الحرب العالمية غير المعلنة

قلق من احتمالات الصراع النووي والصين والهند تأخذ مسافة من روسيا

محمد قواص

يصعب على أعتى خبراء الشؤون الاستراتيجية التورط بتقديم استشراف دقيق عما يمكن أن تذهب إليه الأمور في الصراع الغربي الروسي حول أوكرانيا. وعلى الرغم من شفافية الميدان العسكري وتدفق التقارير الروسية الغربية حول خطوط التماس وحركة القوات العسكرية لكافة الأطراف، إلا أن الغموض ما زال سيّد الموقف في ما يمكن أن تذهب موسكو إليه وما يمكن أن يكون عليه الردّ الغربي.

وإذا ما يتعاظم التخوف من نشوب حرب عالمية ستكون نووية، فإن العواصم الكبرى المعنية لا تهمل هذا الاحتمال، على الرغم من أنها ما زالت تعتبر أن التهديد الروسي لن يتجاوز حدود الردح الإعلامي للاستهلاك المحلي في روسيا ولرفع سقف التهويل الروسي ضد الغرب لمنعه من الاستمرار في تقديم الرعم العسكري، الذي بات نوعيا مؤذيا.

المخابراتُ الغربية لم ترصد تحريكاً لبنى تحتية نووية روسية، لكنها تأخذ على محمل الجد التهديدات الروسية.

ما تفسير النكسات العسكرية الروسية

استفتاءاتُ موسكو في مناطق أوكرانية وضمها بعد ذلك إلى الأراضي الروسية سيُخضعُ تلك المناطق لعقيدة الدفاع الروسية التي تتيحُ استخدام السلاح النووي إذا ما تعرضت هذه الأراضي أيضاً لأي هجوم. الصراعُ الدولي التدميري قد يكون مناورة لكنه بات من الاحتمالات الواقعية. العواصمُ الكبرى تتحرّكُ في العلن فيما التواصل مستمر  في السرِّ بين واشنطن موسكو لتبادلِ رسائل التهديد والوعيد

المشهد النووي

حين ارتكبت الولايات المتحدة فعلة استخدام السلاح النووي ضد اليابان في 6 و 9 آب / أغسطس 1945 قدّمت واشنطن الأمر كحلّ وحيد لا بد منه لوقف الحرب. لم تكن كارثتي ناكازاغي وهيروشيما لتُقحم العالم في حرب نووية، ذلك أن سلاح الدمار الشامل النووي كان حكرا على الأميركيين وحدهم.

تغير العالم مذاك وبات السلاح النووي مملوكاً في السرّ والعلن من دول عدّة لا سيما روسيا (السوفياتية) منذ 1949. ومع ذلك بقيت فلسفة هذا المستوى التسليحي العسكري تتبنى الردع والغموض على النحو الذي نظّم صراع الأمم وجعله تحت سقف محدد ووفق وقواعد وشروط، منها قانونية تنصّها المعاهدات الدولية، ومنها موضوعية تفرضها أصول العلاقات الدولية وتقاليدها.

أن يأمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 27 شباط/فبراير، أي بعد أيام قليلة من بدء الهجوم الروسي في 24 على أوكرانيا، بوضع “أسلحة الردع الاستراتيجي”، بما فيها النووية، في حالة تأهب، فذلك تحوّل جرّد الخيار النووي من سمات الغموض الاستراتيجي ومن بعده الرادع. تقصّد الزعيم الروسي أن يبلغ العالم، من خلال أوامر متلفزة لوزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف، أن الذخيرة النووية ستدخل المعركة ولو بعد حين.

وإذا ما أحاطت بالسلاح النووي منذ عقود هالة التميّز، لا سيما لأولئك الذين يمتلكون مقاعد دائمة في مجلس الأمن الدولي ويتمتعون بحق النقض دون غيرهم، فإن محدودية عدد الدول، الذين ساقت لهم الظروف سلاحاً نوويا، جعل

السلاح الغربي النوعي قلب توازن المعركة

من النادي النووي قلعة مقفلة لطالما امتهن أعضاؤه الصمت والرفعة عن التلميح بالقوة النووية داخل أبجديات التخاطب في العلاقات الدولية.

