الانتخابات المُبكرة وغموض المستقبل العراقي

دور السيستاني وبلاسخارت في الانتخابات

ثورة تشرين أكتوبر وغموض موقع ناشطيها في البرلمان المقبل 

د.ماجد السامرائي

كان من بين أهم مطالب ثوار تشرين ” أكتوبر ” إجراء انتخابات مبكرة في العراق , لم يكن هذا المطلب استعراضياً لمجرد إضافة عبارة ” مبكرة ” على الانتخابات المعتادة دورياً , لكنه كان جزءاً من مطالب سياسية تبلورت من بينها إجبار رئيس الوزراء عادل عبد المهدي على الاستقالة عام 2019  بعد أن قدمت الثورة الشابة الجديدة أكثر من ثمانية آلاف شهيد خلال أشهر قليلة قتلتهم المليشيات المسلحة الموالية لطهران دون أن يسمع الرأي العام العراقي والعربي أنه تم القاء القبض على واحد من أولئك القتلة لسبب بسيط هو إن هؤلاء أدوات ومنفذون لأوامر وقرارات سياسية عليا لجهات مرتبطة بالخارج .

  جاء مصطفى الكاظمي لرئاسة الوزارة ليس بخيار التسمية الشخصية من قبل ثوار تشرين أكتوبر لكن الأحزاب الشيعية اضطرت لاختياره من خارجها حتى وإن كان من موالي سلطتها فقد عمل مديراً للمخابرات العراقية وهو موقع مهم تم تعيينه فيه من قبل رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي ليس بسبب مهنته في هذا الجهاز وإنما لولائه السياسي للنظام السياسي القائم , فهو صحفي كان معارضاً لنظام صدام قبل عام 2003 اشتغل في مشروع الذاكرة العراقية لتوثيق انتهاكات نظام صدام الذي أداره منذ عام 1992 المعارض الكاتب كنعان مكية مع جهات أمريكية بحثية واستخبارية .

كان من الطبيعي أن يضع الكاظمي في أولى أولوياته تلبية مطلب الثوار في الانتخابات المبكرة    

وجعلها ضمن منهاجه الوزاري بعد تكليفه بالوزارة ورضخت الأحزاب لهذا المطلب وايدته في البرلمان لكنها وجدت في الانتخابات المبكرة مجالاً جديداً للالتفاف على الجمهور العراقي اليائس منها , وكان من الطبيعي أن يرتبط بتحديد تاريخ تلك الانتخابات وهو السادس من حزيران يونيو 2021 مسألة القانون الانتخابي الذي كانت قد إزاحته إحدى مطالب الثورة الشعبية . اشتغل البرلمان بعجالة على تشريع ذلك القانون على أساس الانتخاب الفردي وتوزيع العراق الى مناطق انتخابية وليس  وحدة انتخابية واحدة .وتم تشكيل المفوضية العليا للانتخابات قيل غنها مستقلة لكن الواقع ليس كذلك . هناك مسالة فنية تتعلق بعدم اكتمال نصاب أعضاء المحكمة الاتحادية التي تعتبر أعلى هيئة قانونية في البلاد ومن مهامها المصادقة على نتائج الانتخابات وهذا يتطلب إعادة بناء هذه الهيئة بقانون جديد ما زال عرضة للصفقات داخل البرلمان الذي ينبغي أن يحل نفسه قل شهرين من موعد الانتخابات .

المناخ الذي أوجدته ثورة تشرين أكتوبر أواخر عام 2019 وعام 2020  أصبح ليس لصالح الأحزاب المتورطة بالفساد والتبعية الخارجية مما وضعها أمام تحدّي مصيري للحفاظ على وجودها وعدم السماح لتداعيات الثورة تقنين بدائل جديدة للعملية السياسية بشخصيات سياسية وطنية غير متورطة بالفساد والقتل . خلال وقت قصير انبرى التيار الصدري لكي يصبح زعيمه هو الناطق باسم الحراك لا يسمح لغيره أن يتصدر المشهد الثوري الجديد لكونه يمتلك وسطاً جماهيرياً واسعاً من المحرومين في بغداد والمحافظات الجنوبية حيث أصبحت الناصرية بعد البصرة من المناطق الملتهبة الى جانب كربلاء والمحافظات الأخرى .وحصلت صدامات بين أنصاره وشباب الانتفاضة خلفت ضحايا خلال الشهور الأخيرة .

