشِيَّةَ راحوا لِلفِراقِ بِنَعشِهِ

إِلى جَدَثٍ في هُوَّةِ الأَرضِ مُعمَقِ

لَقَد غادَروا في اللَحدِ مَن كانَ يَنتَمي

إِلى كُلِّ نَجمٍ في السَماءِ مُحَلِّقِ

ثَوى حامِلُ الأَثقالِ عَن كُلِّ مُغرَمٍ

وَدامِغُ شَيطانِ الغَشومِ السَمَلَّقِ

عِمادُ تَميمٍ كُلِّها وَلِسانُها

وَناطِقُها البَذّاخُ في كُلِّ مَنطِقِ

الى ان يقول:

لِتَبكِ عَلَيهِ الإِنسُ وَالجِنُّ إِذ ثَوى

فَتى مُضَرٍ في كُلِّ غَربٍ وَمَشرِقِ

فَتىً عاشَ يَبني المَجدَ تِسعينَ حِجَّةً

وَكانَ إِلى الخَيراتِ وَالمَجدِ يَرتَقي

وأن الذي يقرأ هذه القصيدة ليتفاجأ حينما يمرّ على ما كان يجري بينهما من مناظرات تصل الى حد السماجة. ومنها قولهما:

الفرزدق لجرير:

أولئك آبائى فجئني بمثلهـــم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

جرير رادا عليه:

قوم إذا حضر الملوك وفودهـم

نتفت شــواربهم على الأبواب

لكن سيرتهما كان فيها من اللطائف الكثير ما يدل على صحبتهما ومنها خروجهما ذات يوم على ناقة واحدة متوجّهين إلى هشام بن عبد الملك. وفي الطريق نزل جرير لقضاء حاجة، فصارت الناقة تُكثِر من التلفّت، فضربها الفرزدق عند ذلك وأنشد قائلًا:

إلام تلفَّتين وأنتِ تحتي

وخيرُ الناس كلِّهم أمامي

متى تردي الرصافةَ تستريحي

من التهجير والدبرِ الدوامي

ثمَّ قال بينه وبين نفسه، إذا جاء جرير سأُنشده هذين البيتين، وسيردُّ عليًّ بقوله:

تلفَّت أنَّها تحت ابن قينٍ

إلى الكيرينِ والفاس الكهامِ

متى تردِ الرصافة تخزَ فيها

كخِزيك في المواسم كلَّ عام

فعندما رجعَ جرير وجدَ الفرزدق يضحك، فسأله: ما الذي يُضحكك يا أبا فراس؟ فقرأ عليه الفرزدق البيتين الأولين، فأجابه جرير بالبيتين الآخرين نفسهما، فقال له الفرزدق: والله لقد قلتُ هذا، فأجابه جرير: أمَّا علمتَ أنَّ شيطاننا واحد يا أبا فراس.

وعلى هذا نفهم واقعية السخرية أو لنقل شطر منها في الشعر العربي آنذاك والتي تنم عن مباراة لكسب الفوز في اللغة والوصف والصورة.

وهذا بالطبع ليس شأن السخرية في الشعر العربي بشكل عام؛ إذ ان هناك من الأمثلة ما ييبن أن بعض السخرية هدف للشاعر من أجل المنقصة والتعرّض. ومنها سخرية أبي الطيّب المتنبي من كافور الإخشيدي وهي قصيدة مليئة بالصور والألفاظ القاسية حيث قال:

لا تشتري العبد إلا والعصا معه

إنّ العبيد لأنجــاس مناكــيد

نامت نواطير مصر عن ثعالبها

وقد بشمن وما تفنى العناقيد

لا يقبض الموت نفسا من نفوسهم

إلا وفي يده من نتنها عود

من علّم الأسود المخصيّ مكرمة

أقومه البيض أم آباؤه السود؟

أم أذنه في يد النخاس دامية

أم قدره وهو بالفلسين مردود؟

ومن موضوعات السخرية أيضا العادات والأعراف كما في قضية الوقوف على الأطلال الذي كانت القصيدة تفتتح به؛ الأمر الذي جعل أبا نؤاس يثور عليه ويسخر منه في قصيدة قال فيها:

قُل لِمَن يَبكي عَلى رَسمٍ دَرَس

واقِفاً ما ضَرَّ لَو كانَ جَلَس

اِترُكِ الرَبعَ وَسَلمى جانِباً

وَاِصطَبِح كَرخِيَّةً مِثلَ القَبَس

بِنتُ دَهرٍ هُجِرَت في دَنِّها

وَرَمَت كُلَّ قَذاةٍ وَدَنَس

كَدَمِ الجَوفِ إِذا ما ذاقَها

شارِبٌ قَطَّبَ مِنها وَعَبَس

أما الفرق بين الهجاء والسخرية فالهجاء طريق مباشر في الهجوم على الخصم والسخرية هجوم غير مباشر. لكن كلاهما يشتركان في التركيب والألفاظ والصور غير أنهما يختلفان في الهدف؛ فرب قصيدة سخرية استعملت ألفاظاً تقلب المعنى عكس ما يقصده المتكلم حقيقة بهدف الفكاهة أو التعرض للسلوك الأعوج لتقويمه. أو ربما كانت تهكما مريرا وتندرا أو هجاء يضم أروع صور البلاغة.

