الريادة والإرادة: قصة »مقام« متحف الفن الحديث والمعاصر

بيروت ـ جاد الحاج

تؤخذ علينا فرديتنا المبالغة على اساس ان العمل الجماعي المنسق مثمر اكثر ودائم الفائدة. صحيح. لكنها علة من فئة فالج لا تعالج، وما على المصاب بها سوى غلابها واقامة البرهان على ان فرديته خادمة للصالح العام وليست مجرد هوس نرجسي. وسيزار نمور مثال حيّ على تجاوز تلك العلة. حصاة فرديته اثارت دوائر واسعة في بحيرة الثقافة اللبنانية منذ انصرافه الى توثيق ونقد وارشفة الفن التشكيلي ، حتى تأسيسه متحف الفن الحديث والمعاصر »مقام«.children workshop copy

يتمتع سيزار بمزاج الدوري ، لا يهدأ على غصن اطول من نقدتين ، فكأن اجنحته مطاردة بعاصفة من الخطط والاحلام، لكن متى بنى عشاً تراه حرسه وحصنه وانصرف الى إحيائه باخلاص وعناد. اواخر خمسينات القرن العشرين تسجل في الجامعة الاميركية لدراسة ادارة الاعمال. وسافر بعد تخرجه الى الولايات المتحدة لدراسة العلاقات البشرية في جامعة واشنطن. لدى عودته كانت المساحة بين الهورس شو ومطعم فيصل اكبر بكثير من حجمها الجغرافي ، فكل من رسم وكتب ونحت وعزف وتسكع على نواصي الفنون والآداب جاءها وعاد ورحل ورجع… بديهي ان تلسع الفتى الدوّار نحلة الفن وهو يحوم حول البصابصة، غيراغوسيان، عادل الصغير، منير نجم، ناديا صيقلي، هيلين الخال، رفيق شرف وغيرهم ممن تردد الى محترفاتهم ، وشهد افتتاح معارضهم.

خلال الحرب الاهلية، بدلاً من حمل السلاح او الفرار الى الخارج غاص سيزار في مطالعة الكتب المتخصصة في الفن التشكيلي. وشغل رئاسة مجلس ادارة »الرابية« حيث انصرف الى تنظيم مناسبات فنية وادبية واسس مع حفنة من رفاقه »جمعية الفن الحديث« التي اهتمت بحماية اعمال الفنانين وترويج نتاجهم. وخطر له يوماً ان يكتب نقداً لمعرض النحات سامي الرفاعي. احس سيزار بنشوة فريدة عندما رأى ورقته منشورة في »النهار« بعدما قوّم انسي الحاج لغتها، وقّيم اسلوبها المباشر الواضح، بخلاف ما كان يكتب من »شعريات« عن الرسم والنحت آنذاك. شجعه انسي على الاستمرار فأرسل سيزار مقالاته الى »النهارالعربي والدولي« ثم الى الصفحة الثقافية في »النهار«. وكثرت مقالاته بدعم من شوقي ابي شقرا فأصدر » النحت في لبنان« كتابه الاول سنة 1990 ومع مرور ثلاث سنوات كان »الرسم في لبنان« جاهزاً ايضاً للطبع. يقول سيزار نمور: »اهديت الكتاب الاول الى والدي والثاني الى امي اعترافاً بالجميل« وله اليوم في المكتبات 25 كتاباً عن الرسم والنحت .

في السنة العالمية للكتاب 2009 اقبل الجمهور على جناح كتبه في الاونيسكو بكثافة لم يكن يتوقعها. على اثر ذلك الاقبال ارتأت رفيقة دربه غابرييلا شوب ضرورة تحويل النجاح الى مؤسسة. قالت غابرييلا: »لماذا لا نفتتح مكتبة تعنى حصرياً بالكتب المخصصة للفن التشكيلي والتصوير؟ حرام الا تكون تلك المراجع في متناول الباحثين والفنانين والجمهور العريض«. كان رأيها صائباً ووجد سيزار زاوية قريبة من مكتبه في شارع مونو حولها الى مكتبة  ـ ريكتو فيرسو ـ  التي اصبحت لاحقاً عتبة »مقام«.