اتجهت الأنظار على النخب الناشطة في ثورة تشرين أكتوبر من قبل الأحزاب والمليشيات الموالية لإيران بتوافق مع قائد التيار الصدري بشن حملة مركبة ضدهم ذات رسائل لوجستية وسياسية متعددة الاتجاهات , كان الهدف هو الإساءة لسمعة الثوار واتهامهم ” بالجوكرية ” أي العملاء للسفارات كونهم رفعوا شعارات ” إيران برة برة  ولا للنفوذين الأمريكي والإيراني في العراق ”  وحصلت صدامات دموية كان الثوار فيها عُزّلاً من السلاح لأن انتفاضتهم سلمية لكن أدوات القتل كانت بأيدي جهات متعددة تورطت فيها الأجهزة الأمنية والعسكرية الحكومية خصوصاً في الناصرية .

هذا المناخ العنفي لم يمنع بقاء مطلب تحقيق الانتخابات المبكرة وتعزيزه بالإجراءات الفنية التي أقرها البرلمان العراقي قائماً وملحاً مثل تشكيل مفوضية جديدة وقانون الانتخابات . لكن الأحزاب لم تكن متحمسة لقيام انتخابات بالسرعة الزمنية التي أعلن عنها الكاظمي بسبب عد م جاهزيتها , رغم إن المال السياسي والسلاح بأيديها . لهذا تم الاشتغال على تأجيلها الى الموعد الذي أعلن لاحقاً وهو العاشر من شهر أكتوبر تشرين الأول من هذا العام .  رغم إن بعض الجهات الأوسع نفوذا وتمكّنا من السلطة والأكثر استفادة من الوضع الحالي تتمنى عدم اجراء انتخابات قبل الموعد التقليدي  عام 2022 .

الخارطة السياسية للانتخابات

تسابق الأحزاب السياسية الزمن استعدادا لخوض ماراثون انتخابي محموم في العاشر من أكتوبر المقبل.يتوّزع الرهان بين قوى جديدة طامحة للتغيير واستثمار حالة الغضب الشعبي العارم من سوء الأوضاع وبين قوى قادت تجربة الحكم طيلة الثماني عشر سنة الماضية أو شاركت فيها بدرجة أو بأخرى وتطمح لمواصلة القبض على زمام السلطة حفاظا على مكانتها ومكاسبها.أعطت ثورة تشرين أكتوبر مؤشّرا قويا على رغبة العراقيين في التغيير، وأنّهم يستطيعون القيام بذلك في حال أجريت انتخابات نزيهة وشفّافة بعيدا عن تأثيرات المال السياسي وسلاح الميليشيات.

أعلنت مفوضية الانتخابات العراقية لحد كتابة هذه المقالة عن  مشاركة سبعة وعشرين تحالفا في الانتخابات تضم مئتين وخمسة وثلاثين حزبا سياسيا من بينها سبعة على الأقلّ تقدّم نفسها كممثلة للحراك الشعبي الى جانب تلك القوى تظل التحالفات الشيعية صاحبة الأغلبية في البرلمان الحالي بواقع 187 مقعدا من أصل 329 على رأس المتنافسين في انتخابات أكتوبر القادم. تمتلك تلك التحالفات موالين في بغداد ومحافظات جنوب البلاد، وأبرزها تحالف سائرون الذي يشغل 54 مقعدا ويضمّ أحزابا أبرزها التيار الصدري الساعي للحصول على رئاسة الوزراء وتشكيل الحكومة القادمة وفق تصريح سابق لزعيم التحالف مقتدى الصدر.

أما تحالف الفتح الذي يشغل 47 مقعدا نيابيا فيضمّ 17 كيانا بين أحزاب ومنظمات وتجمعات غالبيتها مكونة من فصائل الحشد الشعبي الموالية لإيران. ولم يعلن التحالف السعي للحصول على رئاسة الوزراء لكنّ مناهضين له يخشون استغلاله قوات الحشد التي وقع إدماجها بشكل صوري في القوات المسلّحة لتحقيق مكاسب انتخابية بطرق غير مشروعة.ويأتي تحالف النصر بمقاعده 42 ثالثا في ترتيب أكبر التكتلات. ويقوده رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي ويتشكل من أربع كتل سياسية شيعية ذات ثقل سياسي وانتخابي ضعيف، وهي حزب الفضيلة وتيار الإصلاح برئاسة رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري ومستقلون بزعامة وزير النفط الأسبق حسين الشهرستاني والمجلس الأعلى الإسلامي بزعامة همام حمودي.

