الشرق الأوسط وصراع الكبار

انقلاب الاصطفافات التقليدية وعودة إلى غاز ونفط العرب

محمد قواص

العالم أجمع معنيّ بالحرب الدائرة في أوكرانيا. العرب أيضا. لكن العالم اكتشف هذه المرة أن الشرق الأوسط لم يعد بيدقا ضعيفا تابعا في السياسات الدولية، وأن لاعبيه باتوا يتمتعون بهامش رحب للمناورة وملاعبة الكبار. ولئن تنخرط روسيا والولايات المتحدة وأوروبا والصين في أتون المعركة الأوكرانية، كل لأجندته ومصالحه حتى لو كانت على

الجيش الروسي في أوكرانيا: يحدد نفوذ موسكو المقبل في الشرق الأوسط

حساب مصالح الشعب الأوكراني، فإن جميع هذه الدول منخرطة أيضا داخل ميادين الشرق الأوسط على نحو جعل نفوذها في بلدانه مؤثرا في قرارات دول المنطقة بصدد الموقف من الحدث الأوكراني والعناصر المنخرطة في أسبابه ونتائجه.

عدم الانحياز

لم يعد العرب منقسمين في توجهاتهم السياسية بنفس النمط الذي كان سائدا في عصر الحرب الباردة. لا يوجد انقسام حازم بين شرق وغرب ولا يوجد اصطفاف وجودي لصالح هذا المعسكر أو ذاك. والأمر لا ينحصر فقط في المشهد العربي المتمدد على الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، بل أن السعي لتجنب الانحياز  انسحب أيضا على ما صدر من إسرائيل وإيران وتركيا من مواقف تكاد جميعها تختار المنطقة الوسط على الرغم من تناقض أجنداتها ومصالحها.

ولا شك أن لطبيعة الصراع في أوكرانيا تأثيرا خاصا ومباشرا على الشرق الأوسط يختلف عن تأثيراته على مناطق أخرى في العالم. فالحدث، وحتى قبل إنفجار الوضع الميداني ونزوعه إلى العنف والمأساة، سلّط المجهر على ما تسببه الحرب من أزمة حادة في مجال الطاقة. وفيما درج في السنوات الأخيرة التقليل من مكانة المنطقة في هذا المجال بسبب الإكتفاء الذاتي الذي حققته الولايات المتحدة في مصادر الطاقة وذهاب العالم للاستثمار في الطاقة البديلة

الشرق الأوسط يكشف عن برودة العلاقة مع واشنطن

والنظيفة، إلا أن زلزال أوكرانيا كشف زيف الأمر وانكشاف الدول المستهلكة، لا سيما في أوروبا للطاقة، من النفط والغاز، الواردة من روسيا، وهرولة المستهلكين على ضفتي الأطلسي إلى البحث عن مصادر بديلة للغاز والنفط والطرق بقوة على أبواب المنتجين في منطقة الخليج وشمال أفريقيا.

الابتعاد عن واشنطن

أما وأن الولايات المتحدة ما برحت تردد منذ عهد الرئيس باراك أوباما أنها بصدد “مغادرة” الشرق الأوسط، فإن أزمة أوكرانيا كشفت، ولأول مرة على نحو صارخ، أن دول المنطقة أخذت علما، وتنحو بدورها إلى “مغادرة” الولايات المتحدة. وما بين مزاج إدارة جمهورية وأخرى ديمقراطية، لم تعد المنطقة حليفا أكيدا غير مشروط لواشنطن ولم تعد الولايات المتحدة تملك وكالة حصرية لها في المنطقة.

واللافت أن هذا التحول انسحب على إسرائيل المفترض أن واشنطن هي حليفها التاريخي الاستراتيجي الأول، بحيث أن موقف وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد جاء على استحياء مدينا للحرب الروسية في أوكرانيا، فيما تدعو منابر أخرى إلى التمسك بالحياد في هذا الصراع (أي مداراة روسيا)، وهو أمر لا تراه واشنطن بعيون راضية.

