المستحيل الجماليّ في كتاب «القصيدة امرأةٌ مستحيلة» للشاعر أنور سلمان

أنور سلمان
أنور سلمان

تقرأ ديوان أنور سلمان »القصيدة امرأة مستحيلة« لتدقّق في صورة المرأة، ترى كلّ قصيدةٍ فيه امرأةً مستحيلة. والمستحيل هنا الكمال الذي لا يتحقّق لكنّه يمثّل حرارة المعنى ودفقه في النصّ، ويمثّل تطلّعاتٍ تحاول الصورة أن تطالها، فتصل الجمال المرجوّ للكلمة.

لذلك القصائد صلواتٌ في نظره. و كأنّ الكتابة طقسٌ من طقوس العبادة الفكريّة والرّوحية، نواتها  الشعور المرهف.

إذا نظرنا في كلّ قصيدة لنستنتج الوجه المستحيل للمعنى فيها نرى في قصيدة »أحلى الكلام« على سبيل المثال، التكامل بين وجه المرأة والكلمة وفكر الشاعر. يشدّنا هذا التكامل الى العلاقة المستحيلة بين الجمال واللغة والعقل. ينسجم جمال الحبيبة مع عقل المفكّر المبدع حتّى ينسابا معاً في لغةٍ مشتركةٍ لتكوّن النصّ. و العودة لعبةٌ زمنيّةٌ يتقنها، لكنّه رغم ذلك لا يجيد الحضور، فالماضي غبارٌ والغد دُوار. فلا يتبقى له سوى السماء والمرأة السّر. من الأولى يكون الوحي، وإلى الثانية يكون المُضيّ. وفي نصّ »ريشة خضراء« تكمن الاستحالة في الصخب الشعوري، في عمق العلاقة بين السماء والحبيبة والقصيدة. هو صخبٌ تحرّض عليه عناصر المشهد: امرأةٌ نجمة لا تستطيع الحركة لكنّها تحرّض عليها، ثابتة في السماء لتنير المسار، والشاعر ذاهبٌ في الحركة. يرحل، يكتب بالضّوء، ويعلم بأنّ السماء تنتمي للحبيبة لأنّها ريشةٌ خضراء بما يمثّله اللون الأخضر من الحياة والتجدّد والانبعاث، تستطيع إحياء الورق.

في قصيدة  »غدًا تصيرين أجمل« يمثّل العنوان وعدًا بالجمال الأنثويّ. يبدأ النص بالغد الذي يبقى مفتوحًا على الاحتمالات، وينتهي بيقينٍ هو جمال الشّعر الذي يحتاج دومًا جديدًا. هذا الربط بين جمال المرأة وجمال الشعر، يجعل من القصيدة أنثى ومن الأنثى قصيدة.

يقرّ أنور سلمان بهذا حين يقول »وجدتُ في حقيبتي قصيدة وصورةً لامرأةٍ حسناء لا أعرف من تكون حتّى اليوم«. لعلّ القاسم المشترك بين المرأة والقصيدة الغموض. فملامح الاثنتين لم تكن قد توضّحت بعد في ذهنه. لا هو يعرف من هي المرأة التي تسكن قصيدته وتبني استحالتها، ولا القصيدة تشي بصورةٍ ثابتةٍ للأنوثة.

أمّا في قصيدة »الحديقة الزائرة«، فنرى الاستحالة في تغيير مفهوم المكان. فأن تكون الحبيبة عطرًا أو وردًا أو لونًا جميلًا في القصائد ممكناتٌ شعريّة، لكنّ أنور سلمان يعدّل المفاهيم اللغويّة والشعوريّة، يحيد المكان عن ثباته ليصير هو الحبيبة القادمة، تدخل الحديقة كلّها المكان ويدخل الورق. تفضي حركة الصّورة المبدعة وحركة الشعور إلى الإجابة عن سؤاله: »ماذا أكتب؟«. هكذا تكون الكتابة تقاطعًا مستحيلًا بين الصورة والمرأة والمكان.

وما يلفت في »أغنية عابرة« أنّ الحديث عن الشعر وعن ارتباطه بالأنثى لا يغيب. فكما يشبه إيقاع الشعر العربيّ القديم  صوت حوافر الناقة، كذلك لخُطى المرأة العابرة إيقاعٌ يسمعه الرجل وتسمعه القصيدة. ولكن للصّمت في حضرة الحبّ مكانته وقداسته أيضًا، فالغياب والسكون يحضران في لغة النصّ ضجيجًا ناريًا خفيًّا. فالشفاه الظامئة بلاغةٌ جماليّةٌ تعطي السكوت حقّه في الحضور كما يظهر في قصيدة »النار والشفاه الظامئة«. الأنثى شعرٌ مسكوتٌ عنه، تعيش في أبعاد الورق وتستكين كي لا تموت.

وإذا نظرنا نظرةً أعمق في رؤيته وجدناه يرى القلم فوّاحًا يطهّر العيون. العبير هنا فكريٌّ يملأ الحواس، لتعبق الروح بالمعنى. نلاحظ إذًا الربط بين المعنى الفرديّ الوجوديّ والقلم. هو الوجود المبنيّ على الحب، والمسبوك بحرارة الحرف الذي يغني الروح.

