الصين ومستقبلات النزوع نحو الريادة الدولية

أ.د. مازن الرمضاني*

يفيد تاريخ السياسة الدولية أن ظاهرة الحراك الدولي صعودا وهبوطا كانت حصيلة أمٌا لتراكم مخرجات القدرة الذاتية على الفعل في ثمة دول أو لتراجع هذه القدرة في دول اخرى ولنتذكر أن تجارب صعود وهبوط القوى العظمى عبر الزمان تؤكد مضمون هذه الظاهرة.

وتنسحب ظاهرة الحراك الدولي في نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين على الدول المؤثرة حاليا في السياسة الدولية. فهذه الدول تتوزع إلى ثلاثة مستويات: دول تتقدم صعودا في سلم الهرم السياسي الدولي ودول بدات تتراجع مكانتها الدولية ودول اخرى تكافح من اجل ديمومة هذه المكانة.

وتكاد الآراء تتفق على أن الصين تعدٌ من بين أبرز مجموعة تلك الدول السائرة في طريق النمو وبوتائر سريعة وإنها لذلك قد تكون الدولة القائدة للقرن الحالي أو أنها ستكون في الأقل أحدى القوى الأساسية التي ستشكل معطيات هذا القرن. وبهذ الصدد قال الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون إن:  »مستقبل العالم سيتحدد وبدرجة كبيرة على (وفق نوعية) التطور الصيني«. وقد ذهبت صحيفة الفايننشل تايمز البريطانية في العام الماضي إلى القول إن:  »… نهوض دولة يشكل عدد سكانها خمس اجمالي سكان العالم سيكون له اثار عميقة على مستقبل العالم بأسره«.

وسواء اتفق المرء مع مثل هذه الآراء وسواها أو لم يتفق إلا أنه لا يستطيع نكران حقيقة موضوعية هي أن الصين استمرت ومنذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي تحقق نموا متصاعدا في نوعية قدراتها الداخلية على الفعل وأن حصيلة هذا النمو الاتجاهي في القدرة الداخلية لابد أن ينعكس ايجابا على نوعية فاعلية سياستها الخارجية ومن ُ ثمٌ على نوعية دورها في النظام السياسي الدولي. وبهذ الصدد لنتذكر أن بين نوعية الفاعلية الداخلية لكل دولة وفاعليتها الخارجية تقوم علاقة قد تكون أمٌا طردية موجبة عندما تكون هذه الفاعلية الداخلية مؤثرة وأمٌا عكسية سالبة عندما تكون هذه الفاعلية متآكلة .

ونرى أن البحث في مستقبلات النزوع الصيني نحو الريادة في النظام السياسي الدولي يتطلب الإجابة عن التساؤلات الآتي:

مٌا هي المتغيرات المؤثرة ايجابا في تامين الفاعلية الداخلية الصينية؟

مٌا هو التوجه السياسي الخارجي الصيني؟

مٌا هي اولويات السياسة الخارجية الصينية؟

مٌا هي مستقبلات الدور الصيني في النظام السياسي الدولي؟

ولان المجال في هذا المقال لا يتسع للاجابة عن جميع هذه الاسئلة سننصرف هنا الى الاجابة عن السؤالين الاول والثاني .امٌا ما تبقى فسيتم تأجيله إلى مقالنا القادم.

وقبل محاولة الإجابة من المفيد القاء نظرة سريعة على التاريخ الصيني. لنتذكر ان مستقبل ما سيكون لا يمكن ان يكون بمعزل عن تأثير ما كان.

 يقترن هذا التاريخ بخمسة مراحل اساسية ممتدة عبر الزمان وان كل منها يتميز بمعطيات مختلفة عن الاخرى . وهذه المراحل هي:

مرحلة الإمبراطورية الصينية 1840-1368م

مرحاة الإذلال الغربي للصين 1912-1840

مرحلة تشان كاي تشك 1949-1912

مرحلة ماوتسي تونك 1976- 1949

مرحلة الإصلاح والتحديث الداخلي المستمرة منذ عام 1977

وبغض النظر عن المراحل الأولى والثانية والثالثة دخلت الصين عالم القرن العشرين بعد تحررها من الاستعباد الغربي في عام 1912 وتأسيس دولتها الوطنية. وقد كانت هذه الدولة ضعيفة داخليا ومنٌ ثمٌ خارجيا.