الواقعة تعكس تباعدا في الكيمياء ما بين حكومة ما بعد بنيامين نتنياهو وإدارة ما بعد دونالد ترامب. تكشف أيضا، وربما على نحو غير مسبوق، تباين الرؤى حول الأمن الاستراتيجي لإسرائيل. ولئن دافعت واشنطن في عهد أوباما عن الاتفاق النووي مع إيران عام 2015 بصفته حاميا لأمن إسرائيل من سلاح نووي قد يطل من طهران، فإن سعي

نفتالي بينيت وفلاديمير بوتين: إسرائيل الحائرة

بايدن للعودة إلى الاتفاق بعد “بشارة” ترامب بالخروج منه، أثار الخلاف بين البلدين، لكن أيضا أماط اللثام عن مضي واشنطن في انتهاج خيارات بشأن أمن إسرائيل حتى لو كانت نقيض الخيارات التي تسعى الأخيرة إليها.

روسيا والصين في الشرق الأوسط

جدير تذكّر تقدم العلاقات الإسرائيلية الروسية في عهد نتنياهو بحيث فاق عدد زياراته لموسكو تلك التي أجراها لواشنطن. وجدير تذكّر أن تدخل الرئيس الروسي فلاديمير العسكري في سوريا تمّ التفاهم بشأنه مع إسرائيل قبل أن يتمّ تنسيق ذلك التدخل مع أوباما في نيويورك في قمة جمعت الزعيمين على هامش الجمعية العامة السنوية للأمم المتحدة في سبتمبر 2015 قبل أيام من شنّ القاذفات الروسية غاراتها الأولى في سوريا.

باتت روسيا رقما صعبا في السياستين الداخلية والخارجية لإسرائيل. يصل عدد الإسرائيليين الناطقين بالروسية حوالي مليون نسمة يشكلون لوبي روسي داخل إسرائيل كما يشكلون قوة ديمغرافية لها نفوذها داخل أروقة القرار في روسيا. ثم أن قواعد الأمن الإسرائيلي المتعلق بمقاربة “الأخطار” في سوريا ترتبط على نحو حيوي وحتمي بالاتفاق مع موسكو. وما التوتر الذي سُجل مؤخراً، سواء في الدوريات الجوية الروسية السورية فوق الجولان أو في السجال الروسي الإسرائيلي الأخير حول الموقف في أوكرانيا، إلا مثال على دقّة وخطورة المسّ بالعلاقة بين البلدين وتداعيات ذلك المباشرة على الجبهة الشمالية لإسرائيل.

في السياق نفسه، لوحظ على نحو واضح تحول الموقف العربي بشأن الحدث الأوكراني باتجاه منطقة حيادية بما يعبّر عن توق المنطقة العربية إلى النأي بنفسها عن صراع لا مصلحة لها بالانخراط فيه. وما امتناع دولة الإمارات العربية عن التصويت في مجلس الأمن بشأن مشروع قرار أميركي ألباني حول أزمة أوكرانيا، إلا تعبير مباشر، من على منبر أعلى مؤسسة أممية، عن مصالح الدول العربية في عدم الانحياز في نزاع يتصارع داخله الحلفاء والشركاء.

غير أن ذلك النأي بالنفس يعبر في الوقت عينه عن تغير في أجندات المنطقة بحيث بات لروسيا والصين موقع في الشرق الأوسط وجب أخذه بعين الاعتبار بعد أن كان نفوذ الولايات المتحدة ومصالحها هي الغالبة في المنطقة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. ولا ريب أن للإدارة الديمقراطية الحالية دور إضافي في إسباغ أجواء سوء التفاهم في قراءة علاقة واشنطن بدول المنطقة، والتي بدت غريبة وبعيدة عن طبيعة العلاقات الاستراتيجية التاريخية، لا سيما بين دول المجموعة الخليجية ومصر من جهة والإدارات الحاكمة في البيت الابيض.

تركيا – إيران

والحال أن مباشرة تركيا فتح علاقات جديدة واعدة مع القاهرة وعواصم الخليج، كما التطور الذي طرأ على علاقات أنقرة مع إسرائيل لا يمكن قراءتهما إلا وفق تمرين لبناء شبكة علاقات تأخذ بعين الاعتبار المشترك في مصالح دول المنطقة، كما المشترك في حال علاقاتها مع الولايات المتحدة، سواء في التمسك باستراتيجيتها وتاريخيتها من جهة، كما في ظهور واجهات مختلفة من سوء الفهم في مقاربة واشنطن لأولويات دول المنطقة ومصالحها. لكن بالمقابل فإن لتركيا حسابات أيضا مع روسيا تجعل من الحدث مناسبة لاستعادة “أطلسية” ترنحت في السنوات الأخيرة. ويظهر ذلك في إدانة أنقرة للحرب الروسية في أوكرانيا وتزويدها كييف بمسيرات “بيرقدار” أو في إمساك تركيا بمفاتيح مضيق البوسفور والدردنيل والتلويح بإعادة قراءة اتفاقية مونترو بشأن المضائق.