الهروب إلى الأمام

والحال أن تلويح بوتين بترسانته النووية منذ بداية حربه في أوكرانيا ثم تأكيده الأمر تهديدا وتحذيرا بمواكبة خطاب التعبئة الجزئية في 21 سبتمبر، أنزل “التاج النووي” من عليائه وأزال عنه أي غموض وأسقط منه نعمة الردع وجعل تداوله سوقيا كارثيا مدمرا، في حال استخدامه، ومقززا مخزيا، في حال التخاطب فقط باحتمالاته.

وفي كل مرة يطوّر فيها الزعيم الروسي سلوكه وخطبه وقراراته منذ عشية الحرب حتى الساعات التي تلت “نكسة” خاركيف 6-9 سبتمبر، كان يخسر بيادقه، التي للحق كانت تربك الخصوم الدوليين وتعتبر أن وراءها عوامل قوة مجهولة. سقطت أوراق بوتين واحدة تلو أخرى، لدرجة أن ما صدر عن الصين وهو “الشريك بلا حدود” وعن الهند وهي الصديق المخلص يعبّر بلهجات خافتة لكنها نافرة موجعة لا تخطئها عين مراقب عن تبرّم يتصاعد من ذلك العبث القادم من موسكو.

أدرك الرئيس الروسي في قمة سمرقند الكازاخية لدول منظمة شنغهاي في 16-17 سبتمبر أنه ينزلق نحو الوحدة والعزل. بات أكثر يقينا أنه لا يستطيع الاعتماد إلا على نفسه وأن لا خيار له إلا المزيد من المقامرة لعله يستعيد بعضا من خسائر مقامرته منذ اتخاذه قرار الحرب في أوكرانيا.

قرار التعبئة الجزئية، ثم تلفيق استفتاء في الدونباس ومقاطعتي خيرسون وزابوروجيا تمهيدا لإعلانها أراض تابعة لروسيا، يندرج داخل ديناميات الهروب إلى الأمام التي تستهدف فرض أمر واقع على الحلفاء والأصدقاء قبل الخصوم. أما التهديد الفظّ باستخدام السلاح النووي فيهدف إلى القبول بهذا الأمر الواقع حتى لو بقيّ ركيكا لا تعترف به دول العالم بما في ذلك الصين والهند ودول الجنوب.

 الورقة الأخيرة

يود الرئيس الروسي أن يستمر بالامساك بزمام المبادرة وإجبار العالم على اللحاق به. يروم أيضا أن يستمر في استباق الفعل واستدراج ردود الفعل. يخوض حرباً لم يكن يخطط لكي تكون لها تلك المآلات الغامضة. أراد أن يكون صاعقا في مقارباته مباغتاً في مناوراته ليكتشف كم أن العالم جاهز لصعقه بالمفاجآت. فلا كييف سقطت في الأيام الأولى، ولا الغرب غضّ الطرف عن حملته الأوكرانية الجديدة كما فعل نسبيا مع تلك السابقة التي استهدفت القرم عام 2014، ولا جيشه أبلى البلاء الذي كان متأكدا  (بعد جورجيا والشيشان وسوريا) أنه سيكون كاسحا داخل “عملية عسكرية” روتينية.

التهديد بالسلاح النووي يكشف خواء الخزائن الروسية من مفاجآت أخرى (لن ندخل في احتمالات مسؤولية روسيا عن تفجيرات “نورد ستريم 1”.

يُخرج بوتين ورقته الأخيرة من دون أن يقابله الخصوم بجزع وخوف ومن دون أن يحظى هذه المرة بـ “التفهم” الذي حظي به من دول كثيرة في العالم، لا سيما الصين. تشعر بكين أن في وضع اليد على السلاح النووي ولو تلميحا

فلاديمير بوتين مأزق الداخل وعزل الخارج

وتهويلا ما يستفزها وينال من “نظامها” العالمي الذي تتبوأ به قمما متقدمة. لا ترتاح بكين إلى حالة العبث  بمنظومة عالمية لا يتسق مع نظرتها وخططها ولا يأخذ بالاعتبار وزنها ودورها ووظيفتها داخل المشهد الدولي.