ومنذ عام 1949 والصين تسعى إلى تحقيق حلمها/مشروعها القومي في أن تعود أمة موحدة ومؤثرة عالميا. ولم يتخل الصينيون عبر الزمان عن هذا الحلم/المشروع. فمثلا قال شو أن لاي للرئيس الأمريكي نيكسون في سبعينيات القرن الماضي:  »إن اطفالنا لا يريدون العيش في عالم تسوده قوتان وأنما هم يطمحون إلى العيش في عالم مثلث القوى والاقطاب تكون الصين احد اضلاعه«. كذلك جعل بناة استراتيجية الاصلاح والتحديث الداخلي في سبعينيات القرن الماضي من هذه الاستراتيجية بمثابة الاداة التي اريد بها جعل الصين في عام 2050 بمثابة القوة الدولية العظمى. وقد كرر الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني الحالي التاكيد على هذا الهدف في المؤتمر 19 للحزب في عام 2015 .

ولتحقيق هذا الحلم/المشروع القومي الصيني أدى كافة قادة الصين بعد عام 1949 ثمٌة ادوار اساسية هذا ابتداءٌ بماوتسي تونك المتشبع بافكار القوميين الصينيين والثورة الفرنسية وعهد الميجي في اليابان وماركس ولينين وستالين مرورا بدنغ كيساو بنغ البرغماتي الاصلاحي وصولا إلى الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني الحالي: شي جين بنغ.

وتجدر الأشارة إلى أن كل من هؤلاء القادة كان يمهد في العموم للثاني. ولنتذكر ان القائد الصيني دنغ كيساو بنغ عندما ابتعد عن المسؤولية السياسية في بلاده فأنه لم يترك وراءه الفوضى كما فعل غورباتشوف في بلاده: الاتحاد السوفيتي السابق وانما ترك نظاما مستقرا يبني تجربة في النهوض والارتقاء الحضاري سبيلا لتحقيق غاية الحلم القومي الصيني . أن هذه التجربة الصينية تضيف إلى التجارب الرائدة الأخرى: اليابانية والالمانية

والكورية الجنوبية والتايوانية والسنغافورية والماليزية تجربة مهمة اخرى جديرة بالاهتمام والدراسة.

وغني عن القول أن الصين هيٌ اكبر دولة في العالم من حيث مجموع عدد السكان وبأكثر من 1.4 مليار إنسان . كماهي دولة تمتد على رقعة جغرافية واسعة تساوي نحو 5629 مليون كم2 هذا فضلا عن إنها تتوافر على كمية ونوعية موارد أولية: طبيعية وغذائية لا يستهان بها ناهيك عن موقع جيواستراتيجي مهم . إن هذه الخصائص وسواها متفاعلة مع نوعية توظيفها لصالح تحقيق التغيير المنشود قد أدت إلى أن تتأسس أرضية داخلية تم تفعيلها وتجديدها عبر الزمان باتجاه خطي يؤشر أن الصين تتجه إلى أن تكون قوة دولية لا يستهان بتأثيرها في هذا القرن خصوصا بعد ان تتحقق عودة جزيرتا مكاو وتايوان اليها مثلما عادت هونك كونك في عام 1997.

وعليه نتساءل: ما هي المتغيرات المؤثرة ايجابيا في تأمين الفاعلية الداخلية الصينية؟

تعدٌ الفاعلية الداخلية لايٌة دولة حصيلة لتراكم التأثير الإيجابي للعديد من المدخلات الموضوعية والذاتية. وعلى الرغم من ان الجسد الصيني لا زال يقترن بثمة اختلالات هيكلية على صعٌد الزراعة والصناعة والتعليم مثلا بيد أنه يتوافر في الوقت ذاته على مدخلات قوة مهمة على الصعد الاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية مثلا.

فامٌا اقتصاديا  فالصين استطاعت بعد التحول الداخلي في عام 1977 أن تحقق نموا اقتصاديا استمر معدله يتسارع باضطراد. فبعد أن كان حجم الاقتصاد الصيني في عام 1991 لا يتجاوز 6.7 من حجم الاقتصاد الأمريكي اضحى الآن يساوي نحو نصف حجم هذا الاقتصاد. ويرد ذلك إلى ان الصين توافرت منذ عام 1991على معدل نمو غير مسبوق تراوح بين 10 إلى 6.9 في السنة.

وتؤكد آراء أن استمرار معدلات النمو الواطئة في الولايات المتحدة الأمريكية والعالية في الصين على وتيرتها الحالية سيفضي بالصين إلى ازاحة الولايات المتحدة عن قمة النظام الاقتصادي الدولي في غضون عقدين من الزمان في الأقل ومن ثمٌ تصبح اقوى قوة اقتصادية في العالم.

وفضلا عن ذلك تعدٌ الصين من بين القلة من الدول التي تتوافر على فائض مالي كبير جدا يساوي نحو 24 ترليون دولار. إن هذا الثراء الصيني قد يفضي إلى أن تكون العملة الصينية (اليوان) في المستقبل القريب/او المتوسط بمثابة العملة الثالثة عالميا بعد الدولار اليورو.