ولئن يدور الخلاف الإسرائيلي مع الولايات المتحدة حول جدارة أي اتفاق نووي مع إيران في توفير أمن إسرائيل، فإن المنطقة العربية، وفي مقدمها المجموعة الخليجية، تنظر بعين القلق إلى نزوع أعمال “فيينا” إلى معالجة التقنيات التي من شأنها ضبط البرنامج النووي وإعادته إلى “الصندوق”، دون أن تشارك دول المنطقة في صياغة الاتفاق العتيد، ناهيك من أن فريق  روبرت مالي الذي يمثل الولايات المتحدة في مفاوضات العاصمة النمساوية، لا يدرج، وبناء على رفض إيراني، برنامج إيران للصواريخ الباليستية وأنشطتها المزعزعة للاستقرار داخل ملفات التفاوض، وهي أولويات أمنية تجد واجهات مكثفة  لها في اليمن.

باتت المنطقة بحُلٍّ من التزاماتها الآلية في أن تكون طرفا في صراع الكبار. بادرت واشنطن إلى طرق أبواب الخليج تحريا لمصادر بديلة للطاقة لأوروبا. ردت العواصم بأنها ملتزمة بعقود وعهود واتفاقات تمنعها من تحويل انتاجها

تركيا تسلح أوكرانيا وتتمسك بالعلاقة مع روسيا

وصادراتها لأسباب لوجيستية تقنية نعم، لكن أيضا لأسباب تتعلق بمصالح المنطقة مع دول كبرى مثل روسيا والصين كما مع الولايات المتحدة. صحيح أن حسابات دوب الخليج تختلف عن حسابات تركيا وإسرائيل في إدارة العلاقة مع موسكو وواشنطن، غير أن الحدث كشف خللا بنيويا في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بات يتطلب مراجعة في واشنطن لن تنتظر نتائجها دول المنطقة.

العرب والسوفيات

في ظل التوتر في علاقة بعض الدول العربية مع إدارة جو بايدن في الولايات المتحدة برزت مواقف شعبية (متأثرة بالمزاج الرسمي) تميل إلى الرواية الروسية للصراع في أوكرانيا. والمفارقة أن هذه المواقف التقت مع مزاج يساري قومي ممانع قريب من إيران يجد نفسه معنيا بالإيمان بموقف “الحليف” الروسي. والأمر يطرح أسئلة يعيدنا إلى التاريخ الملتبس لعلاقة العرب مع موسكو منذ الحقبة السوفياتية

أثناء حصار القوات الإسرائيلية لبيروت في اجتاح عام 1982، أطلق القيادي الفلسطيني الراحل صلاح خلف (أبو إياد) صرخته الشهيرة: “لو أرسلت موسكو إلى لبنان باخرة قمح عليها علم الاتحاد السوفياتي لتغير شكل المعركة”. لم تفعل موسكو ذلك، تركت الفلسطينيين واللبنانيين لنكبتهم، فيما أنزلت الولايات المتحدة قواتها في بيروت للإشراف على عملية إجلاء قوات منظمة التحرير الفلسطينية.

قد لا تريد موسكو أو لا تستطيع أن تقف مع الحقّ العربي أثناء الصراع مع إسرائيل، مقابل الدعم الغربي الأميركي المبدئي غير المشروط مع إسرائيل. لكن وقائع التاريخ تقصّ علينا حكايات من ذلك التحالف العربي مع الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي أثناء الحرب الباردة، والذي واكب بخبث كل الهزائم التي منيّ بها العرب في معاركهم العسكرية والسياسية ضد إسرائيل.