لا يخفي بوتين أن هدف حملته الأوكرانية هو إنهاء الأحادية القطبية في العالم والذهاب نحو منظومة ذات قطبيات متعددة. لا يروق للزعيم الروسي شي جين بينغ ذلك النزوع الروسي نحو طموحات لا يمكن إلا دولة مثل الصين أن تزعمها وقد تملك إمكاناتها. وقد تشعر بكين أنها فقدت وهج ردعها النووي وأوراقها التايوانية بعدما جعل بوتين من الخيار النووي مشاعاً بخسَ ثمنه وانهارَ عائده.

نظرية المؤامرة

لاشيء يوحي أن الغرب كان بصدد تنفيذ خطط “لهدم الثقافة والحضارة الروسية”. لا وقائع ترفد حجج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإطلاق التعبئة الجزئية في بلاده وإقناع شعبه بوجاهتها. ولا شيء يدل على تدبير الغرب مؤامرة لتفكيك روسيا حسب ما يكرر الكرملين وإعلام موسكو. وحتى خطاب الزعيم الروسي في الأيام الأخيرة الذي لا يجد له سوقاً مقنعا لدى الرأي العام الغربي وعواصم القرار في الغرب، سيصعب تسويقه لدى الرأي العام الروسي أيضا الذي أظهر تبرماً من قرار إقحامه في الحرب.

لا معطيات واقعية حول تعرّض الأراضي الروسية لأخطار وجودية، حسب الرواية الرسمية، ناهيك من أن المدن والقرى في روسيا لم تشعر بوقع الحرب التي يفترض أن تتناسل منطقيا من “العملية العسكرية” التي أعلنها بوتين ضد أوكرانيا منذ فبراير الماضي. حتى أن حرص واشنطن وحلفائها، حتى الآن، على عدم تزويد أوكرانيا بأسلحة بعيدة المدى يهدف إلى منع نقل الحرب إلى قلب روسيا نفسها.

في ألف باء الحدث أن روسيا هي التي أنذرت وحشدت ودفعت قواتها داخل الأراضي الأوكرانية. وفي بديهياته أن روسيا لم تتعرض لأي اعتداء ولا لأي تهديد يمسّ أمنها قبل ذلك. وفي خلفياته أن روسيا هي التي هاجمت جورجيا عام 2008 واحتلت وما زالت تحتل أراض هناك وهي التي هاجمت أوكرانيا عام 2014 وضمت أرتض أوكرانية بالقوة إلى روسيا.

غير أن التاريخ ليس علماً حسابيا ولا يخضع للبديهيات والوقائع والأدلة. ثم أن الحقّ هو وجهة نظّر ترجّح القوة وحدها كفته لصالح المتصارعين.

الانتقام من أوكرانيا

إذا ما ازدرى بوتين أوكرانيا وسخر من استقلالها وأنكر عليها الوجود معتبراً أنه خطيئة لينين وستالين، فإن أوكرانيا تكافح بالدم والبشر والحجر دفاعا عن هذه الكينونة وهذا الاستقلال. وما كان الغرب ليدفع بالدعم والسلاح النوعي الفتاك لو لم يجد لدى الأوكرانيين العزيمة والإرادة لتثبيت وقائع وبديهيات وأدلة من شأنها ترجيح هوائية الحقّ

جو بايدن: الدعم الأميركي الكامل لأوكرانيا

ومسلماته. هل يجب التذكير أن الأوكرانيين ردوا الهجوم الروسي على كييف وأجبروا الروس في مارس على تغيير خططهم. كان ذلك قبل أن تتلقى أوكرانيا السلاح الغربي النوعي الفتّاك.

لم تكن حسابات بوتين خاطئة حين قرر (وحده ودوائر القوميين الروس حوله) إطلاق “العملية” في أوكرانيا. اعتمد في منهجه على ثوابت وسوابق روسية وغربية على السواء.

في السوابق ما أنجزته القوات الروسية في أبخازيا في جورجيا والقرم في أوكرانيا وما انجزته سابقا في الشيشان وداغستان ولاحقا في سوريا.

