ساندرا صهيون، لوحات ومنحوتات ناطقة

ساندرا صهيون للحصاد: “نجت أشجار الأرز من العواصف التي لا نهاية لها، وكانت شاهدة على العديد من الصراعات ومع ذلك لا تزال عميقة الجذور، وهي التي في الصمت تهمس وتدعو بالسلام إلى قلوب اللبنانيين، ما يجعلنا نعتقد أنها بلا شك “أرز الرب”.

بيروت من ليندا نصار

    يمكن للإنسان أن يبلغ دروب الحرية بوساطة الفنّ إذ يبتعد عن مضايق الرؤية، فيفهم كلّ عمل فنيّ من خلال رؤى عميقة ومنظور جديد. وللفنان رسالة الولوج إلى أعماق النفس الإنسانية وتجميل العالم وتنوير الفكر. فللفن سلطة ضد

ساندرا صهيون

كل أشكال اظلم والطغيان بل هو ثورة على التقاليد البالية، كما أنه  يحرّر الإنسان من الإيديولوجيات والتعصب. إنه الجامع بين الإنسانية جمعاء عبر انفتاحها على بعضها البعض.

الحصاد زارت معرض الفنانة التشكيليّة ساندرا صهيون في منطقة شبروح/ فاريا وكان لها بعض الانطباعات حول منجزاتها الإبداعيّة بالإضافة إلى مقابلة موجزة أجرتها مع هذه المهندسة الفنانة حول تجربتها، باللإضافة إلى لمحة عنها.

     تمثّل الفنانة التشكيلية والمهندسة ساندرا صهيون تجربة متميزة من الإبداع في لبنان، هي التي حازت على الشهادة في الهندسة الداخلية وتخرجت من الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ألبا)  وقد كان الفنّ جزءًا أساسيًّا من حياتها، وقامت بعدّة معارض في لبنان والدول الأوروبية.

    تميّزت الفنانة التشكيلية بجمالية خاصة ابتدعتها وجعلت من منجزاتها مغايرة مختلفة في أشكالها عن السائد وخارجة عن المألوف لتقدّم منحوتات ولوحات تشكل هوية الإنسان وتنتمي إلى الفنّ المعاصر.

    تليق منطقة شبروح  بعزلة الفنانين انطلاقًا من المناخ الجميل الهادئ إلى الصفاء فالنقاء الذي يجعلك تشعر بلقاء الروح المطلقة. إنّه المعرض الذي حمل عنوان “جذور وأجنحة”، فمن يزوره ويتأمّل اللوحات والمنحوتات الثلاثية الأبعاد، يدخل في رؤيته إلى أعماق الفن المعاصر، كما يمكنه أن يكشف عن مناطق الكلمة الصاعدة من صرخة الوجع الإنسانيّ. فهذا المعرض يشكّل صورة الوطن والإنسان والحب في هذا العالم.

     للفنانة بصمة خاصة تتجلى من خلال لوحاتها المعبّرة التي تنطلق بلسان الطبيعة وأشجار الأرز العظيمة حيث البحث عن هوية الإنسان بهشاشته ومناطق ضعفه وقوته في آن. وقد تمكّنت صهيون من بناء الأسئلة الخاصة والتي تجعل منحوتاتها ناطقة بمكنونات البشرية. هذه الريشة والألوان التي امتزجت في قوالبها الخاصة تدعو الإنسان إلى التأمل للكشف عن عمق المعنى.

     تراها تنطلق من ذات تخاطب بها الكون بكائناته عبر الرّيشة الألوان والمواد المصنوعة من الحديد المعتّق، لتشارك المتلقّي هذا الوجود وتنقله عبر الزّمن بأسلوب وتقنيّة مميّزة، تجسّدها على طريقتها. وكأنها تستمدّ مادتها من الاستعارات الكونية التي جعلتها تبلغ  مناطق آمنة لكي تحتفي بالأمل.

     تشتغل الفنانة على التراث الفنيّ اللبناني ففي لوحاتها أيضًا فيروز وجبران وغيرهم من رموز هذا البلد المجروح… كذلك إنّها تجسّد التحوّلات التي أصابت الوطن خصوصًا في ثورة 2019. يمكن الاعتبار أنّه في هذا المعرض جزء ذاكرة بيروت الممتدة عبر الأجيال حيث مرّ فيها الشعراء والفنانين.