روسيا وإسرائيل

كان الاتحاد السوفياتي من أوائل الدول التي اعترفت بقيام دولة إسرائيل. تقدمت إسرائيل بطلب العضوية في الأمم المتحدة في 15 مايو 1948. اعترف الاتحاد السوفياتي بعضوية إسرائيل بعد يومين فقط، فيما جاء اعتراف الولايات المتحدة بالأمر في 31 يناير 1949. لا بل أن أدبيات الحزب الشيوعي السوفياتي لطالما اعتبرت قيام إسرائيل إنجازا متّسقا مع عقائده وأهدافه.

لا يهمّ. ظل الخطاب العربي، لا سيما لدى الأنظمة الثورية القومية اليسارية يعتبر الاتحاد السوفياتي حليفا استراتيجيا. عاش الفلسطينيون نكبتهم وخسر العرب حرب 1948. أُنزلت بسوريا ومصر والأردن ما أطلق عليه اسم “النكسة” عام 1967. اجتاحت إسرائيل لبنان واحتلت عاصمته عام 1982. جرت تلك الانهيارات بتأمل من الحليف الوفي في موسكو. حتى في حرب اكتوبر عام 1973 اضطر الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى وقف الحرب والقبول بوقف إطلاق النار بسبب جسر جوي أقامته واشنطن مع إسرائيل لم يقابله جسر جوي من موسكو صوب مصر. فبرر قائلاً: “لست قادرا على مقاتلة أميركا”.

لم تعتبر موسكو يوما العرب حلفاء استراتيجيين ولم تسوّق يوما للأمر. يعترف القادة العرب العسكريين بأن الاتحاد السوفياتي وقف إلى جانب العرب سياسيا ودبلوماسيا، غير أن دعمه العسكري شابه كثير من التجارة والبزنس.

الأمير محمد بن سلمان: علاقة السعودية الباردة مع واشنطن

ينق لأحد القادة الفلسطينيين عن مسؤولين سوفيات ما سمعه منهم أثناء زيارة وفد فلسطيني إلى موسكو في سبعينيات القرن الماضي. وفق تلك الرواية أن الروس في ذلك الزمن لم يثقوا يوما بالعالم العربي ولم يأمنوا لصداقته. ولئن كانت مواقف بعض العواصم العربية واضحة في عداءها للشيوعية والسوفيات وانحيازها إلى جانب المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، فإن موسكو لم تكن واثقة بالعواصم “الثورية”، ذلك أنها، وكما  سمع المسؤول الفلسطيني من موسكو، تعمل على التقرب من موسكو من أجل استمالة الإدارات في واشنطن.

لم تفعل شيئا موسكو لردّ تفوق إسرائيل عن العرب. لم تدعمهم كما تدعم واشنطن إسرائيل. ومع ذلك فإن المشاعر العربية تقف بالفطرة إلى جانب موسكو  فتنتصر لها حين يحتل جيشها أفغانستان ويقلقها تقهقرها هناك. لم تتغير كثيراً هذه المشاعر حتى عندما انتقل مليون روسي للاستيطان في إسرائيل وباتت علاقات روسيا مع إسرائيل استراتيجية حميمة في التحالف والتقاطع والتنسيق والتبادل التجاري والتكنولوجي والتسليحي والأمني. لا يهمّ، يكفينا أنها تدين أحيانا تجاوزات إسرائيل، وتستنكر أحيانا توسّع استيطانها، تماما كما تفعل أوروبا دائما وكما يصدف أن تفعل واشنطن أحيانا. ومع ذلك فإن روسيا حليفتنا.

روسيا وإيران

لا يمكن ان تلام موسكو السوفياتية كما موسكو اليوم على مواقف تتّسق مع مصالح روسيا. المشكلة تكمن في تلك المودة غير المشروطة التي يكنّها بعض العرب لروسيا أيا كان سلوكها في الشيشان أو جورجيا أو مولدافيا أو سوريا أو كازخستان.. أو أوكرانيا هذه الأيام. في الأمر بعض من هيام يساريي المنطقة بالزعامة السوفياتية المندثرة. غادرت الشيوعية موسكو إلى غير رجعة وحلّ مكانها نظام ينتهج رأسمالية متوحشة، لكن بعض بعض العرب لم يغادر

إيران حليفة روسيا ضد حربها في أوكرانيا

موسكو ما زالوا يقف عند جثة سوفياتية لم يعد الروس يلحظوها في يومياتهم.