وفي الثوابت أن الموقف الغربي من كل هذه الحروب كان متعايشاً متفهّماً متخاذلا وردات فعله أقرب إلى النأي بالنفس والتواطؤ.

لم يتغير بوتين. هو منسجم مع نفسه ومعتقداته التي لطالما عبّرت عنها أدبيات القوميين (ألكسندر دوغين أشهرهم) وكشَفَها توقه إلى استعادة رفاة إيفان إيلين منظّر الفاشيين الروس من سويسرا وإعادة دفنه في موسكو. لم يخف الرجل حنينه إلى الامبراطورية في شقيّها القيصري والسوفياتي واستعادة طموحات أوراسية حالمة والتبشير بها.

تغير الغرب

بعد أن استهجن الغرب ما ارتكبه بوتين في القرم عام 2014، فرضىوا على روسيا عقوبات غير رادعة. لاحقا فتحت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل للرئيس الروسي أبواب برلين عام 2016، واستضافه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر فرساي عام 2017، واندفع الرئيس الأميركي دونالد ترامب للالتقاء به في هلسنكي عام 2018 ثم التقاه خلفه جو بايدن في جنيف عام 2021، فأين خطط هدم روسيا وتفكيكها والتآمر على حاكمها؟

لا شيء في كل هذه الأعراض أوحى للزعيم الروسي بأن للغرب مخالب سيخرجها بوجهه يوما للرد على “عملية عسكرية” بسيطة في أوكرانيا كتلك التي سبق أن قام بها في القرم في أوكرانيا أيضا قبل 8 سنوات.

يمكن الاستنتاج أن الرئيس الروسي نجح ببراعة وحرفية في إقناع الغرب على نحو شبه تام بالقطيعة الكاملة مع روسيا التي يحكمها. حتى دول الحياد أيام الاتحاد السوفياتي، فنلندا والسويد، اندفعت نحو الحلف الأطلسي بدون تردد أو ندم. بات الغرب يعتبر روسيا خطرا استراتيجيا داهماً (وليس الصين) يستدعي دعم أوكرانيا إلى أقصى الحدود.

شي جين بينغ: مصالح الصين تفترف عن مصالح روسيا

استمع بوتين جيدا إلى ليز تراس رئيسة وزراء بريطانيا وهي تعلن من على منبر الأمم المتحدة أن الأوكرانيين لا يدافعون فقط عن أنفسهم بل “يدافعون عن أمن العالم برمته”. قبلها تحدث بايدن فكان أكثر حزما وحسماً وعزماً لوقف حرب روسيا وإفشال خطط زعيمها.

يتوجه بوتين إلى الروس فقط في خطبه وقراراته الأخيرة. لا تغير تصريحاته من موقف الغرب الرافض للغزو في أوكرانيا، ولا تحُدث أي تطور لصالحه في موقف “أصدقاء”، مثل الصين والهند، لم يدعموا الحرب ولا يجدون توقيتها مناسبا (وفق رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي).

مستقبل الحرب

ستدخل الحرب أكثر فأكثر إلى بيوت 300 ألف جندي روسي جديد سينضمون إلى المعركة بعد التعبئة التي أعلنها رئيس البلاد. أعلن بوتين أن حربه ضد أوكرانيا هي للدفاع عن الشعب الروسي وبات اليوم يريد، من خلال التعبئة، أن يدافع الشعب عن حربه. وفيما يلوّح بوتين بالسلاح النووي مجددا بعد أن لوّح به  قبل ذلك، للمفارقة، في اليوم الرابع للغزو، فإن تلك الفرضية الكارثية العدمية ستعجّل في طرح أسئلة في موسكو، قبل واشنطن وبكين وباريس ولندن، حول وجودية ساكن الكرملين ومدى اتساق ذلك مع مصالح روسيا بالذات قبل الإنسانية جمعاء.