ومن أشهر أساليب السخرية في الشعر التعرّض؛ ومنه قول منصور الأصفهاني:

وجه المغيرة كلّه أنف

موف عليه كأنه سقف

رجل كوجه البغل تبصره

من أجل ذاك أمامه خلف

حصن له من كل نائبة

وعلى بنيه بعده وقف

والتهكم الذي ظاهره الهزل وباطنه الجدّ. ومنه قول ابن الرومي:

فيا له من عمل طالح

يرفعه الله إلى أسفل

أو قول أحدهم:

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة

ومن إساءة أهل السوء إحساناً

وإننا إذ نذكر السخرية في الشعر العربي مستشهدين بأمثلة لشعراء قدماء، لا بد لنا أن نعترف بأن السخرية في الشعر الحديث كان لها صدى كبير وقد غلّف الكثير من القصائد بالتورية لمهاجمتها الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة التي عانت منها الشعوب العربية. وأن خير ما نستشهد به في هذا الباب الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري الذي قال في قصيدة ساخرة له:

نامي جياعَ الشَّعْبِ نامي

حَرَسَتْكِ آلِهة ُالطَّعامِ

نامي فإنْ لم تشبَعِي

مِنْ يَقْظةٍ فمِنَ المنامِ

نامي على زُبَدِ الوعود

يُدَافُ في عَسَل ِ الكلامِ

نامي تَزُرْكِ عرائسُ الأحلامِ

في جُنْحِ الظلامِ

تَتَنَوَّري قُرْصَ الرغيفِ

كَدَوْرةِ البدرِ التمامِ

وَتَرَيْ زرائِبَكِ الفِساحَ

مُبَلَّطَاتٍ بالرُّخَامِ

نامي تَصِحّي نِعْمَ نَوْمُ

المرءِ في الكُرَبِ الجِسَامِ

نامي على حُمَةِ القَنَا

نامي على حَدِّ الحُسَام

نامي إلى يَوْمِ النشورِ

ويومَ يُؤْذَنُ بالقِيَامِ

ولا ننسى الشاعر الكبير أحمد مطر الذي ربما يكون رائد الشعر الساخر في زمننا هذا لشدة ما عرف به من قصائد ساخرة ذات مضامين قوية ومؤثرة:

ومن أمثلة السخرية بشعر أحمد مطر قوله في قصيدة له:

زار الرئيس المؤتمن

بعض ولايات الوطن ..

وحين زار حيّنا قال لنا :

هاتوا شكاواكم بصدق في العلن

ولا تخافوا أحدا فقد مضى ذاك الزمن

فقال صاحبي حسن:

يا سيدي

أين الرغيف واللبن؟

وأين تأمين السكن؟

وأين توفير المهن؟

وأين من يوفّر الدواء للفقير دونما ثمن؟

يا سيدي لم نر من ذلك شيئا أبدا

قال الرئيس في حزن:

أحرق ربّي جسدي

أكلّ هذا حاصل في بلدي؟

شكرا على صدقك في تنبيهنا يا ولدي

سوف ترى الخير غدا

وبعد عام زارنا ومرة ثانية قال لنا:

هاتوا شكاواكم بصدق في العلن

ولاتخافوا أحدا فقد مضى ذاك الزمن..

لم يشتك الناس فقمت معلنا :

أين الرغيف واللبن؟

وأين تأمين السكن؟

وأين توفير المهن؟

وأين من يوفّر الدواء للفقير دونما ثمن؟

معذره يا سيدي …وأين صاحبي (حسن)؟

لا نبالغ لو قلنا إن السخرية كموضوع من موضوعات الشعر هي أقوى مضامينه وأدلّها على تفرّده كونها تستعمل طاقات الشعراء الذهنية واللفظية والنفسية ولا تقتصر على حاسة دون أخرى، فتظهر الذائقة الشعرية متجانسة مع الصورة بسياق هدفها فتصبح في النهاية منظومة متكاملة لا نجد لها نظيرا في موضوعات الشعر العربي. فلو قرأنا مثلا قصيدة في الوصف أو الغزل لعلمنا أننا نتعامل مع الروح والنفس ولو قرأنا قصيدة في الرثاء لعرفنا أننا نتعامل مع المشاعر وإذا قرأنا قصيدة في المدح لعلمنا أننا نتعامل مع الألفاظ. إلّا ان قصائد السخرية تشمل هذا كله؛ وهو ما يجعلها مؤثرة أكثر من غيرها.

إلا أن المحزن في الأمر أن الشعراء المعاصرين يلجأون إلى الرموز والتورية كثيرا في قصائدهم الساخرة. ويبدو أن هذا بدأ ينحسر قليلا.