أن هذا الثراء لم يكن بمعزل عن تأثير حجم الصادرات الصينية. ففي بداية هذا القرن بلغت هذه الصادرات نحو 20 من مجمل الناتج المحلي الاجمالي الصيني. وبهذا استطاعت الصين أن تؤسس لذاتها مركزا مهما ضمن القوى التجارية الدولية الاساسية. وقد قيل: ان مركزية موقع ثمةٌ دولة في حركة التجارة الدولية يعدٌ مؤشرا على تأثيرها الدولي.

واذا تذكرنا أيضا ان نسق القوة في القرن الحادي والعشرين يتجه إلى أن يكون اقتصاديا فمن المحتمل أن تعمد الصين إلى توظيف مخرجات تراكم نموها الاقتصادي خدمة للغاية النهائية لمشروعها القومي. وتجدر الاشارة إلى أن نجاح التجربة الاقتصادية الصينية تكمن في الأخذ باقتصاد السوق متفاعلا مع نظام سياسي مستقر يؤمن الأخذ بخطط تنموية بعيدة المدى إلى جانب تنفيذها بطرق فاعلة.

وامٌا عسكريا فلقد أدى ادراك القيادة الصينية ومنذ عام 1949 أن حيازة قدرة عسكرية مؤثرة يحول دون الاعتداء عليه أو تهديدها عسكريا هو الامر الذي جعلها تولي مسألة انفاقها واستعدادها العسكري أهمية عالية. وعلى الرغم من أن الهاجس الامني قد انتهى بالصين إلى أن تكون دولة ذات قدرة نووية رادعة عام 1964 وأن تتوافر على قدرة عسكرية كمية غير مسبوقة وبنحو2 مليون ونصف مليون جندي إلا ان هذا التطور المهم لم يؤد بالصين قبل وفاة ماوتسي تونك عام 1976 إلى ان تصبح قوة عسكرية دولية مهمة. فالتحديات الاقتصادية والتكنولوجية انذاك فضلا عن التحديات الخارجية التي تمثلت في السياستين الخارجية الامريكية والسوفيتية عطلت ذلك.

على أن تاثير ثٌمة متغيرات كاستمرار الاحساس الصيني بعدم الامن متفاعلا مع مخرجات طفرتها الاقتصادية دفع بالصين ومنذ عقد التسعينيات السابق إلى جعل تحديث قدرتها العسكرية ضمن اولوياتها الاستراتيجية. وجراء ذلك تميز انفاقها العسكري بالنمو الواسع وبما يتراوح بين 215-135 مليار دولار. إن هذا الانفاق العسكري الذي يعدٌ من بين اعلى معدلات الانفاق العسكري في العالم انعكس ايجابا على نوعية القوات العسكرية الصينية تطويرا وتحديثا. فالثغرة النوعية بين القوات الصينية وقوات سواها من الدول العظمى والكبرى صارت تتقلص بوتائر سريعة. كما أن الصين لم تعدٌ تتردد عن استعراض قدراتها العسكرية بصورة مباشرة أو غير مباشرة كاداة لتأمين ديمومة المصالح الاقتصادية والامنية والسياسية الصينية.

وامٌا ثقافيا  فالرأي يكاد يتفق على أن للثقافة السياسية الصينية تأثير مهم في التزام المجتمع الصيني بميراثه الروحي والفكري وتحقيق غاية مشروعه القومي. فقد قيل ان الصينيين هم أكثر الشعوب بعد اليابان وفاءٍ لثقافتهم وتاريخهم وكذلك طاعة. وممٌا يساعد على ذلك سطوة التراث الثقافي الصيني. فالمجتمع الصيني هو مجتمع اسري إلى حد كبير. لذا تتميز العلاقات السلطوية داخل المجتمع بصرامتها والاخلاق بمفهومها الكونفوشيوسي تعلو القانون. كما أن الارتباط بالعمل الاداري في مؤسسات الدولة هو الذي يحدد المكانة التي يتمتع بها الإنسان في السلم الاجتماعي.

وامٌا سياسيا فقد عدٌ بناء سلطة سياسية فاعلة احد الاهداف التي تم التزام صناع القرار الصيني بها منذ عام 1949. بيدٌ أن هذا التطلع/الهدف حدت منه في اوقات سابقة كوابح داخلية مهمة ولا سيما الصراع بين المؤسسة العسكرية (الجيش) والمؤسسة السياسية (الحزب الشيوعي الصيني). وعلى الرغم من أن هذا الصراع قد افرز ثمٌة مخرجات جعلت النظام السياسي الصيني يعاني إلا ان التطورات الصينية بعد المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي الصيني عام 1977 ادت إلى حسم هذا الصراع لصالح المؤسسة السياسية .