سيراكم الرئيس الروسي أدواته وعدّته وهو يتطلع إلى  الموعد في بالي في إندونيسا. هناك سيلتقي مع زعماء العالم الكبار في قمة العشرين في نوفمبر المقبل. هناك حيث التسويات المحتملة تحتاج الآن إلى أقصى وسائل التصعيد والتهويل والوعد بالعدم وشيء من الجنون. ومهما كانت الخسائر العسكرية الروسية إثر الهجوم المضاد الذي شنته القوات الأوكرانية في خاركيف شمالاً بعد خيرسون جنوبا، فذلك لا يعني أن روسيا قد خسرت الحرب.

بيد أن حجم الخسائر وقدرة القوات المهاجمة على استعادة أراض  خلال أيام استغرق احتلالها ستة أشهر يوجه صفعة حادة للحملة الروسية في أوكرانيا منذ فبراير الماضي ولسمعة دولة عظمى لطالما هاب العالم جبروت جيشها. وإذا ما استطاعت موسكو إعادة ترتيب انتشارها وتغيير خططها، وفق ما دعا الرئيس الشيشاني رمضان قديروف، وردت بهجوم مضاد قد يكون أكثر عنفا وتدميراً، فإن روسيا مع ذلك قد فقدت زمام المبادرة وانتقلت في حملتها إلى وضعية دفاعية ستحاول من خلالها الحفاظ على ما جنته ميدانيا، والسعي لعدم الانزلاق نحو الاستنزاف القاتل.

موقف الصين

الثابت أن الرئيس الروسي يواجه وضعا داخليا صعبا (لاسيما غضب وضغوط أنصاره من القوميين فما بالك بخصومه) ويحاول التعمية عليه من خلال استدراج تضامن خارجي ولو شكلي من قبل من يعتبرهم حلفاء. وحتى اندفاعه نحو الصين وبقية دول “منظمة شنغهاي للتعاون” يُظهره في موقع ضعيف حتى أمام حلفائه وهو الذي، من خلال حملته الأوكرانية، أراد أن يقود التحالفات ويديرها لا أن يلجأ لها ويلوذ بظلها.

ويتسرب من تصريحات بوتين في قمة شنغهاي في مدينة سمرقند الأوزبكية حقيقة المشهد ودقته في العلاقة بين موسكو وبكين. شكر الزعيم الروسي نظيره الصيني شي جين بينغ على موقف بكين “المتوازن” من الأزمة الأوكرانية. وفي ذلك اعتراف أن الصين ليست حليفا لروسيا في حربها في أوكرانيا وأن عدم وقوف بكين ضد روسيا في هذه الحرب هو “توازن” يكتفي به بوتين ولا يطمح لأكثر منه.

والحال أن بكين لم تؤيد موسكو في الحملة الأوكرانية ولم تعترف قبل ذلك بقرار موسكو ضم القرم إلى روسيا. ولئن وجهت بكين اللوم إلى الغرب وحمّلته مسؤولية تفاقم التوتر الذي أدى إلى تلك الحرب، فإن بكين عوّلت وما زالت على قطف ثمار الأزمة التي باتت دولية وجعل روسيا أداة من أدوات القوة لديها، وبالتالي تحسين موقع الصين وطموحاتها الدولية أمام الخصم الأميركي لا سيما في منطقة الاندو-باسيفيك.

غير أن الصفعة العسكرية الخطيرة ضد القوات الروسية في أوكرانيا هزّت حسابات الصين وزعيمها. يمثّل الحدث اختلالا في موازين القوى لصالح التحالف الغربي. ويوجه هذا التطور الميداني المفاجئ انذارا وتحديا إلى بكين في خططها (التي باتت عسكرية معلنة من خلال المناورات الأخيرة) لالحاق تايوان بالسلطة المركزية في بكين ولو بالخيار العسكري. وقد تضطر صفعة أوكرانيا بكين إلى صيانة موقفها من تلك الحرب لجهة تأكيد التموضع المحايد وتظهير الوصل الدائم بينها والعاصمة الأوكرانية كييف.

