الشعر والدفاع عن حرّيّة الإنسان

مقابلة الشاعر الدكتور مازن أكثم سليمان عن “الحركة الشعرية العربيّة الثالثة”

مازن أكثم سلمان للحصاد: “يبدو لي أنَّ موقف الحركة المُضادّ للاستهلاك والسُّيولة والاستسهال الذي يُنشرُهُ عصرُ الرَّقميَّات، لا يعني رفضَها الاستفادة من المُعطيات الإيجابيَّة لهذا العصر.”

“إنَ واجبَنا الأوَّل، بوصفِنا شُعراءَ، يكمنُ في الوفاءِ لمَيدانِنا الرَّئيس، وذلكَ بالعمَلِ الحثيثِ على حمايةِ الشِّعر، والحفاظِ عليهِ وعلى أبعادِهِ الإبداعيَّة والكونيَّة والإنسانيَّة.”

    في المرحلة الراهنة أثّرت الأزمات التي تعيشها البشرية في مختلف نواحي الحياة ومن بينها المجالات الثقافية، فكان لا بدّ من لحظة وعي تحمل مقاومة التسطيح الذي حلّ بالإنسان اليوم، خصوصًا وأنّه بات يتعرّض للتدمير الممنهج في لحظة فقدان العودة إلى الذات والتفكّر في قضاياها

صورة مازن أكثم سليمان

واتصالها بالوجود والحقيقة. من هنا ظهرت تحركات كثيرة وأنشطة محاولةً تحريك الركود الثقافي. بعض هذه التحرّكات استمر وبعضها الآخر واجه طريقًا مسدودًا ولم تكتب له هذه الاستمرارية. أمّا اليوم فنحن أمام “الحركة الشعرية العربيّة الثالثة” التي أسَّسَ لها الشاعر والناقد السوري مازن أكثم سليمان إلى جانب الشَّاعر حسَّان عزَّت وأطلَقَها معهُ في العام 2023، وصاغَ معهُ بَيانَها الأوَّل (بَيان الغضَب الشِّعريّ لا)

في هذا الحوار الذي خصّ فيه هذا العدد من مجلة الحصاد، يوضح سليمان كل ما يختص بهذه الحركة الشعرية المستجدة.

وفي لمحة عنه: مازن أكثم سليمان هو شاعر وناقد سوريّ، حائز دكتوراه في الدِّراسات الأدبيَّة من جامعة دمشق 2015. بدأ بنشرِ الشِّعر والدِّراسات النَّقديَّة منذ العام 1999. نشَرَ عشرات القصائد والنُّصوص والمَقالات والدِّراسات النَّقديَّة والفكريَّة ومُقدِّمات الكُتُب والحوارات في الجرائد والمجلّات والمَواقِع الإلكترونيَّة بانتظامٍ منذ العام 2014. أطلَقَ سلسلة بَيانات (شِعريَّة/ نقديَّة) في الأعوام 2015 و2018 و2020، هيَ على التَّوالي: (الإعلان التَّخارُجيُّ) و(الجدَل النِّسْيَاقيّ المُضاعَف _ الانتصاليّة/ البينشِعريَّة) و(شِعريَّة المُكاتَبَة _ الشّاعرُ السّائِحُ المُستأجِرُ). حازَ جائزة الطَّيِّب صالح العالميَّة للإبداع الكتابيّ _ مَجال الدِّراسات النَّقديَّة (المركز الثَّاني) _ دورة 2018/ 2019. لهُ أكثَر من مَخطوط أدبيّ (شِعر ونُصوص)، وأكثَر من كتاب نقديّ وفكريّ قيْد النَّشر.

هنا الحوار:

الحصاد: يرتبط الشعر ارتباطاً وثيقاً بالإنسان وهو لم يكل يوماً عن العناية بقضاياه وانشغالاته الحياتية والمستجدات التي تطرأ عليه، فالشعر موقف قبل كل شيء. كيف يمكن للشعر أن يحيط بالتغيرات الجذرية التي تحدق بإنسان اليوم وخصوصًا ما تتعرض له البشرية من هدم لإنسانية الإنسان؟