ورابع التكتلات الحزبية الكبيرة هو تحالف دولة القانون بستة وعشرين مقعدا في البرلمان الحالي ويقوده رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي الذي لا يكاد ييأس من الحصول مجددا على رئاسة الوزراء وتشكيل الحكومة وفق تصريحات له والذي يعد الخصم الشيعي الأبرز لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر. يعتبر التحالف محافظات وسط وجنوب العراق خزانه الانتخابي إلاّ أنّ سكان تلك المحافظات أظهروا خلال انتفاضتهم غير المسبوقة التي تفجّرت في أكتوبر 2019 غضبا شديدا من الأحزاب التي حكمت البلاد منذ 2003 وقاموا بإحراق عدد من مقرّاتها داخل مدنهم.

بالنسبة إلى الكثير من العراقيين فإنّ للمالكي الذي قاد الحكومة لفترتين متتاليتين بين سنتي 2006 و2014 مسؤولية مباشرة في تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية وفي شيوع الفساد وتغلغله في مفاصل الدولة. ويظل من أكثر المحطّات قتامة في مسيرته بالحكم انتهاء ولايته الثانية بسيطرة تنظيم داعش على ثلث مساحة العراق وتهديده عاصمتها بغداد.

واعتبرت تلك الكارثة التي أدخلت العراق في حرب دامية ومكلفة بشريا وماديا نتيجة مباشرة للدمار الذي أحدثه زعيم دولة القانون في مؤسسات الدولة العراقية بما في ذلك المؤسسة الأمنية والعسكرية التي تغلغلت فيها الاعتبارات الطائفية وابتعدت عن المهنية في اختيار كبار قادتها كما تسرّب إليها فساد كبير حتّى أن عدد المنتسبين إليها بشكل صوري لمجرّد تقاضي الرواتب دون مشاركة فعلية في الخدمة والذين يصطلح عليهم محليا بـ?الفضائيين?، تجاوز في عهد رئيس الوزراء الأسبق الخمسين ألفا وفقا لبعض التقديرات.

أما تحالف تيار الحكمة الذي يتزعمه عمّار الحكيم المنشقّ عن المجلس الأعلى الإسلامي وصاحب التسعة عشر مقعدا في البرلمان الحالي فيسعى إلى تعويض الخسارة النيابية التي لحقت به في انتخابات 2018 بعد أن كان عدد مقاعده ثلاثين مقعدا في انتخابات 2014.

تأتي التحالفات والكتل السُنية في أدنى ترتيب القوى المنافسة على مقاعد البرلمان وبالتالي على مواقع السلطة بسبب هيمنة الاحزاب الشيعية على تجربة الحكم منذ عام 2003 واشتركت كلّ من الولايات المتّحدة الأميركية وإيران في وضع أسسها وتحديد معالمها , وأيضا بسبب كثرة الانقسامات داخل القوى السياسية السنّية وصراعات الزعامة بين قياداتها.وعقب أقل من عام على انتخابات 2018 التي حصل فيها التحالف السُني المعروف باسم المحور الوطني بزعامة رئيس البرلمان الحالي محمد الحلبوسي على خمسين  مقعدا بمجلس النواب تفجرت الخلافات بين قياداته على زعامة التحالف وخرج من رحم التحالف السُني المنقسم ثلاثة تحالفات وكتل أبرزها ?المحور? بزعامة خميس الخنجر و?القوى العراقية? بزعامة محمد الحلبوسي، و?جبهة الإنقاذ? بزعامة أسامة النجيفي، وجميعها تسعى لخوض الانتخابات البرلمانية المقبلة بذات الطموحات السابقة وهي المشاركة بشكل ثانوي في السلطة والتمتّع بما تمنحه من امتيازات من دون تأثير واضح في رسم معالم سياسات النظام وتحديد خياراته.

أمّا الأحزاب الكردية فقد خاضت الانتخابات الماضية بقائمتين هما السلام الكردستانية والقائمة الوطنية حيث حصلت الأولى على 43 مقعدا والثانية على 15 مقعدا في البرلمان.

وضمت قائمة السلام الكردستانية الحزبين الحاكمين في إقليم كردستان العراق وهما الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني, فيما ضمت القائمة الوطنية أحزابا معارضة هي حركة التغيير والجماعة الإسلامية الكردستانية والتحالف من أجل الديمقراطية والعدالة , خلال العامين الماضيين تصاعدت حدة الخلافات بين الأحزاب الكردية الحاكمة والمعارضة إثر تفاقم الأزمات الداخلية في إقليم كردستان وأبرزها الأزمة المالية والخلافات بشأن مصير المناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل.