ولئن يجوز التبرّم المشروع من موقف واشنطن الملتبس من إيران منذ باراك أوباما إلى جو بايدن، غير أن مشاعر العرب الجياشة حيال “حليفنا” في موسكو تغفل أن روسيا هي صديق وحليف وشريك استراتيجي لنظام الجمهورية الإسلامية. لم تكترث موسكو لسلوك ميليشيات إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن. لم يصدر عنها موقف ضد تدخلها في شؤون دول الخليج. وقلما ظهر لها موقف صلب جدي مدافع عن أمن تلك الدول من أخطار بحرية وبرية وأخرى تحملها الصواريخ والمسيرات الإيرانية التي يطلقها الحوثيون من اليمن.

الصراع يجري بين روسيا وأوكرانيا. حريّ بالعرب أن يسعوا لاتخاذ الموقف الحصيف غير المتدخل بصراع الآخرين. وحريّ تثمين مواقف دول الخليج ومصر وعديد من الدول العربية التي التزمت حدود الحياد والمطالبة بالحوار والدبلوماسية ووقف الحرب ووضع حد لمأساة إنسانية لا يختلف وجعها عن مآسي شبيهة في المنطقة.

قد يكون من حقّ العرب أن يتخذوا موقفا معاديا للغرب، والأسباب كثيرة. لكن أي حقّ بالوقوف مع أوكرانيا المُحتلة مع روسيا الغازية؟ ولئن تسعى إسرائيل بصعوبة إلى أخذ مسافة من الولايات المتحدة لصالح الحفاظ على علاقة مع الصديق الروسي العزيز، فكيف للمشاعر العربية الداعمة لروسيا أن تقف مع مشاعر نفتالي بينيت وصحبه في خندق واحد؟

الإسلام وصراع أوكرانيا

تكاثرت التقارير التي تحدثت عن تدخل مرتزقة مسلمين في الحرب الدائرة في أوكرانيا. تتحدث بعضها عن تجنيد روسيا لمرتزقة يتم جلبهم من سوريا ينتمون إلى الشرائح التي والت موسكو وتلقت تدريبا على يد الجيش الروسي منذ تدخل موسكو العسكري في الحرب السورية ابتاداء من أكتوبر 2015. ويتحدث بعضها الآخر عن تجنيد إسلاميين ينتمون إلى جماعات إرهابية، يأتي بعضها من سوريا أيضا، فيما لم تخف منابر روسيا قلقها من أن يفتح قرار الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي باستقبال المقاتلين الأجانب للدفاع عن بلده الباب مشرعا أمام كل المقاتلين أيا كانت هوياتهم. ولئن كان في الأمر بروباغندا متبادلة تستخدم في الحروب لتأثيم الخصم، فإن وجود مقاتلين من الشيشان يثير القلق حول المآلات غير المحسوبة التي يمكن أن ينزلق فيها الصراع.

“يتمتع المقاتلون الشيشان بقوة ومراس كبيرين بسبب الحروب التي خاضوها ضد القوات الروسية في حرب الشيشان الأولى والثانية ما أكسبهم خبرة قتالية عالية”. هكذا تصفهم التقارير الصحفية. ربحت روسيا بقيادة فلاديمير بوتين

الشيشان في أوكرانيا: ما موقف الكنيسة؟

حربيها هناك، فصارت الشيشان بقيادة رمضان قديرون موالية لموسكو وتحول “المقاومون” السابقون إلى “مرتزقة عند الروس”، وفق نفس التقارير.

وحتى إعلان قديروف شخصيا عن مقتل عدد من مقاتليه في الحرب الدائرة في أوكرانيا، كان يصعب على المراقب تصديق ما راج من أنباء وفيديوهات عن توجه “جحافل” شيشانية إلى أرض المعركة، ذلك أنه ليس من المفترض أن من مصلحة بوتين أن يدفع بـ “مسلميه” لمقاتلة “المسيحيين” في أوكرانيا.

والمقاتلون الشيشان الذين كانوا يقاتلون الجيش الروسي كانوا من نفس طينة المقاتلين الإسلاميين الذين تصفهم موسكو بالإرهابيين في إدلب في شمال غرب سوريا. وفيما يدور خلاف موسكو وأنقرة حول تقصير الأخيرة في الفصل بين الصالح والطالح بين مقاتلي تلك المنطقة وفق المعايير الروسية، فإن في عقيدة المقاتلين الشيشان الذين هزمتهم موسكو ودجنتهم قيادة قديروف كثير من عقيدة “الإرهابيين” الذين تبرر روسيا حربها السورية للقضاء عليهم والدفاع عن خصومهم.