مازن أكثم سلمان إنَّنا في بَيانِنا وحركتنا الشِّعريَّة العربيَّة الثَّالثة، نرى أنَّ الدِّفاع عن أصالةِ فنِّ الشِّعرِ غير منفصلةٍ، أبداً، عن مسألةِ الدِّفاعِ عن حُرِّيَّةِ الإنسانِ وكرامتِهِ في عصر العولمة الرَّقميَّة وثورة المَعلومات والسُّوشال ميديا والذَّكاء الاصطناعيّ، ولا سيما في ضوءِ ما يذخرُ بهِ هذا العصرُ (الذي يُصطلَحُ عليهِ حاليَّاً بعصر “ما بعدَ الحقيقة”/ بغضّ النَّظَر عن رأينا النَّقديّ بهذا المُصطلَح ومَفهومِهِ الرَّاهن) من أزماتٍ حادَّةٍ ومُستجدَّاتٍ غير مَسبوقَةٍ تتَّصِلُ بطبيعةِ الحياةِ وكوارثِ الصِّحَّةِ والبيئةِ، وبتحوُّلاتِ المَنظومات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة، وزُمرِها الاجتماعيَّة الطَّارئةِ والجديدة.

فإذا كانَ (الالتزامُ) في مَفهومنا في الحركة وفي بَيانِها الأوَّل، هوَ التزامٌ عريضٌ بالحضارةِ والعمرانِ البشريِّ، وليسَ التزاماً نظَريَّاً أو أيديولوجيَّاً تقليديَّاً ضيِّقاً، فإنَّ مُفردَةَ (الغضَبِ) الواردة في (عتبةِ عنوانِ البَيان)  تنطوي على موقفٍ وُجوديٍّ عربيٍّ وعالَميٍّ (أوَّليٍّ وجذريٍّ) ضدَّ كُلِّ ما يمتهنُ حُرِّيَّةَ الإنسانِ وكرامتَهُ وخياراتِهِ الحياتيَّةَ والإبداعيَّةَ، وضدَّ كُلِّ ما يُدمِّرُ الحضارةَ والعمرانَ والأصالةَ (الكيانيّةَ/ الكينوناتيَّةَ)؛ فالغضَبُ (إذا حاولتُ ضبْطَ دلالتِهِ هُنا بعُمقٍ أكبَر): بمَنزلةِ خلفيَّةٍ (فكريَّةٍ/ كُلِّيَّةٍ) للموقفِ الفنِّيّ الإبداعيّ الذي ينبغي أنْ يحتفِظَ، حُكْماً، بخُصوصيَّتِهِ وفرادتِهِ وتعدُّديَّةِ توجُّهاتِهِ وأدواتِهِ المُنبثِقَةِ فيهِ، فضلاً عن كونِ (الغضَبِ) أيضاً، وبطبيعةِ الحال، هوَ موقفٌ مُضادٌّ للواقعِ الشِّعريّ والثَّقافيّ الحالي عربيَّاً وعالَميَّاً، كمَا يُظهِرُ نصُّ البَيانِ على نحْوٍ مُوسَّعٍ.

وإلى جانبِ ما سبَق، لابُدَّ من تسجيلِ إشارةٍ حاسِمَةٍ هُنا، نؤكِّدُ فيها أنَّ دلالَةَ مُفردَةِ (الغضَبِ) لا تُحيلُ، أيضاً، إلى المواقف الانفعاليَّة والخطابيَّة المنبريَّة الصَّاخبة والمُباشَرَة التي سادتِ الشِّعرَ العربيَّ طويلاً، قطّ، كمَا أنَّ هذهِ المُفردة لا تُعيدُنا إلى مُربَّعِ الأيديولوجيَّات والتَّأطير الدَّلاليّ المُسَبَّق، فضْلاً عن كونِها أيضاً، لا تُلغي خُصوصيَّةَ الكتابَةِ الشِّعريَّةِ وفرادتِها وأبعادِها الذَّاتيَّةِ والتَّأمُّليَّةِ ذات الأعماق الغائِرَة في الصَّمتِ والغائبِ والمَسكوتِ عنهُ؛ إنَّما تُعضدُ هذا كُلّهُ بجُملَةِ اقتراحاتٍ وآليَّاتٍ تسعَى بوساطتِها إلى المُجاوَزة والتَّجديد والاختلاف عمَّا سبَق، ما استطاعتْ إلى ذلكَ سبيلاً.