    إذًا لكلّ لوحة قارئ ورؤية خاصة والمتأمل في تجربة  المهندسة ساندرا صهيون يمكنه أن يشعر أن ثمة علاقة تجمعه بالأدب، وكأنّها تكتب قصيدة تتعمّق في جذورها كما جذور أشجار الأرز العظيمة الخالدة في غابات أرز لبنان.

    جسّدت الفنّانة التّشكيليّة ساندرا صهيون تجربتها الخاصّة في قالب جماليّ لا تتحكّم به القيود، لنستخلص منها لوحات تثير الدّهشة  وتدعو إلى الحيرة بين المتوقّع واللّامتوقّع. فتشارك المتلقّي بأغلى ما لديها. إنّها لا ترسم بالرّيشة، بل تعتبرها وسيلة لتعبر سماء الرّوح، وبالألوان تعمل على تجميل ما أصاب هذا العالم من تشوّهات.

     في منجزاتها الإبداعيّة تقنيّات فنّيّة تعبّر عن صهر التّشتّت الّذي يعتري الإنسان وطموحه نحو التحرّر وبلوغ الصفاء في صور جماليّة.  لا تعبّر ساندرا صهيون عن ذاتها فقط بل تختصر الإنسان والوجود بأكمله. إنّها تصنع منحوتاتها ضمن قوالب جماليّة تدعوها إلى حركة من التّناغم والانسجام، فتتكوّن منها أسرار الكون الخفيّة. هنا نستطيع القول إنّه عندما تنظر إلى هذه اللّوحات والمنحوتات الثلاثية الأبعاد، تشعر وكأنّك تزيح الستار عن تحفة مصنوعة بالرّوح، من هنا لا بدّ من أن تجد الأمل على الرّغم من الألم. وهذا ما يسمّى بالوحي الّذي يصيب الفنّان، فيخلق لنفسه فسحة أمل وفضاءات جديدة، تحوي المتناقضات، فمن الحزن إلى الفرح، ومن اليأس إلى الأمل، يتكوّن العمل الإبداعيّ.

      تعبّر ساندرا بمزاجيّة خاصّة، تلعب بالألوان والأشكال، وهي تعمل على التّصوير ليحمل العمل أكثر من تأويل حتّى لتكاد تشعر أنّك أمام قصيدة تبعثر فيها ما تبقّى من صور الذّاكرة، لتخرج بخلاصة تعبّر عن صرخة المرأة الغارقة في دوّامة التّساؤلات، والّتي تستعجل الغيب لتدرك مستقبلاً مجهولًا.

    تشتغل ساندرا صهيون على ثيمة “الوطن والمرأة التي تمثّل دورًا قويًّا فيه” بكل نزاعاته وثوراته ودعوة أبنائه إلى التحرّر والحريّة، تستخرج من الهامشي واليومي تفاصيل تعبّر فيها عن الثورة والوطن وسياسة القمع وخضوعه لسطوة الظلم والفساد ويبدو ذلك  مثلًا من خلال منحوتة المرأة حيث ترسم صورة الحامل بثورة والتي لا بدّ من أن تبلغ الحريّة في نهاية المطاف.

     إذًا تشكّل هذه المنحوتات صورة عن الواقع بتمثّلاته المتعدّدة ففي فنّها انفتاح على ممكنات التأويل حيث الاشتغال على الوجوه والبحث عن المنفس والأمل. بمراقبة اللوحات تلاحظ الاشتغال على الحديد الذي يحمل لون الصدأ بكلّ  النتوءات وكأنها تحاول تحرير الوطن من خلال الفن المعاصر،  كما يمكن القول إنّه التحريض على الجمال والذهاب بالفن بكل أشكاله في مواجهة للدمار الذي أصاب بيروت لبنان. وكأنّ اللوحة بحد ذاتها ينبع منها نصّ أدبي يحتفى به ولا يقلّ شانًا عن ديوان شعريّ.

     لعلّنا أمام معرض يحمل صورة الإنسان بتمزقاته ومعاناته، والقرارات الحاسمة الذي يضطرّ أن يتّخذها خصوصًا هذا الجيل الجديد الذي يتطلّع إلى المستقبل، إذ تجسّد الفنانة فيه أخيلتها وترتبط رؤيتها بعظمة لبنان بوساطة الاشتغال على الألوان وامتزاجها وحركيتها فالفن فعل امتلاء كما الكتابة، والفنّ لغة خاصة تعبّر عن خيوط الحياة، وله تقنيات تشكّل ثورة ضد أشكال الموت والقتل الرمزي الذي يعيشه الإنسان خصوصًا في الأوطان التي يتحكّم فيها الظلم. كذلك لقد صوّرت الفنانة التشكيلية في معرضها أيضًا صور الحرب اللبنانية وترجمت من خلالها الظلم الذي أصاب اللبنانيين إذ ترمز كل لوحة إلى أكثر من معنى فتتولد الصور والدلالات الفنيّة.

