“الشِّعر هو تصفية حساب مع الواقع”

عندما اقترح الشاعر الألماني الكبير هولدرلين (1770 – 1843) “السّكن شعريًّا فوق هذه الأرض”، ربما كان على يقين، بحدْس الشّاعر، أنّ هذه الأرض ستضيق يومًا بساكنيها، فيحتلّ الشّاعر مساحاتها الافتراضية، قبل أن نصبح جميعًا كائناتٍ افتراضيّة.

نظريّة الإقامة الشّعريّة على الأرض، أغرتْ الفيلسوف الوجوديّ المعاصر هايدغر، ليكرّس، عبرها، فكرته القائلة إنّ الشّعر هو المنقذ من الخطر “خطر نسيان الوجود”، في عصرٍ تسلب فيه التكنولوجيا فكر الإنسان لتحوّله من “فكر متأمّل إلى فكر حاسب”.

هايدغر الذي أيقن أنّ “الشّعر يقول المقدّس والفلسفة تقول الوجود”، وجد أنّ في القول الشّعري يمتلك الإنسان القدرة على التخلّص من قبضة الواقع الذي تسود فيه روح التأويل التقني للفكر، وبه يستعيد أصالته المفقودة، ويعود إلى الموطن الأصلي، إلى جوار الوجود.

السؤال العميق والجدلي عن دور الشعر، نستعيده دومًا كما طرحه العديد من الفلاسفة والمثقفين والشعراء والكتّاب، وهل فعلًا نستعيد معه أصالتنا المفقودة؟ هل للشعر وظيفة يضطلع بها، ومكانة قِيَميّة في زمن التردّي القِيَمي؟ هل هو حقًا حارس القِيم، أم أنّ “وظيفته تختلف باختلاف العصر” كما وصفه الشاعر الإنجليزي تي إس إليوت (1888 – 1965)؟

أثبت الشعر أنه حاجة وضرورة وليس مجرد ترَفٍ نخبوي. ومهما اختلفت التفسيرات والشروح يبقى عصيًّا على التعريف، وتبقى مقولة أفلاطون  إن “الشّعر هو ذلك الشيء الخفيف، المجنّح والمقدّس” هي الأقرب إلى التخفيف من وطأة صعوبة تعريفه. ولو أن التعريف الذي يطيب لي هو ما قاله الشاعر الإسباني لويس غارثيا مونتيرو: “الشعر هو تصفية حساب مع الواقع”. هذا الواقع الذي يشدّنا دومًا لمغادرته فنبحث في الشّعر عن الملاذ، على رغم التغيرات التي طرأت على القول الشعري، إلا أنه يبقى الجوهر الذي لا ينال منه الزمن. فهو يخضع للتطور ليواكب عصره لأنه مرآة الزمن والعصور، لكنه يأبى الخروج من كينونته ودائرة الدهشة المطلقة التي نحتاج أحيانًا إلى الضياع في متاهاتها.

قيل يومًا عن موت الشّعر، وقيل إنّ لا مكان للشعر والشعراء في زمن الذكاء الاصطناعي واقتصاد المعرفة والثورة الرقمية، لكن هذا التراث الإنساني الضارب في جذوره، أثبت أنّ حمولته الثقافية والمعرفية والحضارية والإنسانية والقِيمية هي جعبة المستقبل للكائنات الناظرة إلى غدِها من خلال ثراء ماضيها. وعلى هؤلاء القائلين بموت الشّعر، يجيب الشّاعر والمسرحي والرسام الإسباني غوستابو أدولفو بيكير (1836-1870): “لا تقولوا بأن قيثارة الشّعر قد صمتت، وإنّ كنوزه نضبت ومواضيعه نفدت، فبالإمكان أن لا يكون هناك شعراء، ولكن سيكون هناك شعر دائمًا”…

العدد 133 / تشرين الاول 2022