الحصاد:  ما سبب تسمية حركتكُم بالحركة الشِّعريَّة العربيَّة الثَّالثة؟

مازن أكثم سلمان تأتي التَّسمية من تحقيبٍ (تاريخيٍّ/ تأريخيٍّ) مُزدوَج للحركة عبرَ مُستوييْن/ حُضوريْن، هُما:

أ_ تحقيبٌ خطِّيٌّ أُفقيٌّ: أي إنَّ الحركة الثَّالثة تأتي بعدَ حركتَي أو مَوجتَي النَّهضة/ اليقظة العربيَّة/ الإحياء العربيّ: وهيَ (الحداثة الأُولى) التي بدأتْ في مطلع القرن التَّاسع عشر، و(الحداثة الثَّانية): التي بدأتْ ملامحُها الأُولى في مطلع القرن العشرين، ونضُجَتْ في أواسطِهِ.

وأستطيعُ القولَ إنَّ هذا التَّحقيب ينطوي، وفي آنٍ معاً، على تقاطُعِ حركتِنا معَ الحركتيْن السَّابقتيْن من جانبٍ أوَّل، إذ تبنِي عليهما وعلى مُنجزاتِهِما القيِّمَةِ كافَّة، وعلى تجاوُزٍ لتلكَ الحركتيْن من جانبٍ ثانٍ، ولكثيرٍ من أفكارِهِما النَّظَريَّة والتَّنظيريَّة إبداعيَّاً وفكريَّاً ومَعرفيَّاً، وهيَ القضايا التي تسعى الحركة إلى تفكيكِها، لتحقيقِ قطيعَةٍ (ولَوْ نسبيَّةٍ) معها.

ب_ تحقيبٌ عموديٌّ: فالحركةُ الثَّالثة مُتجذِّرةٌ في العصر العربيّ والعالَميّ الحالي المُسمَّى اصطلاحيَّاً: (عصرُ ما بعدَ الحقيقة)، ومُرتبطةٌ، حُكْماً،

شعار الحركة الشعرية

بطبيعتِهِ وبمُستجدَّاتِهِ التِّقنيَّة والمَعرفيَّة والصِّحِّيَّةِ والبيئيَّة، وبانعكاساتِ ذلكَ على المُستوياتِ السياسيَّةِ والاقتصاديَّةِ والزُّمَرِ الاجتماعيَّةِ الطَّارئةِ والمُستجدَّة.

الحصاد:  ما هي تطلعاتكم ورؤيتكم المستقبلية وما هي رهانات النجاح للحركة الشعرية الثالثة وإلى أي حد يمكن أن تذللوا العقبات التي قد تواجهكم في ظل التقدم الرقمي؟

مازن أكثم سلمان أكَّدنا في بَيانِ الحركة، من حيث المبدأ، على (فلسفةِ المُبادَرة) التي تُخوِّلُ أيَّ إنسانٍ، أو أيَّ شاعرٍ، أنْ يقولَ كلمتَهُ، وأنْ يعلنَ موقفَهُ في هذهِ الحقبة، وفي أيَّةِ حقبةٍ أصلاً؛ فالمُبادَرةُ هيَ مَسؤوليَّةٌ وجوديَّةٌ وحضاريَّةٌ، والدِّفاعُ عن أصالةِ فنِّ الشِّعر العربيّ هو دفاعٌ عن الأبعادِ الحضاريَّةِ والهُوِيَّاتيَّةِ بمَعناها الثَّقافيّ التَّعدُّديّ والاختلافيّ المَفتوح، لا بمَعناها الأيديولوجيّ الأحاديّ أو العنصريّ الشُّوفينيّ المُتعالي والنِّهائيّ والمُغلَق.

