الصمت يحترق في “مشروع الصمت” اول كتاب روائي  عن مجزرة عابرة للقارات

يعتقد مؤرخو الرواية الغربية ان “موبي ديك “هي طليعة الرواية المائلة الى الثبات كمنصة استلهام صلبة، الا ان التطور الأدبي (بصورة عامة) لم يمتثل الى ذلك الإعتقاد، صحيح ان الروايات الكبرى جاورت موبي ديك الا ان  معظمها لم تتجاوز المناخ “التوراتي”    الصاخب في تلك الرواية .

     بعد سنوات عنيدة ادرك ارنست همنغواي ان رواياته المقطوفة   من تجاربه الشخصية لن تدرك قمة موبي ديك، فما عليه الا ان يماشي  قبطانها   الذي فقد ساقه لفكي  حوت  رهيب اطلق عليه اسم موبي ديك واقسم على الإنتقام منه.

أخيراً رافق همنغواي    صيا داً   عجوزًا في إحدى رحلاته الخطرة الى ما وراء الأفق.  وفي ذلك الفضاء المائي الأزرق امطرت السماء على  الكاتب كل ما يحتاجه من وحي وإلهام، حتى انه نسي تماماً عقارب الساعة وتحوّل الى يافع أبحر برفقة صيّاد عجوز!

 من باب الفضول  أن همنغواي نال جائزة نوبل على “الشيخ  والبحر” وانتحر بعد نيلها  بمدة قصيرة. الا ان الروائيين الغربيين لم يتركوا البحر وشأنه وسرعان ما برز بينهم البريطاني ويليام غولدينغ الذي كتب “ثلاثية البحر” وجاء بعده الاميركي جاك كيرواك في كتابين احدهما” البحر اخي”   الذي لم ينشر حتى سنة 2011   وغيرهم ممن انتسبوا الى المجموعة

  لكن الرواية الغربية على العموم انطلقت بجدارة    خلف   مؤثرات الأكتشافات العلمية   على انواعها، ومدى تأثيرها على النص الروائي مما كان سيقودنا حتماً الى مكان آخر… الا ان المؤثرات العلمية باكتشافاتها المذهلة ما توقفت عن التدخل في النص الروائي كونها منطلق مفتوح على “الجهات الأربع” ومنها تشرعت ابواب مغلقة واطلت موضوعات لم تكن في الحسبان  . لكننا هنا  نتابع مسيرة كارول هايلي التي قدمت روايتها “مشروع الصمت” في كلمات قليلة  واضحة: “هذه الرواية مجموعة احداث متفرقة، بعضها موصوف  وبعضها الآخر متخيّل، لذلك على القارىء ان يقرر وان يفصل او يجمع بين الإثنين. من جهة أخرى فاتنيّ ان اشير الى كنيسة في راوندا شعارها “لن يحدث مرة اخرى”،  اشارة واضحة الى مجزرة 1994 التي ذهب ضحيتها مئات الألوف وجرى لاحقاً جمع الموتى   تحت سقف تلك الكنيسة.”

ويتضح ما تقوله المؤلفة عن والدتها راشيل مما يضفي على شخصية الوالدة غشاوة تستدعي التأمل وتحبذ البدء (من جانب القارىء) في التفتيش الجدي عن حقيقة تلك المرأة التي سببت  موت عدد كبير من المؤمنين بعزلتها وباعتناقها كلمة “ششش” لمن لا يستطيع الحفاظ على صمته في حضورها وحضور المجموعة التابعة لها.

لكن عجلة الرويّ  تدور في جانب الإبنة  عندما تستيقظ من نومها لتكتشف انها بدأت بالحيض الشهري وهي في الثالثة عشرة من عمرها.   حفظت الإبنة عن ظهر قلب كلام والدتها حول هذه الظاهرة اللصيقة بواقع الأنثى اينما وجدت. ولذا نراها لا تجزع ولا تخجل بل تهرع الى تغيير بيجامتها آملة ان تستجيب والدتها وتعود الى غرفة نومها تاركة  الخيمة التي رفعتها في الحديقة تأميناً لعزلتها،لكن لا الوالدة غيرت رأيها، ولا الحيض غادر الإبنة، بل انتقل الجو الى تسليح الوالدة بمزيد من العزلة، وبتواصل متين مع اتباع مجموعتها حتى تجاوز عدد المشتركين الفي نسمة  في بلدان متباعدة حول العالم ،ما لبثوا ان شاركوا قائدتهم دعوتها الى حرق اجسادهم تعبيراً عن التضحية في سبيل قراءة الصمت! وذلك ما حصل وما اصاب إبنة الثالثة عشرة بفقدان امها والإكتفاء بوالدها العجوز. الا ان الإرتماء في النار ما لبث ان انضم الى دراسات أدركت كنزو هاشيموتو في جامعة طوكيو، وقد كان هاشيموتو يجمع الأحداث المتدهورة في بلاده ومحيطها خصوصاً الزلازل والتسونامي وواقعة المنشأ النووي في فوكوشيما  فأصبح  من المتوقع، بل الطبيعي ان تنقل الصحافة مشهد احتراق عدد كبير  من “مؤمني” الصمت وبالتالي ستنتقل الواقعة الى الصحافة الأوسع عبر بريطانيا ثم اوروبا فالعالم برمته.

في اليوم التالي جاءت معظم الصحف العالمية بهذه العناوين  :

“والآن هل نحن قادرون على الإصغاء؟” غلاف مجلة تايمز الهندية.

“احترقوا لإجلنا!” الصفحة الأولى في سيدني مورنينغ هيرالد.

“اسمعوا الرسالة” صحيفة الصين اليومية.

“يوم سكت العالم!” واشنطن بوست…

وفي اليوم الثاني من شهر تشرين الثاني  سنة 2011 بدأ ينكشف مصير21078 امرأة استمعن الى صمت انثى تعيش في قرية انكليزية تدعى شالكهام .سرعان ما كللت أبرز الصحف العالمية توقعات مراسليها بعناوين لا تخفي هول ما يجري في تلك القرية من منطقة هامشير حيث جمعت راشيل موريس كل اعضاء جمعيتها في مكان واحد على استعداد أكيد للموت حرقاً لعل العالم يسمع أصواتهن!

في هذه الرواية تجمع كارول هايلي ( ابنة راشيل) كل ما استطاعت جمعه، بما في ذلك   مشهد احتراق امها وافراد الجمعية ومصير ستيفن فيليب ترانت الذي توجه نحو تلك القرية قاصداً قتل راشيل وابنتها وزوجها لأن زوجته انضمت الى مجموعة راشيل، لكنه لقي حتفه على ايدي مراهقين إثنين من ابناء تلك القرية بعد ان قتل سبعة اشخاص  لا علاقة لهم بالمحرقة وبينهم جنين في الشهر السابع من حمله . في النتيجة حصل انتوني بلاك هاول وروبرت وورذينغ على مدالية القديس جاورجيوس ولم يتعرضا للسجن او المحاكمة لقتلهما المجرم ستيفن طعناً بالسكاكين، بل اعتبرهما الجمهور ابطالاً قضيا على مجرم شهير الى غير رجعة!

 انهت كارول هايلي اختصاصها الحقوقي بنجاح، لكنها قررت سلوك الأدب الروائي بعد متابعتها دروس جريدة غارديان التي تناولت  كتابها وروجت له قبل صدوره وبعده!