خاض سيزار نمّورتجارب عديدة في ميدان التسويق واعداد الدراسات التجارية ناهيك عن دخوله مجال الصناعة، لكن الحرب الاهلية عطلت معامل الدهان والكلس المائي واكياس الورق المقوى والصبورات المدرسية التي انشأها على تلة فوق المتوسط شمالاً، سبعة كيلومترات من مفرق قرطبة. وحاول سيزار لاحقاً ان يؤسس في التلة نفسها موئلاً للفنانين ضمن مشروع تعاوني يؤمن لهم السكن والمناخ المدروس للعمل ضمن بيئة عضوية منتجة، الا ان الظروف الإقتصاية بعد الحرب مقرونة بالشتات الذي فرق شملهم حال دون تحقيق حلمه.yousef basbous

وبعد تأسيس ـ ريكتو فيرسو ـ توافد الغائبون والحاضرون من الفنانين والطلبة والباحثين للاستطلاع والإطلاع والتفتيش عن مادة لمشاريعهم، إذ ليس في لبنان مرجعية مؤهلة لدعمهم او توجيههم، مما دفع بسيزار وغابرييلا الى اعداد توثيق اليكتروني شمل 1400 كتاب عن الفن، محلياً، وعالمياً. ويقول سيزار:« راودني وضع كتاب مختص بدراسة الفنون التجهيزية التي بدأت تبرز في البلد منذ اوائل ثمانينات القرن المنصرم، لكنني اكتشفت ان الفنانين الذين ابدعوا في هذا المجال لم يستطيعوا الحفاظ على اعمالهم بسبب فقدان الامكنة المتاحة لتخزينها، فكتبت في النشرة الشهرية للمكتبة معرباً عن استعدادنا »لإيواء« التجهيزات الفنية بعد عرضها من دون مقابل، مع استمرار امكانية حصولهم عليها متى ارادوا. وهكذا تبلورت فكرة المتحف من منطلق وجود مساحات صالحة للتطوير في المصانع المتوقفة الآنف ذكرها«.

الا ان المتحف ليس قاعات للعرض وحسب، بل مؤسسة هدفها إحياء الذاكرة الفنية والمحافظة عليها وتأمين المجالات اللازمة لدراسة ظواهرها، اما عرض الاعمال فهو المرحلة النهائية مدعومة بفضاء رحب مخصص بالتوثيق والارشفة يضم حوالى خمسمئة ملف للفنانين اللبنانيين وسيرة140 صالة عرض عملت واقفلت منذ خمسينات القرن الماضي حتى اليوم. سنة 2013 افتتح سيزار وغابرييلا »مقام« بعد اعلانهما عن مسابقة هندسية شاركت فيها ست جامعات لبنانية موضوعها »كيف نحوًل مصنعاً الى متحف«. وضم حفل الافتتاح – الى

المشاريع التي حققها الطلاب- عدداً من التجهيزات والمنحوتات قدمتها مجموعة من الفنانين اللبنانيين للمتحف.

بدأ »مقام« نشاطه بتحفيز الفنانين على المشاركة في مسابقات موضوعية يواكبها معرض استعادي لفنان وطيد السيرة والنتاج. وتناولت باكورة تلك المسابقات »عصر البرونز« وفنانها الرائد زافين حاديشيان، فاز بجائزتها الاولى غسان غزال. تلتها مسابقة »عصر الخشب« يواكبها معرض استعادي ليوسف بصبوص، فاز بجائزتها الاولى ابراهيم زود، ثم »عصر المعدن« ومعرض موسع لشيخ الحديد بولس ريشا، تشاطر جائزتها رودي رحمه وغسان سابا. وفي السنة الرابعة تناول المشاركون »عصر التدوير« …

يترحرح »مقام« على مساحة عشرين الف متر مربع ، منها اربعة آلاف متر من البناء. وليس في جواره سوى الطبيعة المواجهة للجبال شرقاً والبحر غرباً وشمالاً. ويتضمن مشروع التحول الى مركز ثقافي تفاعلي متكامل، إقامة علاقات ناشطة مع المدارس والمعاهد والجامعات لتنشيط حراك المحترفات الابداعية والبيئية والحرفية، كما يجري استكمال تجهيز بيت الضيافة المعد لاستقبال فنانين من دول الجوار والخارج، وتهيئة الفضاء المناسبة لتكوين مسرح متعدد الإمكانات الأدائية، لا ينقص استكماله سوى المساهمة في تنفيذ مخططه الهندسي الجاهز. وكان آخرما قدمه احتفالية »آخ يا شوشو، الكوميديا اللبنانية من حسن علاء الدين الى زياد عيتاني«.

لقي »مقام« ترحيب الفنانين الرواد الذين عرفوا سيزار وتعرفوا الى غابرييلا، فقدموا للمشروع كمية سخية من اعمالهم، بينهم حسين ماضي )ست منحوتات(، وشيرين روضة بولس التي اهدت المتحف 16 عملاً من نتاج والدتها الراحلة معزز روضة.