إلى جانب تلك القوى التي شاركت خلال الفترة الماضية في العملية السياسية على اختلاف درجات مشاركتها يأتي ائتلاف الوطنية بمقاعده الستة وعشرين في البرلمان الحالي، وهو تكتّل لا يُصنّف طائفيا أو عرقيا حيث يضمّ خليطاً من إسلاميين وعلمانيين وقوى سياسية سُنية أبرزها التجمع المدني للإصلاح بزعامة رئيس البرلمان الأسبق سليم الجبوري والجبهة العربية للحوار بزعامة صالح المطلك والوفاق الوطني العراقي بزعامة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي الذي فاز في انتخابات 2010 بأكبر عدد من مقاعد البرلمان لكنّ نوري المالكي تمكّن من أن ينتزع منه حقّ تشكيل الحكومة عندما لجأ إلى تفسير مادة في الدستور قال إنّها تمنح امتياز قيادة السلطة التشريعية لمن يستطيع تشكيل أكبر تحالف تحت قبّة البرلمان وليس من يحرز أكبر عدد من المقاعد.

علي السيستاني وبلاسخارت

كان لا بد من جهتين مهمتين أن تتدخلا في الشأن الانتخابي العراقي هما ممثلية الأمم المتحدة ومرجعية السيستاني .

السيد علي السيستاني الذي تعتبره الأحزاب الشيعية مرجعها في القرارات السياسية المصيرية رغم وجود تيار ولائية لولي الفقيه الإيراني خامنئي سبق له أن أيد انتفاضة الشباب في بيانات مكتبه , لكن التطور المهم هو مقابلته ل ( جينين بلاسخارت ) ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق وصدور بيان من مكتبه بعد اللقاء شدد فيه  على ” أن الانتخابات النيابية المقرر إجراؤها تحظى بأهمية بالغة ويجب أن توفر لها الشروط الضرورية التي تضفي على نتائجها درجة عالية من المصداقية ليتشجع المواطنون على المشاركة فيها بصفة واسعة ”  مُقرّاً أن المزيد من التأخير في إجراء الانتخابات أو إجرائها من دون توفير الشروط اللازمة لإنجاحها بحيث لا تكون نتائجها مقنعة لمعظم المواطنين سيؤدي إلى تعميق مشكلات البلد والوصول إلى وضع يهدد وحدته ومستقبل أبنائه، وستندم عليه جميع الأطراف المعنية الممسكة بزمام السلطة في الوقت الحاضر.

ويتساءل البعض إذا كان المقصود من إجراء الانتخابات الحفاظ على امتيازات الأحزاب في السلطة فإن ذلك يمكن أن يتم من غير إقرار قانون جديد للانتخابات , لكن المرجعية المذهبية الشيعية تريد إبقاء الأمور كلها في متناول الأحزاب الكبيرة.

بلاسخارت    

من يقرأ وظيفة ممثلية يونامي (بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق) وفق قرار مجلس الأمن رقم 1500 في أغسطس 2003 يجدها غامضة حول الحدود التي يتحرّك فيها ممثل الأمين العام، هل تنحصر في ما تطلبه منه الحكومة من مساعدات فنية وخبرات لوجستية ضمن العهد الدولي تجاه العراق، أم تتجاوز ذلك إلى محاولة وضع حلول للأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد منذ انفراد أحزاب الإسلام السياسي الشيعي بالحكم وقمعها للمعارضين وبيئاتهم الاجتماعية ومكوناتهم الطائفية بعد استسلام المجتمع الدولي إلى فكرة أن النظام القائم هو طائفي شيعي موالٍ لطهران.

هذه الضبابية المتعلقة بشرعية الحكم إزاء المنظمة الدولية التي أخرجت العراق من البند السابع إلى السادس جعلت من ” يونامي ” عجينة رخوة مهيّأة للعب على يد من يقودها. ويبدو أن من سوء حظ العراقيين أن تتسلّم المهمة امرأة لم تستمر في وظيفة وزيرة دفاع بلدها هولندا أكثر من سنة، حيث وجهت لها رئاسة حكومتها الشكوك في أوامرها بقصف وقتل المدنيين في العراق ضمن حملات التحالف الدولي ضد داعش 2014 ? 2017. هي تدّعي سعيها إلى بناء حوارات سياسية بين جميع الأطراف في البلد، لكن واقع الحال يقول إنها دخلت دهليز القوى الشيعية المسلحة دون الاكتراث بالقطاع الواسع المعارض المتمثل في ثورة أكتوبر التي غيّرت الواقع السياسي في العراق.