السلاح الغربي الفتاك

يكشف التقدم العسكري اللافت للقوات الأوكرانية عن التحولات الميدانية النوعية التي تحدثها الأسلحة الأميركية-الغربية المتطورة الني أرسلت إلى القوات الأوكرانية. ويسجل هنا أن الأداء العسكري الأوكراني سابق على توفّر السلاح النوعي، ذلك أن المقاومة الأوكرانية الشرسة هي التي صدّت الهجمات الروسية الأولى التي كانت متوجهة نحو كييف وأجبرت القيادة الروسية على سحب قواتها في أبريل وإعادة توجبه المعركة نحو منطقة دونباس شرق البلاد ومناطق الجنوب على ساحل بحر آزوف والبحر الأسود.

لن تنتهي المعارك قريبا. بات الأوكرانيون أكثر تمسكاً بتحرير بلادهم وطرد المحتل الروسي. وبغضّ النظر عن وجاهة الأمر من الناحية العسكرية، فإن ما حصل مؤخراً، ووفق ما يرى خبراء عسكريون غربيون قد يؤدي إلى انهيارات غير محسوبة داخل المنظومة العسكرية الروسية بما يجعل من طموحات الأوكرانيين قابلة للتحقق.

وما حصل مؤخراً يدفع الطرف الغربي إلى الانخراط أكثر من دون أي لبس وتردد في  الاستمرار بتوفير الدعم العسكري الذي ما انفك يطالب به الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي. فما يحققه الأوكرانيون قد يكون ناجعا لوقف الحرب الروسية، وربما جرّ موسكو نحو تسوية تحرم روسيا من أوراق القوة لديها على طاولة المفاوضات.

على أية حال فإن روسيا تخسر ثمار السياسة في هذه الحرب حتى لو أن الميدان العسكري لم يقل كلمته الأخيرة. خطيئة بوتين أنه كشف عن قوة روسيا العسكرية بدل الاستمرار في التلوبح بها والزعم بضراوتها. وحين تسرّبت تقارير عن استيراد روسيا أسلحة من كوريا الشمالية ومسيرات (أظهرت ضعفها) من إيران، فإن الأمر فضح تصدّعا بنيويا في المناعة العسكرية الروسية، لكنه كشف اختلالا أكثر فداحة في موقع روسيا الجيوستراتيجي وعدم كفاءة للمطالبة بتغير النظام الدولي.

فهم بوتين في سمرقند أن الصين استنتجت بقلق “هزائم” أوكرانيا الروسية واستنتج بدوره احتمال أن تبتعد بكين عن مغامرات موسكو. يحتاج بوتين هنا إلى نصر عاجل ما يعد أوكرانيا بمزيد من النار والجنون.

هل الأمر خدعة؟

لم تلحظْ أجهزة المخابرات الغربية أي تحركٍ للبنى التحتية النووية في روسيا. غير أن واشنطن وحلفاءها يأخذون تهديدات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستخدام السلاح النووي على محمل الجِد. يؤكد بوتين أن الاحتمالَ النووي ليس خدعةً وأن عقيدةَ روسيا النووية تملي على موسكو ذلك.

تقولُ تلك العقيدة إن على روسيا أن تستخدمَ سلاحَ الردع النووي حين تتعرضُ الأراضي الروسية لخطرٍ حتى لو لم يكن نوويا. وبحكم الاستفتاء في الدونباس وخيرسون  وزابوروجيا حول ضم هذه الأراضي إلى روسيا، فإن موسكو أضافت إلى عقيدتها أكثر من مئة ألف كلمٍ يُفترض أن يتولى السلاح النووي الدفاع عنها.

خبراءُ عسكريون غربيون يرون أن ليس هناك قنبلةٌ نووية صغيرة وكبيرة، تكتيكية واستراتيجية، وأن استخدامَ السلاح النووي يحطمُ كل المحرمات الدولية التي قد تُشعلُ حربا نووية. ومع ذلك فإن لا شيء يوحي بأن المواقفَ آيلة إلى مرونة. موسكو تؤكدُ استمراريةَ عمليتها العسكرية رغم نكسة خاركيف. كييف تؤكدُ أنها ماضيةٌ إلى الحدود القصوى لتحرير كامل الأراضي التي تحتلها روسيا منذ عام 2014 وحتى اليوم.