وبناءً على هذا الفَهم العريض للعمَل والفعل والتَّأسيس البنَّاء، يبدو لي أنَّ موقف الحركة المُضادّ للاستهلاك والسُّيولة والاستسهال الذي يُنشرُهُ عصرُ الرَّقميَّات، لا يعني رفضَها الاستفادة من المُعطيات الإيجابيَّة لهذا العصر، ولذلكَ تتطلَّعُ الحركةُ إلى إنشاءِ منابرَ إعلاميَّةٍ وإبداعيَّةٍ متنوِّعةٍ، وإلى إقامةِ فعاليَّاتٍ وحواراتٍ مُتفاعِلَةٍ مع مُختلَف الفُنون ومُبدعيها ونشاطاتِها عربيَّاً وعالَميَّاً، وإلى تمكينِ الشُّعراءِ والنُّقَّادِ والمُنظِّرينَ، ورفدِ الفضاءِ الإبداعيِّ بالمَطبوعاتِ والموادِّ الرَّقميَّة والمُختاراتِ الشِّعريَّةِ والنَّقديَّةِ، وإلى إعادةِ قراءةِ تُراثنا الشِّعريِّ والإبداعيِّ القديم والحديث، ربطاً بالواقعِ والحياةِ ومُستجدَّاتِ العصر، وتصبُّ جميعُ هذهِ الأهداف في بوتقةِ السَّعي إلى (ترخيص الحركة) في أقربِ فرصةٍ مُمكنةٍ، من دونِ الارتباطِ بأيَّةِ جهةٍ رسميَّةٍ لا شكلاً ولا مضموناً ولا تمويلاً، حيثُ يرفضُ أعضاءُ الحركةِ رفضاً قاطِعاً أيَّ تفريطٍ باستقلاليَّتِها تحتَ أيِّ ظرفٍ كانَ، وذلكَ بوصفِها (كياناً مَرِناً) لهُ قرارهُ الخاصّ، وتوجُّهاتهُ الذَّاتيَّة الحُرَّة.

الحصاد: ما الذي يميز الحركة الشعرية الثالثة عن المحاولات التي سبق أن فقدت استمراريتها؟

مازن أكثم سلمان تُجيبُ الحركةُ مبدئيَّاً عن سُؤالِ: ما جديدُها؟ عبرَ مُستوييْن من الرُّؤى/ الأفعال الدَّلاليَّة، هُما:

أ_ عبرَ المَحاوِر والاقتراحات التي انطوَى عليها بَيانُها الأوَّل، من حيثُ المبدأ، وهذهِ بعضٌ من تلكَ العناوين والأفكار المحوريَّة التي لا تُغنِي عن قراءةِ نصِّ البَيانِ (متناً وحواشٍ) كامِلاً، كمَا أظنُّ، وهيَ:

]فلسفةُ المُبادَرةِ بوصفِها مَسؤوليَّةً _ دلالةُ (الغضَبِ) الجديدةُ _ التَّمييزُ بينَ (العدمِ الأصيلِ) و(التَّعديمِ المُلَفَّقِ) _ الالتزامُ الحضاريُّ الكُلِّيّ _ غربالُ الضَّميرِ الحضاريِّ _ من معياريَّةِ المُبدِع/ الفرد الشَّخص العابِر إلى معياريَّةِ المُبدِع/ المَشروع الكُلِّيّ _ طبَقاتُ نداءِ الشُّعراءِ _ استراتيجيَّاتُ التَّسميةِ الشِّعريَّةِ _ الرُّتبةُ (ف)؛ أي: رُتبةُ فارسٍ حضاريٍّ[.

ب_ وعبرَ مَشروعِها الإبداعيّ والتَّنظيريّ والعمَلانيّ التَّراكُميّ المُنطلِق الآن، والذي يجلبُ معهُ، كمَا يُفترَضُ ويُتوقَّعُ، مُسوِّغاتِهِ ولَوازمِهِ وآفاقِهِ.

و لعلَّ ربطِ الحركة سُؤالَ المصيرِ الشِّعريّ/ الإبداعيّ بأسئلَةِ المصيرِ الكيانيّ والوُجوديّ بما هيَ أسئلَةُ الهاجِسِ الحضاريِّ والعمرانيِّ الحيويَّة والجذريَّة (الكُلِّيَّة)، هوَ ما يجعَلُ موقفَ الحركة من الشِّعر غير منفصلٍ عن مَوقفِها من الوُجود، ذلكَ أنَّ (مُناداةَ الضَّميرِ الحضاريِّ) تُشبِهُ الفرنَ الصَّاهِرَ للمُخيِّلَةِ والفكرِ والتَّجارِبِ سَعياً إلى تحقيقِ ما أصطلِحُ عليهِ بِـ (ثيمَةِ التَّوازُن الجَماليّ)؛ أي إنَّ الشِّعرَ هوَ: توازُنٌ (جَماليٌّ/ فكريٌّ) بينَ شِعريَّةِ الإبداع وشِعريَّةِ الوُجود.