يجدر بممثلة الأمين العام للأمم المتحدة تحاشي الصراعات الداخلية العراقية والخارجية في ظرف حساس، والمحتجون العراقيون الثوار لا يطالبون بلاسخارت بالانحياز إلى محنة شعبهم في مواجهة دموية الميليشيات، لكنهم يرفضون انحيازها إلى القتلة، لأنها بذلك تتحول إلى خط دفاع لهم في الوقت الذي تتم فيه محاصرتهم شعبياً ودولياً.

بلاسخارت تعلم ولديها الوثائق والأدلة من تصريحات ومواقف زعماء الميليشيات وخوفهم من الانتخابات النزيهة، ومن بينها ما يدعون فيها إلى أن الانتخابات المبكرة هي مشروع أميركي، ربما في عهد دونالد ترامب وليس في عهد جو بايدن الواعد، لكنهم على ثقة وقراءتهم هذه المرة صحيحة بأن توفير متطلبات النزاهة والظروف الأمنية الخالية من سيطرة السلاح ومنع المال السياسي المعروفة مصادره من سرقة مال الشعب العراقي، وتعزيز الوسائل الفنية كالتسجيل البايومتري سيوفر فرصة جدّية أمام النخب الطلائعية النزيهة من الثوار والشخصيات الوطنية النزيهة لترشيح أنفسهم وسط إقبال جماعي من الناخبين، وليس 20 في المئة إلى صناديق الاقتراع.

بلاسخارت ووفق تقارير ميدانية كثيرة، انحازت إلى أحزاب الإسلام السياسي المسؤولة عن القتل والفساد والاستبداد، والمئات من المعلقين العراقيين شككوا في نزاهتها واتهامها بـاستلام رشاوى من الحكومة والأحزاب مقابل الصمت عن الانتهاكات ضد المتظاهرين في العراق .

الأمم المتحدة تتعاطى مع واقع العراق على أنه محكوم من قبل الزعامات الشيعية الدينية والسياسية، لهذا دائما ما يلجأ ممثلوها إلى التقرّب واللقاء بالمرجع السيستاني لعله يعينهم في مهمتهم. ولقاء بلاسخارت معه لم يكن استثناء، لكن الظرف تغيّر عما كان عليه الوضع عام 2003 و2005. اليوم أصبحت زعامات الميليشيات المسلحة الموالية لخامنئي وليس للسيستاني هي المتحكمة في الشارع، لهذا اضطرت إلى لقاء ?الخال أبو فدك? في بغداد، في مسعى فاشل منها لتخفيف الاحتقان لأنها تعلم أن أي انتخابات مقبلة سيكون السلاح هو المهيمن على اتجاهاتها إلى جانب المال السياسي.

حين لم تجد في بغداد ما يلبّي جزءا من حلولها التي أعلنتها عام 2019 بعد لقائها السيستاني ذهبت، بعد توريط السفير الإيراني مسجدي لها، إلى بيت الوالي الكبير خامنئي في طهران ممثلا بولايتي الذي صدمها بتصريحاته الداعية إلى عدم شراكة أي جهة دولية لهم في تسيير شؤون الانتخابات في العراق, وغن امرها في طهران . ألا يتطلب التحول المهمّ الذي حصل في المسألة العراقية عام 2019 بتنفيذ مطالب ثورة أكتوبر بإجراء الانتخابات المبكرة ومجيء مصطفى الكاظمي للسلطة، من ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة أن تضع في ميزانها هذا الثقل السياسي والميداني الجديد مقابل إعطائها كل الثقل للميليشيات وما تنفذه بأوامر من طهران في القتل وترويع المواطنين وإرهابهم؟

الانتخابات ومستقبل العملية السياسية

كان الأجدر بقادة هذه الأحزاب الاعتراف بالخطايا بحق الشعب، وإعلان اعتزالهم العمل السياسي، والاكتفاء بما نهبوه وما أصبحوا عليه من حياة باذخة لهم ولأسرهم في القصور، في حين يبحث بعض أطفال العراق عن الطعام بين أكوام القمامة، ويقاوم بعضهم الآخر الأمراض المستعصية والموت الذي يفتك بهم، ويعاني شبابه البطالة، حيث شمل الفقر ثلث سكان العراق وفق شهادة ممثلة الأمين العام جنين هينيس بلاسخارت أمام مجلس الأمن.

