الشاعر الفلسطيني توفيق زياد، مناضلًا  وثائرًا..

نسرين الرجب- لبنان

        حمل الشعراء الثوريون حبرهم على أرواحهم، وكانوا صوت الدفاع عن العدالة والمساواة في وجه الظلم والتعسُف، ولطالما كانت القصيدة الثورية الـ “لا” الصادحة في وجه من قال “نعم” المستسلمة والمُهانة!

 يُمثل توفيق زياد صورة المناضل السياسي والخطيب والشاعر الذي ناصر قضية وطنه فلسطين في قلمه ومواقفه، وكان في المنصب السياسي وفي الميدان وفي كل ساح خطيبًا ومؤثرًا سياسيًّا لم يؤثر الراحة والارتهان لعدو سرق الأرض ولم يتوان عن محاولات سرقة الإنسان من لغته وتراثه القومي.

        أعماله وحياته

توفيق زياد 1929- 1994، بين السياسة والشعر والخطابة، لم يرتضِ أن يكون لاجئًا واختار مع من اختار من شعب فلسطين البقاء ضمن الخارطة الفلسطينية ولو كان الحاكم إسرائيليًّا، فقال في قصيدة “هنا باقون”:  “كأننا عشرون مستحيل/ في اللد، والرملة، والجليل/ هنا… على صدوركم، باقون كالجدار/ وفي حلوقكم/ كقطعة الزجاج، كالصبار/ وفي عيونكم/ زوبعة من نار”…

        انتمى للفكر للشيوعي منذ كان في المرحلة الثانوية  ودرس الأدب السوفياتي في موسكو -وفي ذلك  له عدة ترجمات عن الأدب الروسي وترجم أعمال الشاعر التركي ناظم حكمت- ظلّ مخلصًا لمبادئ الحزب في الأدب وفي السياسة، فكان الشعب مصدر إلهامه في النضال من أجل الحقوق، مثّل الفسطينيين سياسيًّا فكان عضو كنيست عن

توفيق زياد

الحزب الشيوعي الإسرائيلي (والكنيست هو السلطة التشريعية للحكومة الإسرائيلية يقوم بتمرير جميع القوانين ويقوم بانتخاب رئيس الوزراء) من ثمّ عن القائمة الجديدة للحزب الشيوعي  وفيما بعد عن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة،  وشغل منصب رئيس بلدية الناصرة لعدة دورات انتخابية من العام 1975 حتى آخر يوم في حياته، وقد يثير ذلك تساؤلات عند من يده ليست في النار حول مفاهيم متنوّعة منها هل وجوده في البرلمان الإسرائيليّ ينفي عنه سمة النضال لأجل حقوق الفلسطينيين؟! وهو القائل: ” أنا ما هنت في وطني ولا صغرت أكتافي/ وقفت بوجه ظلّامي/ يتيمًا، عاريًا، حافي/ حملت دمي على كفي/ وما نكست أعلامي/ وصنت العشب فوق قبور أسلافي..”

 وقف إلى جانب القضية وكان مخلصًا لفلسطينيته ولشعبويته، فكان أول ديوان له “أشدّ على أياديكم” والذي جاء فيه قصيدة بالعنوان ذاته غناها ولحنها العديد من الفنانين منهم الشيخ إمام والفنان أحمد قعبور، صرّح بـ”أغنيات الثورة والغضب”، وتعالى على ألم الفُراق، وكتب ديوان: “أدفنوا موتاكم وانهضوا”  فـ “أم درمان المنجل والسيف والنغم” ، ففي مصطلحات النضال لا وقت للنزف، وهو المفتخر بشيوعيته، كتب: ” شيوعيون” و “كلمات مقاتلة” ، “عمان في أيلول” ونسج “تهليلة الموت والشهادة”  تحدى  سنوات السجن والاعتقال بالكتابة والثبات: “سجناء الحرية وقصائد أخرى ممنوعة”..

