التضخم يحكم قبضته بقوة على الاقتصادات العالمية

التضخم في بريطانيا بأعلى مستوياته منذ 40 عاما

هل تنجح المصارف المركزية في القضاء على هذه الآفة بعدما باتت الثقة بها على المحك؟

كلام صور:

هلا صغبيني

كل شيء بات جلياً بعد أشهر طويلة من الإنكار. فالمصارف المركزية العالمية أقرت أخيراً بأن التضخم يحكم قبضته بقوة على اقتصادات بلدانها وبأنه سيبقى طويلاً، معلنة حرباً ضروسة مع استخدام الأدوات المتاحة لها “بقوة” للقضاء على هذه الآفة، مهما كلّف الأمر ومهما كانت تداعياته على الاقتصاد.

الخطاب الذي ألقاه رئيس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول خلال الندوة الاقتصادية السنوية التي انعقدت في جاكسون هول بولاية وايومنغ في أغسطس (آب) الماضي بحضور حكام وممثلي المصارف المركزية العالمية، شكّل خارطة طريق لمسار المعركة المقبلة، وإن كان الأقصر له منذ العام 2010 حيث لم يتعدَ الدقائق الثماني. إلاّ أن الرسالة التي بعث بها الى الأسواق والمستثمرين لم تكن تحتمل الكثير من التأويلات والتفسيرات، بل كانت شديدة الوضوح، وهي: التضخم شديد الارتفاع يعني أن أسعار الفائدة يجب أن ترتفع أكثر ولن يتم خفضها بسرعة.

لم يكن خطاب باول يحتاج الى آراء محللين حول مخاطر الاقتصاد، فمجرد استعماله عبارة تضخم 45 مرة، أي حوالي 5 مرات في الدقيقة، في خطابة القصير، يظهر خطورة هذه الآفة ومدى عمق انعكاساتها على الاقتصادات.

احتمالات الركود تتسبب بتراجع الأسهم والسندات

المشكلة هي، كما أوجزها باول، وجود سوق عمل ضيق للغاية أي حين يواجه أرباب العمل صعوبات في ملء الوظائف؛ وتضخم أعلى بكثير من هدف المصرف المركزي البالغ 2 في المئة. لم يكن باول موارباً بشأن الاستجابة المطلوبة لهذه التحديات. فالحل بالنسبة إليه، بكل بساطة، هو جعل السياسة النقدية محكمة بما يكفي، ولفترة كافية، من أجل للتأكد أن التضخم سينخفض ​​مرة أخرى إلى 2 في المئة المستهدفة.

لكن  موقف باول هذا يثير تساؤلات حول مدى استعداد المصرف المركزي الأميركي للذهاب بعيداً في حربه ضد التضخم، سيما وأن محضر اجتماع اللجنة الفدرالية للأسواق المفتوحة عن يوليو (تموز) أشار بوضوح إلى مخاطر التشديد المفرط.

في الأصل، كيف ابتعد التضخم عن هدف الاحتياطي الفدرالي؟ هل كان ذلك بفعل سوء الحظ، أم سوء التنبؤ والتقدير، أو أن إطار السياسة النقدية كان غير مناسب؟

الإفراط في التيسير

قد تكون الإجابة على هذه التساؤلات أن كل العوامل مجتمعة أدت الى بلوغ التضخم هذه المستويات. فـ”سوء الحظ” شمل مثلاً جائحة كورونا وتحولاتها وبرامج التيسير؛ والحرب الروسية -الأوكرانية التي ولّدت سلسلة من صدمات العرض والطلب التي ساعدت على دفع التضخم عالياً.

في المقابل، كان هناك سوء تقدير وتوقعات متفائلة بشكل مفرط بشأن سرعة تعافي الاقتصاد والطبيعة المؤقتة ضغوط التضخم. كما لم يتوقع إطار السياسة النقدية الجديد الأكثر تحملاً للتضخم هذا التجاوز الحاد للتضخم.