والسؤال ما طبيعة التوجه الحالي الذي تقترن به السياسة الخارجية الصينية؟

تفيد ظاهرة السياسة الخارجية أن الدول لا تتردد عن اعادة هيكلة توجهات سياساتها الخارجية عندما تستدعي الضرورة الداخلية والخارجية ذلك. والشيء ذاته ينسحب على الصين. فمنذ عام 1949 عمدت الصين إلى إعادة هيكلة سياستها الخارجية ثلات مرات:

فامٌا عن التوجه الاوٌل الذي امتد على اعوام 1960- 1949 فقد اقترن بتميز السياسة الخارجية الصينية خلال هذا الزمان بالانحياز شبه المطلق إلى جانب الاتحاد السوفيتي السابق. ووراء هذا الانحياز لم يقف الخطاب الايديولوجي المشترك فحسب وانما ايضا ضالة القدرة الصينية على التأثير الدولي. على ان هذا التوجه لا يلغي تزامنه مع نزوع براغماتي صيني تعود بداياته إلى اوائل عقد الخمسينيات من القرن الماضي. وقد دفعت إلى هذا النزوع الحاجة الصينية انذاك لعلاقات دولية داعمة لخطتها الخماسية الاقتصادية الأولى (1957-1953) هذا فضلا عن تأثير تبني الاتحاد السوفيتي السابق بعد وفاة ستالين عام 1953 لسياسة التعايش السلمي مع المعسكر الغربي كما كان يسمى في وقته.

وامٌا عن التوجه الثاني الذي امتد على اعوام 1970-1960 فقد تمثل في تبني الصين لسياسة العزلة النسبية. ومرد ذلك تأثير متغيران مهمان: اولهما تبلور رؤية صينية مفادها أن الصين تستطيع تنمية قدراتها الاقتصادية والعسكرية اعتمادا على الذات. وثانيهما تدهور العلاقة الصينية السوفيتية في نهاية الخمسينيات. فهذا التدهور ادى بالصين إلى أن ترى في الاتحاد السوفيتي السابق كقوة امبريالية اشتراكية اشد خطرا من الامبريالية الراسمالية .

على أن سياسة العزلة النسبية لم تحل دون حركة صينية كانت نشطة على دول وشعوب العالم الثالث كما كان يسمى انذاك ولا سيما بعد مؤتمر عدم الانحياز في باندونغ عام 1955. بيدُ أن ضالة القدرة الذاتية بالتفاعل مع المقاومة الامريكية والسوفيتية للسياسة الصينية دفعا إلى فشل هذه الحركة. إن الاحساس الصيني بالفشل خلال عقد الستينيات من القرن الماضي كان وراء البدء بالثورة الثقافية عام 1966 التي لم تودٌ مخرجاتها إلى المزيد من التدهور في العلاقات الدولية للصين فحسب وانما ايضا إلى تكريس عزلتها الدولية.

وامٌا عن التوجه الثالث فهو يرتبط ارتباطا مباشرا بالمؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الصيني عام 1976. ففي هذا المؤتمر بدا واضحا ان الصين تتجه نحو تغليب علاقات المصالح على علاقات المبادئ ومنُ ثمٌ الاخذ بالبراغماتية سبيلا لتأمين الدعم الدولي لها. ومما ساعد على ذلك وفاة ماوتسي تونك في ذلك العام. بيدٌ ان هذا التوجه لم يأخذ مداه إلا بعد عقد المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي الصيني عام 1977. ففي هذا المؤتمر تبلورت القناعة بما يفيد أن الارتقاء بعناصر الفاعلية الداخليىة للصين يعد السبيل الوحيد لدعم فاعليتها الخارجية. ولهذا يعدٌ هذا المؤتمر بمثابة البداية العملية لتحول سياسي خارجي صيني سيصبح عنوانه اللاحق الانفتاح الشامل على العالم لتحقيق الاصلاح والتحديث الداخلي؟.

إن هذا التوجه الانفتاحي المستمر على العالم افضى إلى تغيير الاولويات الصينية  ولاسيما تغليب الامن الاقتصادي على سواه وكذلك تغليب التعاون الدولي على الصراع الدولي وبمخرجات ترجح ان تكون الصين هي القوة العظمى عام 2050. وسنتناول هذه الاولويات ومستقبلات الدور الصيني في النظام السياسي الدولي في مقالنا للعدد القادم من الحصاد.

استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلا ت *