        الأدب الشعبي واستعادة الهويّة العربية

        آمن بعروبة فلسطين وحرص على ترميم جسور التواصل مع العالم العربي، فبعد نكبة العام 1948 حدثت قطيعة بين فلسطينيّي الداخل -أو ما أطلق عليهم عرب إسرائيل- والعالم العربي، مما لم يسمح بتوفر مصادر عربيّة  حتى أن توفيق زياد يقول في مقابلة له أنه اضطر لنسخ رسالة الغفران للمعري بخطّ يده حتى يحتفظ بنسخة لها عنده. مع محاولة الإسرائيلي فرض استيعاب ثقافي للهويّة الإسرائيليّة وتشويه الهويّة الفلسطينيّة، لذا اهتم توفيق زياد بالأدب الشعبي، وحرص من خلاله على استعادة جسور التواصل الثقافي مع الثقافة العربية. قام بإعداد دراستين  “عن الأدب الشعبي الفلسطيني”  و”صور من الأدب الشعبي الفلسطيني” مستحضرًا  التراث، وكتب يومياته في ” نصراوي في الساحة الحمراء ”  وأعاد صياغة المرويات الشعبيّة باللغة العربيّة الفصيحة في “حال الدنيا” مستحضرا الحكايات الفلكلوريّة. ومن أسباب اهتمامه بالأدب الشعبي في كتابه ” صور من الأدب الفلسطيني الشعبي” يقول في مقابلة له أنه كان يهدف إلى إنقاذ الأدب الشعبي من الضياع، فهو يرى “أن الأدب الشعبي قمم وأن صانعها المبدع هو الشعب”،  فهذا النتاج يتميّز بمحليّته وخصوصيّته وكان خاضعًا لتعديل الأجيال المتعاقبة، وكونه شفويًّا وغير مدوّنًا رآه مهدّدًا بخطر الضياع ” ولذا من المهم الحفاظ عليه عبر جمعه وتدوينه”، وقد رأى أنّ: معرفة الشباب لهذا التراث هو أمر ضروري ليتربى على تقاليد إنسانيّة ووطنيّة. ويقول: ثمة قصائد شعبية مثل قصيدة الثائر الفلسطيني عوض، يمكن أن تسكب في نفسيّة الإنسان من التضحية ونكران الذات أكثر من ألوف المحاضرات والخطابات والقصائد، وكان يُثني على قيمة الأدب الشعبي وما يعكسه من قيَم عليا تكشف عن عواطف نبيلة وموضوعات رائعة.

قام باختيار القصص وأعاد صياغتها بما يتناسب مع عقيدته الأيدولوجية، كونه من أتباع الواقعية الاشتراكية يؤمن بمبدأ شعبية الأدب وجماهيريته، فالواقعية الاشتراكية تتطلع إلى المستقبل وكان شعراء المقاومة الفلسطينية  تخطوا كارثة الهزيمة في نكبة العام1967، بروحٍ تفاؤلية تتأمّل في المستقبل، فكتب زياد مخاطبًا الإسرائيليين: ”  لا تقولو لي انتصرنا/ إن هذا النصر شر من هزيمة/ نحن لا ننظر إلى السطح، ولكنا / نرى عمق الجريمة..”

تناول الناقد عادل الأسطة، في مبحث له بعنوان: “توفيق زياد قاصًا وناقدًا”، نتاج توفيق زياد النثري والقصصي بالتحديد وتحدّث عن مجموعته القصصيّة  “حال الدنيا” وهي تتألف من ثلاثة عشر قصّة، منها: ( كيف أصبح الحمار شيخا للعسكر، حكاية عن الموت والحياة، حال الدنيا، وجه البقرة الميتة، أبو حنيك وعبد القهوة،.. وغيرها) شارحًا كيف استحضر زياد التراث العربي بغناه مستعينًا بقصص من التاريخ العربي، والنص الديني، والشعر القديم، بعد قيامه بقراءة الروايات المتعددة للقصة الواحدة وتحويلها من العاميّة إلى الفصحى وإعادة صياغتها بما يتناسب مع أيديولجيّته مضمونًا وإعادة تشكيلها مضيفًا ومستزيدًا من ثقافته المتنوعة والغنية ومحملًا إيّاها أبعادًا رمزيًة دالة تتخطى متعة الحكاية  حيث تميّزت بالفكاهة وحسّ السخرية والتهكم وهو حال القصة الشعبيّة.

       الشعر الثوري

كان غاية اهتمامه بالأدب الشعبي تجذير الهوية العربية الفلسطينية،  لذا فصّح القصائد الفلكلورية أيضًا، تغنى بالأرض وأثبت وجوده في الآن والهُنا، كان لشعره نبرته الخاصة، اتسم بالبساطة والوضوح والكلام القريب من لغة الناس، ولم يكلّف نفسه عناء الدخول في متاهات الحداثة من رموز وتناص وأسطورة، أدخل العديد من المصطلحات العامية في شعره وهو أمر عابه عليه النقاد . كان غاية شعره حثّ العقول على توقيد حسّ النضال دومًا، مؤمنًا بفعالية الشعر. يقول عنه الناقد جمال كيتاني: ” قصائده جاءت لتعطي شحنة من الأمل، قصائد تحريضيّة موجهة للوجدان الفلسطيني لكي لا ييأس”.