الإسلام والكنيسة

ولئن تظهر الضغوط واضحة متصاعدة يمكن رصدها كل يوم على العسكر ورجال المال ويمكن استشراف أوجاعها كلما طال أمد الحرب، إلا أن عوامل جديدة قد تطرأ بما يدق بعنف على أبواب الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وهي الضلع الثالث من ركائز حكم سيّد الكرملين.

تقدمت الكنيسة في روسيا بعد عقود من التهميش إبان العهد السوفياتي الشيوعي لتبارك اندثار الإلحاد وعودة الإيمان إلى المجتمع الروسي. شجعت الكنيسة زوال السوفياتية من تاريخ البلاد وأبدت، كما الكنيسة الكاثوليكية في بولندا وبلدان أخرى من تلك التي كانت واقعة تحت ظلال الهيمنة السوفياتية، حماسة لمباركة التغيير، سواء في دعم الحراك الشعبي في مدن البلاد أو في دعم التحوّل السياسي بزعامة بوريس يلتسين ثم فلاديمير بوتين من بعده.

غير أن علاقة متقدمة ربطت الكنيسة الارثوذكسية بالرئيس الروسي الحالي. من جهة أرادت الكنيسة أن تعزز دورها ومكانتها داخل أروقة الحكم فتنال بذلك بركة انتشارها داخل المجتمع الروسي عامودياً وأفقياً وتنفض عنها غبار شيوعية مندثرة، ومن جهة أخرى فإن الرئيس بوتين، ابن الحكم الشيوعي في بلاده وربيب أجهزة المخابرات السوفياتية، أراد الإطلالة على الروس بصفته مسيحيا أرثوذكسيا مؤمنا تبارك الكنيسة أداءه في داخل البلاد وخارجها، ناهيك من أن بوتين أراد لامتدادات الكنيسة لدى الأرثوذكس في العالم أن تُسخّر خدمة لنفوذه وامتداداته في العالم.

على أن دخول عنصر الدين من شأنه إحراج الكنيسة في روسيا. صحيح أن كنيسة أرثوذكسية جديدة قد قامت في أوكرانيا يباركها البطريرك برثلماوس في اسطنبول انفصلت عن الكنيسة التابعة للبطريرك كيريل في موسكو، إلا أن قيام الجيش الروسي بمهاجمة أوكرانيا المسيحية الأرثوذكسية قد يثير لغطا محرجاً بالنسبة للكنيسة الروسية ورعاياها، وسيصبح ذلك الإحراج داهماً مقلقا مع توالي الأنباء عن قيام المسلمين الشيشان، أعداء روسيا والروس المسيحيين القدماء، بالمشاركة بشنّ الحرب على المسيحيين الأوكرانيين والفتك بهم.

وفيما اعتمدت اليد العسكرية الضاربة للرئيس بوتين، إضافة إلى الجيش الروسي، على مرتزقة شركة فاغنر التي يملكها يفغيني بريغوجين الملقب بـ “طباخ بوتين”، وفيما تروج أنباء عن أنشطة هذه المرتزقة في الحرب الروسية الحالية ضد أوكرانيا، فإن لا عجب أن تبدي دوائر الكنيسة قلقا من “خطيئة” زجّ بوتين بمقاتلين مسلمين في “حرب ضد المسيحيين” حتى لو كان الهدف إخضاع أوكرانيا (وكنيستها). ويكمن تخوّف آخر من أن تشرّع السابقة (عن عمد أو غير عمد) أرض المعركة للمقاتلين الإسلاميين، وأن يصبح استيراد “الجهادية” أمرا جائزا من كافة أطراف الصراع.

الشرق، ثقافة وأديانا وسياسة ومصالح، منخرط في الصراع المعقد محليا ودوليا الجاري في أوكرانيا. الطاقة، المال، المرتزقة، وصراع القوى الكبرى على رسم المشهد الكلي الدولي المقبل تعيد استقطاب العواصم باتجاه تثبيت مكانة لها في الشرق الأوسط. بالمقابل، وللمفارقة أيضا، فإن كل دول المنطقة بدون استثناء، عربية وغير عربية، تسعى، من خلال الحدث الأوكراني أن تثبت دورا ومكانة داخل خرائط المستقبل.