الغلاف
الغلاف

يرتقي الحرف ليدخل لعبة التشابك الداخليّة في الحياة النفسيّة والروحية، ويكون فاعلًا في هذه اللعبة قادرًا على خلق الجمال.

وحين يرى أنور سلمان الشيطان في النساء، لا يكون ما يراه إلّا انفعالًا يشي بتوقه إلى المرأة المستحيلة القادرة على الجمال فقط لأنّها منه. لعلّه في جماليّة النص يثور على شياطين الواقع، ليبحث عن أنثاه المتوارية.

أمّا البحث في الماضي في هذا الكتاب، فهو البحث عن الحبيبة في حميميّة الأوراق. الأوراق لحظاتٌ جامدةٌ في أدراج، عقارب زمنيّةٌ يحرّكها الشعور وحده نحو الماضي متى شاء.

»الحب كتاب«، فلسفةٌ شعريّةٌ في الحبّ يحمل هذا الديوان رايتها. ولا يغيب صوت الأنثى عنه، ففي بعض القصائد تتحدّث تجاهر بأنوثتها وتطالب بحقوقها على مسرح القصيدة وتحقد على كلّ جرحٍ ذكوريٍّ حاول تشويهها. لكنّها في نصوصٍ أخرى، وبعد أن تتّحد بالقصيدة، تصير صناعةً يتقنها الشاعر، فهي الحبر الجميل الآخذ معناه من الكلمات. المرأة تتكلّم في إذًا الشعر وتصمت فيه صمتًا فاعلًا مؤثّرًا.

والعشق في هذا الكتاب ينتهي إلى قضيّة. الأرض عشقٌ لا يغيب عن النصّ، فالأرز كما يصوّره قصيدةٌ خضراء. الأرض أنثى جديرةٌ بالحبّ وجديرةٌ بالغضب، لكنّها لم تستحقّ نهضتها بعد. المستحيل في القصائد الوطنيّة يتمثّل في الثورة الصارخة المطلوبة. لكن حتّى التاريخ غافلٌ في نومه يتنكّر لأبطاله، ينسى أن يطلق العنان لخيوله لتعدو نحو الحاضر وتحارب. السكون الّذي يغلّف الكلمة عند الكلام على الحبّ ينقلب ثورةً وتمرّدًا. والتمرّد يريد أن يستعيد إنسان هذه الأرض. الإنسان بات فارغًا كبيروت، والمقصود بالفراغ هنا ضياع المعنى. يضيع وجود الفرد، كأن يضيّع الكتاب كلماته. بالوهم، يصير الفرد والأرض والشعر سرابًا، ولا يكون الحلّ إلّا بالهروب.

موجوعٌ لبنانه متعب، حقائب الرحيل الدائم تثقل كاهله. هنا يكون الانتقال في التعبير عن الذات إلى الدفاع عن قضيّة الجماعة، حاجة. ومع  أنّ الأمل مفقود، التاريخ ميتٌ والحاضر وهم، لكنّ نزعة الحقّ تفرض نفسها على الفعل الجماليّ وتحوّله منبرًا جماعيًّا ينطق باسم الأمّة.

ومن الخاص إلى الوطن إلى الإنسانيّة الشاملة الناظرة إلى الأرض والإنسان، نصّ »أفكارٌ وثنية« يطرح مصائب الأرض المشوّهة بالصراعات الغرائزيّة. يشكّ في العقائد، لكنّه يؤمن بالخير والحق. إنه صراع الزيف والحقيقة، صراعٌ بين المفاهيم الشكليّة الثابتة في الإيمان الخالية من الطهر والمحرّضة على الآخرين، وقيم الحقّ التي يكاد لا يسمعها أحد.

أنور سلمان علمَ بأنّ القصيدة لا تنتهي، لذلك ينظر إليها بعين الاحترام. الحبر طيرٌ يسافر حاملًا فوق جناحيه السّماء كما وصفه، والطير ذو نظرٍ حادٍّ ثاقب يرى تفاصيل الأرض من عليائه.

هكذا يتجلّى المستحيل في هذا الديوان، وهو اختراق الممكن. وينسحب العنوان على المضمون، مستحيلاته متفرّدةٌ يربط  بينها تماسكٌ في الفكر والقضيّة والمنحى الحياتيّ الوجوديّ الذي آمن به الشاعر. كلّ قصيدةٍ كتبها  أنور سلمان ليتخطّى الممكن، وليكسر آثار الذكورة ويطلق المرأة نحو فضاءاتٍ أخرى ابتكرها وأحسّ بها.

مفهوم الشعر عنده دائريٌّ واسع يتخطّى الخاص إلى الأبعاد الإنسانيّة العامّة. دائرته المستحيل القادر على الولادة. قصيدته امرأةٌ تنجب صورًا، امرأةٌ غيبيّةٌ فاتنة، زمانها ومكانها الورق.

انور سلمان… قصيدته امرأة تنجب صوراً

غلاف ديوان »القصيدة امرأة مستحيلة«