يبقى سُؤالُ النَّجاحِ أو الإخفاقِ مَنوطاً بالزَّمنِ والتَّجارِبِ والتَّجريبِ وتراكُمِ الخبراتِ، وبمُواجهَةِ محكِّ الاختباراتِ الآنيَّةِ والكُبرى، فلربَّما يظهَرُ (شيءُ النَّصِّ غيرِ المَحدودِ) حسبَ تعبير غادامير، أو ينكشِفُ (فائضُ الوُجودِ) حسبَ تعبير ريكور، أو يولَدُ (الشَّاعِرُ/ الفارسُ الحضاريُّ الخلَّاقُ)، الذي يُكثِّفُ تطلُّعاتِ الحركة والعصر، وآفاقِهِما.

الحصاد: نعيش في عالم يعمل على تغييب اللغات لصالح فروع أخرى. ما هو دور هذه الحركة الشعرية العربية الثالثة في الحفاظ على اللغة العربية وإعادة الاعتبار لها؟

مازن أكثم سلمان لمَّا أطلقتِ الحركةُ على نفسِها تسميَةُ (شِعرِ الحضارة العربيَّة)، ولمَّا كانت هذهِ التَّسمية تنطوي على مُحاوَلَةٍ حدسيَّةٍ/ استشرافيَّةٍ لرسْمٍ/ ترسيمٍ كُلِّيٍّ لمَعالِمِ الدَّربِ الإبداعيَّةِ والكيانيَّةِ القادِمة حضاريَّاً، مع حفظِ الحُرِّيَّاتِ والخُصوصيَّاتِ والتَّفاصيلِ والاتِّجاهاتِ، أو تعليقِها ووضْعِها بينَ أقواسٍ بانتظارِ اقتراحاتِ المُبدعينَ التَّراكُميَّةِ شِعراً وتنظيراً ونقداً ومَواقِفَ، والتي يُؤمَلُ منها أنْ تمخُرَ عُبابَ الجديدِ والمَجهولِ والمُختلِفِ والمُنفتِح على الكونيّ والعالَميّ وغيرِ المُفكَّرِ فيهِ، فإنَّ كُلَّ ذلكَ ينطوي حُكْماً على تطلُّعات الحركة في تمكينِ اللُّغةِ العربيَّة وتجذيرِها؛ ذلكَ أنَّ الحفاظَ على أصالةِ الفنِّ العربيِّ الأوَّل هوَ حفاظٌ على لُغتنا العربيَّة التي تتعرَّضُ، لمُحاوَلاتٍ شَرِسةٍ للهدمِ والإبادةِ.

فالإشكاليَّةُ ليسَتْ في (اجتياحِ) اللُّغاتِ الأُخرى (أو التِّقنيَّات والرَّقميَّات والبصَريَّات والذَّكاء الاصطناعيّ) لعُقول الأجيال الجديدة وأفكارِها ومُمارَساتِها في لحظةِ تخلُّفٍ حضاريٍّ قد تمرُّ بها أيَّةُ (أُمَّةٍ) أو أيُّ شعبٍ، فحسبُ، وليسَتْ في سيادةِ سياساتِ تبعيَّةٍ مُمنهَجة (نسبيَّاً)؛ إنَّما بما ينطوي عليهِ ذلكَ من عمليَّةِ فصلِ الوُجدانِ الجمعيّ عنِ الانتماءِ للوعاءِ الثَّقافيِّ العربيّ، وإفقادِ ذلكَ الوُجدان الثِّقةَ بالذّاتِ والهُوِيَّةِ بدءاً من سَلْخِ النّاسِ عن لُغتِهِم العريقةِ، ولا سيما عبرَ أحدِ أهمِّ حَواملِ هذهِ اللُّغة؛ أي: الشِّعر العربيّ..

لذلكَ فإنَ واجبَنا الأوَّل، بوصفِنا شُعراءَ، يكمنُ في الوفاءِ لمَيدانِنا الرَّئيس، وذلكَ بالعمَلِ الحثيثِ على حمايةِ الشِّعر، والحفاظِ عليهِ وعلى أبعادِهِ الإبداعيَّة والكونيَّة والإنسانيَّة، وهوَ المدخل المِحوريّ، في اعتقادِنا، في الحفاظِ على أيِّ مُقوِّمٍ آخَر من مُقوِّمات انفتاحِ هُوِيَّتِنا الحاضِرَة، والمُستقبليَّة.