عندما سُئِل كيف استطاع الجمع بين كونه شاعرًا وسياسيًا مناضلًا وكونه رئيسًا لبلدية الناصرة تحت سلطة حكومة الاحتلال، أشار إلى أن العرب اعتبروهم غير وطنيين بسبب اختيارهم البقاء في فلسطين تحت سلطة الاحتلال “وكأن برهان الوطنية أن تتحول إلى لاجئ!” انتُخب كرئيس بلدية بأكثرية وقد تعرّض لعدة محاولات اغتيال، مُدلّا بذلك أنّه كان ندًّا ومعارضًا غير مهادن، وهو بدأ العمل السياسي منذ المرحلة الثانوية ويقر بصعوبة الجمع بين الأمرين وأنّه لم يكن متفرغًا للكتابة، أنشأ مخيمًا للعمل التطوعي وقام ببناء المدارس.

        يوم الأرض

في آذار العام 1976 انطلقت مظاهرات من قبل فلسطينيي الداخل الحاملين للجنسية الإسرائيلية منددين بقرارات الاحتلال بمدّ موجة الاستيطان حتى تطال المزيد من القرى والأراضي، وعلى إثره اجتمع رؤساء البلديات في مركز بلدية شفاعمرو للتباحث بقرار الإضراب من عدمه وفي الخارج حشود الناس المطالبين بالحفاظ على الأراضي الفلسطينية، لم يتفق بداية المجتمعين على إقرار يوم الإضراب حتى خرج توفيق زياد يومها مطلًّا على الجماهير المحتشدة قائلا “الشعب قرر الإضراب” وبذلك انطلقت المواجهات مع قوات الاحتلال وكان من المقرين في لجنة الدفاع عن الأراضي إضراب 30 آذار 1976 وإعلانه يوم الأرض، واستشهد خلال أحداثه ستة فلسطينيين وجرح المئات بالرصاص الإسرائيلي، كما زُج بآلاف إلى السجون خلال مواجهات استمرت ثلاثة أيام.

شارك زياد في العديد من الإضرابات والمظاهرات منددًا بمخالفات قوات الاحتلال ومطالبًا بحقوق شعبه في كلّ موقع شغله، كان نزيل الساحات لم يكتفِ بإطلاق الخطابات والمواقف من وراء ستار مما عرضه وعائلته للكثير من المضايقات والاعتقال عدّة مرّات، وهو المحب لأرضه وشعبه لم يثنه عارض عن متابعة المسير: ” فارفعوا أيديكم عن شعبنا/ لا تطعموا النار حطب/ كيف تحيون على ظهر سفينة/ وتعادون محيطاً من لهب .. ؟؟”

كان مثقفًا واعيًا متنبهًا للخطابات المسيئة للقضية لذا  ففي إحدى المشاركات الشعبيّة انتقد من على المنبر فتاوى رجال الدين الذين أفتوا بعدم جواز مشاركة المرأة في التظاهرات الشعبية قائلًا: “المشيخة رتبة علمية وكلنا ثقة بنسائنا الحرائر.. “

رحل توفيق زيّاد في الخامس من تموز/يوليو 1994 على أثر حادث سيرٍ مروّع، تاركًا وراءه إرثًا قيّمًا من النضال  والإيمان بقوّة الكلمة المقترنة بالفعل، وقائمة تطول من القصائد الثوريّة الشعبيّة، محملة بروح الحماس والأمل بالإنسان على الرّغم من الهم وطول المسير إلا أن المنجى ليس مستحيلا:

” كبُرَ الهمّ وأضنانا العذاب/ وعطاشى نحن والدّرب طويله/ فمُنا جفّ به حتى اللعاب/ لكن الحلم الذي في القلبِ/ يبقى كالشهاب/ والأمانيُّ .. عذابُ .. سكّره/ وطريق الفقراء الثائرين/ وقلوب الشرفاء البَرَره/ هي مَنجانا الأخير..”

العدد 133 / تشرين الاول 2022