وكان الاحتياطي الفدرالي قام في 15 مارس (آذار) 2020 بالرد على آثار كورونا للمرة الأولى، بخفض طارئ لأسعار الفائدة، مما أدى إلى خفضها فعلياً إلى الصفر. واتخذ مجموعة من الإجراءات ذات الصلة بتوفير السيولة بما في ذلك ما لا يقل عن 700 مليار دولار من تحفيزات التيسير الكمي. وبين مارس (آذار) 2020 ومارس (آذار) 2022، أبقى الاحتياطي الفدرالي أسعار الفائدة الإسمية قصيرة الأجل عند مستوى الصفر مع مواصلة استخدامه التسهيل الكمي الذي أدى الى توسع ميزانيته العمومية إلى 9 تريليوات دولار من 4 تريليونات دولار في مارس (آذار). وفي 16 مارس (آذار) 2022، أقدم على أول زيادة لأسعار الفائدة وسط انتقادات عارمة طالته لتأخره في الرد.

يقول روبرت جيه بارو، وهو أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد، إن التوسع المالي الذي استعمل خلال جائحة كوورنا هو “الجاني” الأساسي للتضخم. فالبيانات ربع السنوية حتى الربع الأول من عام 2022 أظهرت فائضاً تراكمياً في الإنفاق الفدرالي (زيادة عن الإنفاق الأساسي قبل كوفيد والبالغ 5 تريليون دولارات لكل عام) 4.1 تريليونات دولار – أو 18 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2021. هذه الزيادات الرئيسية في الإنفاق تعكس نفقات قدرها 9 تريليونات دولار في الربع الثاني من عام 2020 و7 تريليونات دولار في الربع الثالث من عام 2020، في عهد الرئيس دونالد ترامب، تليها 8 تريليونات دولار لكل من الربعين الأول والثاني من عام 2021، أثناء ولاية الرئيس جو بايدن.

وفي هذه النقطة، جادلت إحدى الدراسات المقدمة في ندوة “جاكسون هول” بأن 50 في المئة من مستويات التضخم في الولايات المتحدة هي بسبب العجز المالي الحكومي، وأن الاحتياطي الفدرالي لن يستطيع السيطرة على الأسعار من دون وجود تعاون حكومي.

الثقة المتراجعة بالمصارف المركزية

الطريق التي رسمها باول أكد عليها مسؤولو المصارف المركزية في العالم الذي حضروا  بشخصهم او عبر ممثلين لهم في “جاكسون هول”، بحيث أمكن الاستشفاف أن خفض التضخم يبقى أولوية لا يجب أن تتعداها أولوية أخرى.

يبدو أن المصارف المركزية كانت بحاجة الى أن تكون حاسمة. فهي أمضت عقوداً في بناء صدقيتها على “مهارات وفنون” مكافحة التضخم وبناء بيئة مستقرة من ناحية استقرار الأسعار على المستهلك. وبالتالي، قد تؤدي خسارتها هذه المعركة إلى زعزعة أسس السياسة النقدية الحديثة، سيما وأن من مهماتها الأساسية هي إبقاء معدلات التضخم تحت السيطرة، ووفق ما هو مستهدف.

هذا الأمر نبّه إليه المصرف المركزي الأوروبي. عضو المجلس التنفيذي للمصرف إيزابيل شنابل قالت إن المصارف المركزية في جميع أنحاء العالم مهددة بفقدان ثقة الجمهور، ويجب عليها الآن أن تتصرف بقوة لمكافحة التضخم، حتى لو دفع ذلك اقتصاداتها إلى الركود. وزادت أن استعادة الثقة والحفاظ عليها تكون بإعادة التضخم إلى الهدف بسرعة لأنه كلما طالت مدة بقاء التضخم مرتفعاً، زاد خطر فقدان الجمهور الثقة في تصميم المصارف المركزية وقدرتها على الحفاظ على القوة الشرائية.