واشنطن، باريس، لندن، برلين وغيرها تؤكدُ الوقوفَ بالموقفِ والمالِ والسلاحِ  إلى جانب أوكرانيا والعزمَ على ردّ الهجوم الروسي هناك. الصين تتفهمُ روسيا وتساعدُها لكنها لا تعلن دعم بوتين في حربه ضد أوكرانيا لا بل تشددُ على الوصلِ مع كييف.

الهندُ، وعلى لسان رئيس وزرائها، لا توافق على الحرب وترى أن توقيت الحرب خاطئٌ. وفيما يقلقُ أصدقاءُ موسكو من تهديدات بوتين النووية، فإن خصومَ روسيا الغربيين يعولون على تبدّل موقف حلفاء روسيا لعزلِ الرئيس الروسي وجعلِ سلوكه مرفوضا من العالم أجمع..غير أن في تفاصيلِ الحروبِ ما يَظهر وما يَخفى في حسابات الكبار.

المخابراتُ الغربية لم ترصد تحريكاً لبنى تحتية نووية روسية، لكنها تأخذ على محمل الجد التهديدات الروسية. استفتاءاتُ موسكو في مناطق أوكرانية وضمها بعد ذلك إلى الأراضي الروسية سيُخضعُ تلك المناطق لعقيدة الدفاع الروسية التي تتيحُ استخدام السلاح النووي إذا ما تعرضت هذه الأراضي أيضاً لأي هجوم. الصراعُ الدولي التدميري قد يكون مناورة لكنه بات من الاحتمالات الواقعية. العواصمُ الكبرى تتحرّكُ في العلن فيما التواصل مستمر  في السرِّ بين واشنطن موسكو لتبادلِ رسائل التهديد والوعيد

في كل مرة يطوّر فيها الزعيم الروسي سلوكه وخطبه وقراراته منذ عشية الحرب حتى الساعات التي تلت “نكسة” خاركيف ، كان يخسر بيادقه، التي للحق كانت تربك الخصوم الدوليين وتعتبر أن وراءها عوامل قوة مجهولة. سقطت أوراق بوتين واحدة تلو أخرى، لدرجة أن ما صدر عن الصين وهو “الشريك بلا حدود” وعن الهند وهي الصديق المخلص يعبّر بلهجات خافتة لكنها نافرة موجعة لا تخطئها عين مراقب عن تبرّم يتصاعد من ذلك العبث القادم من موسكو.

قرار التعبئة الجزئية، ثم تلفيق استفتاء في الدونباس ومقاطعتي خيرسون وزابوروجيا تمهيدا لإعلانها أراض تابعة لروسيا، يندرج داخل ديناميات الهروب إلى الأمام التي تستهدف فرض أمر واقع على الحلفاء والأصدقاء قبل الخصوم. أما التهديد الفظّ باستخدام السلاح النووي فيهدف إلى القبول بهذا الأمر الواقع حتى لو بقيّ ركيكا لا تعترف به دول العالم بما في ذلك الصين والهند ودول الجنوب.

لا يخفي بوتين أن هدف حملته الأوكرانية هو إنهاء الأحادية القطبية في العالم والذهاب نحو منظومة ذات قطبيات متعددة. لا يروق للزعيم الروسي شي جين بينغ ذلك النزوع الروسي نحو طموحات لا يمكن إلا دولة مثل الصين أن تزعمها وقد تملك إمكاناتها. وقد تشعر بكين أنها فقدت وهج ردعها النووي وأوراقها التايوانية بعدما جعل بوتين من الخيار النووي مشاعاً بخسَ ثمنه وانهارَ عائده.

روسيا تخسر ثمار السياسة في هذه الحرب حتى لو أن الميدان العسكري لم يقل كلمته الأخيرة. خطيئة بوتين أنه كشف عن قوة روسيا العسكرية بدل الاستمرار في التلوبح بها والزعم بضراوتها. وحين تسرّبت تقارير عن استيراد روسيا أسلحة من كوريا الشمالية ومسيرات (أظهرت ضعفها) من إيران، فإن الأمر فضح تصدّعا بنيويا في المناعة العسكرية الروسية، لكنه كشف اختلالا أكثر فداحة في موقع روسيا الجيوستراتيجي وعدم كفاءة للمطالبة بتغير النظام الدولي.