   تدعوك هذه الفنّانة إلى الغوص في أعماق الكون، تحدث تصدّعًا في الوجود لتنقلك إلى فضاء آخر. إنّها تمزج مشاعرها، تعبّر عن الحزن، الفرح، الهجرة، التحرّر، الحريّة.. كلّ هذه مشاهد تأسر النّاظر وتدعوه إلى التّفكير في أبعادها.

وفي كلمة للحصاد تتحدّث ساندرا صهيون عن تجربتها فتقول:

    ” اكتشفت هويّتي اللبنانية من خلال نزهة قمت بها إلى غابات الأرز في عام 2014. ثمّ ركّزت فنّي حول  شجرة الأرز التي يبلغ عمرها آلاف السنين والتي كانت شاهدة على مرور أجيال عدّة. كل لوحة أو منحوتة تحمل رسالة تعكس حالة الشعب. فأرزتي بالنسبة إليّ تشكّل رؤية، مفهوم، شريان حياة، أب، أم، والأهمّ إنها تعبّر نبل وعظمة وطني.

   يمكنني تجسيد هذا الأرز  هنا فاخبرك أنّي فأراه يصرخ ، يلاحظ ، يخبر ، يسافر … وينطق بمشاعر شعب يحبّه ويحمله فيه مثل الوشم المحفور في الروح.

    ربما لهذا السبب أصبحت “صرخة الأرز” التي رسمتها ووقعتها بكلّ اندفاع في 18 أكتوبر 2019 رمزًا مرئيًّا للثورة وصرخة النساء.

    هذا المعرض الذي يحمل عنوان “جذور وأجنحة”، يروي بصوت عال، من خلال منحوتات واسعة النطاق وسلسلة من اللوحات، قصّة تكرّر نفسها بصمت داخل كل عائلة لبنانية، وكأنّنا في لبنان كشجرتنا القديمة ذات الجذور العميقة بأغصانها نطير بعيدًا بحثًا عن مستقبل أفضل. ونعيش على أمل أن يعمّ السلام وتتجدّد أغصان الأرز.

“كلّنا” هي الكلمة الأولى في النشيد الوطني اللبناني وعنوان منحوتة صنعتها وهو يعني في الوقت نفسه “جميعنا” و “كياننا كله”.وتمثّلها  هذه الشجرة المقدسة المستوطنة في جبال لبنان.

     إنها تتكوّن من العديد من الصور والظلال البشرية: الرجال والنساء والأطفال من جميع الأديان الذين يؤمنون بهذه الشجرة التي نجت من العواصف التي لا نهاية لها، وكانت شاهدة على العديد من الصراعات ومع ذلك لا تزال عميقة الجذور، وهي التي في الصمت تهمس وتدعو بالسلام إلى قلوب البشر ما يجعلنا نعتقد أنها بلا شك “أرز الرب” كما نسميه في لبنان. فالأرز هو الذي يجمع أمتنا ويباركنا.

     في منحوتة “جذور وأجنحة” والتي رسمتها لكفريا،  رموز كبيرة تبدو متناقضة وقد تعكس معضلة حالية، اخترت التعبير عنها من خلال الحمامة رمز السلام والحرية التي نطمح إليها، ومن خلال شجر الأرز لجذوره وطول عمره، ذلك لأنني أؤمن إيمانًا صادقًا بأنّ لبنان يملك أجنحة، وهي أكبر بكثير من حدوده الجغرافية. كما أن له جذورًا عميقة  تشبه الكنز نحمله في داخلنا وننقله من جيل إلى جيل أينما كنّا.”

    وأخيرًا نقول إنّ ساندار صهيون تحمل إلى الجمهور، في كلّ لوحة او منحوتة، رسالة خاصّة وإبداعًا حقيقيًّا، لا يمكنك إلّا أن تراه بعين ذاتك لتخرج بزاد وهو الدعوة إلى الحرية،  وهو تلك البصمة الّتي تحفر في نفس كلّ إنسان يقدّر الفنّ.

العدد 133 / تشرين الاول 2022