لا شك أن المصارف المركزية كانت محط إشادات واسعة خلال فترة تفشي كورونا بسبب تجنيب بلدانها الكساد الناجم عن الفيروس من خلال مسارعتها إلى اتخاذ تدابير واجراءات ساعدت الناس والشركات على الصمود. لكن إخفاقها في التنبؤ بمدى خطورة ما آلت إليه الأمور اليوم، وسوء تقدير حجم ومدة أسوأ ارتفاع في التضخم منذ عقود، قلب الصورة رأساً على عقب. ففي العادة، يثق المستثمرون والأسواق في قدرة المصارف المركزية على إنقاذ الاقتصاد خلال أوقات الشدة، بل أنهم معتادون على أن تجد السياسة النقدية سبيلاً لإنقاذهم من الأزمات. وإذا فُقدت الثقة في المصارف المركزية، عندها سيتصرف الجميع بطرق تؤجج من الأزمة، وستكون عملية خفض التضخم أكثر تكلفة بحيث تؤدي الى ركود يبدو شديد الاحتمال في أوروبا.

في هذا الإطار، لفت الاقتصادي ورئيس كلية كوينز في كامبردج محمد العريان في مقال نشرته “بلومبرغ”، إلى الأمانة التحليلية التي يتمتع بها مصرف إنكلترا في نشراته المتعلقة برؤيته للأوضاع. وقال إن حرص مصرف إنكلترا على تقديم توجيه تحليلي صادق ومنطقي، “جنّبه مصير الاحتياطي الفدرالي” الذي وصف رسائله السابقة بأنه “لا يمكن تبريرها من الناحية التحليلية”. وأضاف: “تقوم المؤسسة المالية في إنكلترا بتذكير العالم بما يمكن لمؤسسة مالية مركزية غير متحيزة سياسيا أن تفعله: العمل كمستشار موثوق به حريص على مشاركة وجهات نظر جديرة بالثقة من الناحية التحليلية”.

في السياق ذاته، تحدثت ورقة بحثية أعدها مايكل إيرمان وديمتريس جورغاراكوس وجيف كيني، وهم في مناصب مختلفة في المصرف المركزي الأوروبي، أن شرح هدف التضخم واستراتيجية المصرف المركزي الأوروبي للمستهلكين يمكن أن يعزز صدقيته. وقالت إن التواصل مع الأشخاص من غير الخبراء أمر مهم للمصارف المركزية، خصوصاً في البيئة الحالية لمعدلات التضخم المرتفعة. فالجمهور الأوسع هو الذي يتخذ قرارات بشأن الاستهلاك والاستثمار الأسري، وهذه القرارات مهمة للغاية في دفع النتائج الاقتصادية.

أمام هذا الوضع الحرج التي تعانيه المصارف المركزية اليوم، بدأت تعلو بعض الطروحات حول وجوب إعادة التفكير في المصارف المركزية وإصلاحها وفرض المزيد من السيطرة عليها. صندوق النقد الدولي اشار في ورقة بحثية في هذا الخصوص إلى ان المصارف المركزية لا تعمل في فراغ ولا ينبغي لها أن تفعل ذلك، فهي كمؤسسات عامة، ينبغي أن تكون موضع مساءلة ملائمة من المُشَرِّعين ومن المجتمع.

في الختام، من الدروس الأساسية المستقاة من فترة ارتفاع التضخم في ستينات وسبعينات القرن الماضي، أن التحرك ببطء شديد لكبح التضخم يؤدي إلى تشديد السياسة بتكلفة أكبر بكثير من أجل إعادة توقعات التضخم إلى ركيزتها المستهدفة، واستعادة صدقية السياسة النقدية. ومن المهم بالتالي للمصارف المركزية أن تحرص على إبقاء هذه التجربة نصب أعينها وهي تتحسس طريقها الصعب في الفترة القادمة.

العدد 133 / تشرين الاول 2022