من أخطر برامج تلك الأحزاب في الأيام المقبلة التي تسبق الانتخابات المبكرّة، إذا ما تحققت والتي يقودها رئيس حزب الدعوة نوري المالكي، فتح أبواب الفوضى الأمنية وسط وجنوب العراق تحت عنوان ?المؤامرة على الشيعة? من أعدائها التقليديين، أميركا والبعثيين، المتمثلين حاليا حسب ادعاءاتهم بالحراك والثورة الشعبية، رغم الحقائق الدامغة برفض الشيعة لقياداتهم وعدم صلتهم بأي من الأحزاب المناوئة للنظام الحالي وبحقيقة صداقة المالكي للأميركيين الذين نصبوه في السلطة بعد إزاحة رئيسه إبراهيم الجعفري، الذي أهدى وزير دفاع المحتل الأميركي دونالد رامسفيلد سيف علي الكرار، وهيأ فصائل الميليشيات الولائية للدخول في صدامات مفتعلة تفتح أبواب الحريق الكبير والانفراد بدخول الانتخابات.

اللعبة المرتبطة بهذا الجهد الميداني الخطير هي زج عدد من الاستعدادات المسبقة في ميدان الانتخابات، لكي لا تخرج من قبضة الأحزاب الإسلامية، وفي مقدمتها تحييد سلطة الكاظمي ومنعه من فتح ملفي الفساد ومخاطر الميليشيات الإيرانية في العراق.

من الاستعدادات التي دخلت مرحلة التطبيق منذ أسابيع اختراق جسم ثورة الشباب في ميادين التحرير ببغداد والناصرية وغيرها من قبل بعض الناشطين الشباب المنتمين إلى أبرز الكيانات الشيعية خصوصا أنصار مقتدى الصدر الذي سيعاود لعبته التقليدية في مناصرة ?الكادحين? رغم عدائه التاريخي للمالكي وتوافقه مع هادي العامري.

من بين الفعاليات السياسية التي تقودها الأحزاب حاليا بروز دعوات لتشكيلات سياسية حزبية تغلف نفسها بحراك الثورة الشعبية، القسم الأكبر منها مدعوم وموّجه من قبل الأحزاب التقليدية ذاتها لاختراق قطاع الشباب، والخروج المفتعل لبعض قادة الأحزاب الشيعية من الخط الثاني من بطون تلك الأحزاب وبعض كوادر الحشد الشعبي، وطرح عناوين وشعارات جديدة جذّابة تتلاءم مع الهوى الشعبي العام الهدف منها اختراق الانتفاضة وإنهاء فعاليتها المقبلة في الانتخابات.

كانت عمليات اختراق الثورة وما زالت من أبرز المخاطر التي تهدد استمراريتها في الأيام المقبلة من خلال دعوة شبابها إلى انتخابات مبكرة، ولسان حال هذه الأحزاب المستكبرة يقول لهم ?تريدون انتخابات مبكرة تفضلوا خذوها، ولكنكم ستكونون تحت أجنحتنا، فالمال والسلاح بأيدينا، وأنتم عزّل ليس لديكم سوى شعارات المعارضة وطرد إيران من العراق؟.

هناك فرصة تكتيكية أمام قيادات وكوادر ثورة تشرين للمحافظة على زخمها وفق خيارات لا تفقدها مكانتها عند العراقيين، وذلك بألا يعطي القانون الانتخابي الجديد الفرص لذات الأحزاب لتعيد سطوتها، وفضح لعبة المال السياسي والضغط على الكاظمي لتوفير البيئة الآمنة للانتخابات، وعدم الخضوع لإغراءات المال والجاه التي تقدمها الأحزاب، فشباب الثورة لم ينتفضوا للحصول عليها. إذا لم تتوفر هذه الشروط لا قيمة لانتخابات تكرّس بقاء أولئك المتسببين في دمار البلد.لا يهم شباب الثورة كما لا يهم العراقيين من يتولى السلطة بعد حل البرلمان وإلغاء جميع المواد الدستورية والقوانين التي كرست الهوية الطائفية والعرقية للعراق ما يهمهم تنحي هذه القوى الفاسدة عن مسيرة قيادة البلد ..

العدد 114 / اذار 2021