الحصاد:  ما الفرق بينَ (الأُمناء) و(الأمناء الواصلون)؟ وما أهمِّيَّة اختيار فئات عمرية مختلفة لتولي المهام في هذه الحركة؟

مازن أكثم سلمان لابُدَّ من التَّأكيد أوَّلاً أنَّ هذهِ الحركة هيَ ليسَتْ تنظيماً سياسيَّاً أو حزبيَّاً، بقدر ما هيَ تجمُّع (شِعريّ/ ثقافيّ) واسِع يأملُ بأنْ يغدوَ تيَّاراً مؤثِّراً وفاعلاً، ولهذا ليسَ من شأنِ الحركة وأعضائِها الاهتمام بأيَّةِ مَكاسِبَ أو مُحاصَصاتٍ أو حتَّى مَناصِبَ خارِجَ دائِرَةِ العمَلِ والفعلِ والتَّأثيرِ لخدمةِ الشِّعر والإبداع والثَّقافة.

فالحركةُ تمتلكُ ذاتيَّاً وداخليَّاً مُرونَةَ دُخولِ أُمناء جُدُد، وخُروج آخَرين باستمرار، وذلكَ تبعاً لمُقتضيات العمَل المَطلوب، وفعاليَّة الأعضاء ومُساهماتِهِم، حيثُ سيتمُّ تحديثُ الأسماء كُلّ فترة حسبَ النِّظام الدَّاخليّ للحركة، ولا فرقَ تراتبيَّاً أو مَعنويَّاً بينَ (الأُمناء) و(الأُمناء الواصلون) إلّا من حيث طبيعةِ العمَل؛ فالواصلونَ يقَعُ على عاتقِهِم فعلُ تمثيلِ الحركةِ عمَليَّاً (وليسَ نظَريَّاً فقط) في البلدان والأماكن التي هُم فيها، ورصدُ النَّشاطاتِ الشِّعريَّة والإبداعيَّة في تلكَ المناطق، والرَّبطُ مع الحركات والتَّيَّارات والمُؤسَّسات الفاعلة شِعراً وإبداعاً.

إنَّ (الأُمناء) أساسٌ مَعنويٌّ لا سُلطويٌّ أو رقابيٌّ، وحصانةٌ وُجدانيَّةٌ وجَماليَّةٌ للشِّعر والإبداعِ، ولعلَّ هذا ما يُشجِّعُ بالتَّأكيد على وُجود الشَّباب لا بوصفِهِ وُجوداً شكليَّاً مُكمِّلاً؛ إنَّما بوصفِهِ ضرورة حيويَّة مُلحَّة للحركة وصدقيتِها وحيويتِها، إلى جانبِ وُجودِ الأسماء الكبيرة عمريَّاً وتجربةً، بمَا يُحقِّقُ تفاعُلاً بنَّاءً وأصيلاً كمَا نأمل ونتمنَّى.

أخيراً، وليسَ آخِراً: من الضَّروريّ التَّأكيد أنَّ الحركة لا تُمثِّلُ أو تدَّعي أيَّةَ وصايةٍ فوقيَّةٍ على أحدٍ، ولا تُصادِرُ خياراتِ الشِّعرِ أو الشُّعراء، ولا يعنيها أبداً أيّ تصنيفٍ شخصيٍّ ضيِّقٍ؛ بقدرِ ما يهمُّها الإسهامُ في (الفرزِ الحيويِّ الكُلِّيِّ) إبداعيَّاً وحضاريَّاً خارِجَ أيَّةِ حساباتِ ربحٍ أو خسارةٍ أو مُكتسباتٍ باليةٍ وبائسة.

فالحركةُ لا تدَّعي امتلاكَها حقيقةً نهائيَّةً مُتعاليةً وحاسِمةً، ولا تقولُ بحيازتِها الوصفةَ الوحيدةَ الشَّافيةَ، أو بمَعرفتِها، وحدها، الطَّريقَ الصَّحيحَ السَّالِكَ في الإبداعِ والوُجودِ..

حسبُها أنْ تُواظِبَ على العمَلِ كما تتمنَّى وتطمَحُ، وأنْ تُقدِّمَ اقتراحاتِها بجسارَةٍ واستمراريَّةٍ، وأنْ تطرحَ مُحاولاتِها إبداعاً ومَواقِفَ بجُرأةٍ، ومن دونِ أيَّةِ مُوارَبةٍ أو ميوعةٍ أو تراخٍ مَذموم.