لم يعد العرب منقسمين في توجهاتهم السياسية بنفس النمط الذي كان سائدا في عصر الحرب الباردة. لا يوجد انقسام حازم بين شرق وغرب ولا يوجد اصطفاف وجودي لصالح هذا المعسكر أو ذاك. والأمر لا ينحصر فقط في المشهد العربي المتمدد على الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، بل أن السعي لتجنب الانحياز  انسحب أيضا على ما صدر من إسرائيل وإيران وتركيا من مواقف تكاد جميعها تختار المنطقة الوسط على الرغم من تناقض أجنداتها ومصالحها.

باتت روسيا رقما صعبا في السياستين الداخلية والخارجية لإسرائيل. يصل عدد الإسرائيليين الناطقين بالروسية حوالي مليون نسمة يشكلون لوبي روسي داخل إسرائيل كما يشكلون قوة ديمغرافية لها نفوذها داخل أروقة القرار في روسيا. ثم أن قواعد الأمن الإسرائيلي المتعلق بمقاربة “الأخطار” في سوريا ترتبط على نحو حيوي وحتمي بالاتفاق مع موسكو. وما التوتر الذي سُجل مؤخراً، سواء في الدوريات الجوية الروسية السورية فوق الجولان أو في السجال الروسي الإسرائيلي الأخير حول الموقف في أوكرانيا، إلا مثال على دقّة وخطورة المسّ بالعلاقة بين البلدين وتداعيات ذلك المباشرة على الجبهة الشمالية لإسرائيل.

مباشرة تركيا فتح علاقات جديدة واعدة مع القاهرة وعواصم الخليج، كما التطور الذي طرأ على علاقات أنقرة مع إسرائيل لا يمكن قراءتهما إلا وفق تمرين لبناء شبكة علاقات تأخذ بعين الاعتبار المشترك في مصالح دول المنطقة، كما المشترك في بالتباس علاقاتها مع الولايات المتحدة. لكن بالمقابل فإن لتركيا حسابات أيضا مع روسيا تجعل من الحدث مناسبة لاستعادة “أطلسية” ترنحت في السنوات الأخيرة. ويظهر ذلك في إدانة أنقرة للحرب الروسية في أوكرانيا وتزويدها كييف بمسيرات “بيرقدار” أو في إمساك تركيا بمفاتيح مضيق البوسفور والدردنيل والتلويح بإعادة قراءة اتفاقية مونترو بشأن المضائق.

ولئن يجوز التبرّم المشروع من موقف واشنطن الملتبس من إيران منذ باراك أوباما إلى جو بايدن، غير أن مشاعر العرب الجياشة حيال “حليفنا” في موسكو تغفل أن روسيا هي صديق وحليف وشريك استراتيجي لنظام الجمهورية الإسلامية. لم تكترث موسكو لسلوك ميليشيات إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن. لم يصدر عنها موقف ضد تدخلها في شؤون دول الخليج. وقلما ظهر لها موقف صلب جدي مدافع عن أمن تلك الدول من أخطار بحرية وبرية وأخرى تحملها الصواريخ والمسيرات الإيرانية التي يطلقها الحوثيون من اليمن.

وفيما اعتمدت اليد العسكرية الضاربة للرئيس بوتين، إضافة إلى الجيش الروسي، على مرتزقة شركة فاغنر التي يملكها يفغيني بريغوجين الملقب بـ “طباخ بوتين”، وفيما تروج أنباء عن أنشطة هذه المرتزقة في الحرب الروسية الحالية ضد أوكرانيا، فإن لا عجب أن تبدي دوائر الكنيسة قلقا من “خطيئة” زجّ بوتين بمقاتلين مسلمين في “حرب ضد المسيحيين” حتى لو كان الهدف إخضاع أوكرانيا (وكنيستها). ويكمن تخوّف آخر من أن تشرّع السابقة (عن عمد أو غير عمد) أرض المعركة للمقاتلين الإسلاميين، وأن يصبح استيراد “الجهادية” أمرا جائزا من كافة أطراف الصراع.

العدد 127 / نيسان 2022