الناصرية، وجهُ السياحة الأثريّة في العراق

 قام بابا الفاتيكان فرنسيس بزيارة العراق بتاريخ 5 آذار/مارس 2021 وغادر في 8 آذار/مارس 2021 ، عيّنت الحكومة العراقيّة يوم 6 آذار يومًا وطنيًا للتسامح والتعايُش في العراق، الزيارة التي حملت شعار “أنتم جميعكم أخوة”، لفتت أنظار العالم إلى الوجه السياحيّ الآخر للعراق الذي يشتهر بالسياحة الدينيّة.

تشهد الناصرية هذا التحول، فهي مركز محافظة ذي قار تبعد عن بغداد بحوالي ٤٠٠ كلم، ويحيطها من الشمال محافظة واسط ومن الجنوب محافظة البصرة ، ومن الغرب محافظة المثنى ومن الشرق محافظة ميسان.

التاريخ يشهد

في حديث إلى الحصاد، يلفت الباحث والآثاري ومدير متحف الناصرية الحضاري عامر عبد الرزاق إلى تميّز الناصرية كسياحة أثريّة في العراق: “الناصرية مدينة موغلة بالقدم، يسميها الدكتور هنري رايت أستاذ تاريخ الشرق في جامعة شيكاغو: “متحف الآثار العالمي” لما تتضمّنه من المواقع الأثريّة الهامة. إذ تضم المحافظة ١٢٠٠ ألف ومئتيْ موقعًا أثريًا. المشهور عالميًا منها مدينة أور الأثرية، لكن هناك مدينة أريدو أقدم مدينة متحضّرة في العالم يعود تاريخها إلى 5000 سنة ق.م، إضافة إلى؛  باد-تابيرا، لكش، تلو، تل زر غل، مدينة أوما، وغيرها الكثير.  وهي مهد الحضارة الإنسانيّة والفن مترسخ فيها، وقد عرفت أقدم قانون في البشرية هو قانون “أور نمو” ملك أور، وهو أقدم من قانون حامورابي، كذلك أول دار عدالة ومحكمة في الناصرية كانت تقام في معبد  “دب لال ماخ”، أول  كلمة تحمل معنى الحرية قبل ٢٦٠٠ ق.م هي في مملكة لكش وكانت تسمى بـ أمارجي، ومعناه (العودة إلى رحم الأم)، المسرح السومري، الطب الأوّل، الكاتب الأوّل دودو، وقد تمّ اكتشاف أول نوتة موسيقيّة في مدينة أور، شوركي بدابن أور كان يُسمى بالملك الموسيقار وكان يُجيد العزف على سبعة آلات موسيقية، وتم اكتشاف قيثارات سومرية في المقبرة الملكية والتي أُخذ جزء كبير منها إلى المتحف البريطاني، وهناك فنانين من داخل الناصرية وشعراء على مستوى عال، ويشهد بذلك  تمثال محمد سعيد الحبوبي، الذي شيّده النحات عبد الرضا كشيش 1973، وهو شاعر عراقي وفقيه وأحد قادة ثورة العشرين ضد الإحتلال الإنكليزي.  فالناصرية متجذرة في الفن. وأيضًا مناطق الأهوار والتي هي بيئة طبيعية مهمة، وهي بيئة السومريين الأولى.

بيئة متنوّعة طبيعيًا وثقافيًا؛ العادات والتقاليد

تمتاز الناصريّة بتنوعها البيئيّ الطبيعي ما بين الزراعة التصحّر والأهوار. يمر فيها نهر الفرات في الناصرية ونهر الغراف وهو أحد أفرع نهر دجلة يمر في شمال محافظة ذي قار، وعلى أقضية عديدة قضاء الفجر والقلعة، وقضاء الرفاعي والشطرة.

من الزراعات الشهيرة في المنطقة: النخيل الحنطة، السمسم، الشعير، الفواكه والخضر على أنواعها، شجرة النبك، شجرة السدرة، والصفصاف.

 يمتاز مناخها بالحرّ الشديد صيفًا، حتى تلامس درجة الحرارة الخمسين، ولهذا يتوافد السياح إلى المنطقة خلال الشهر العاشر اكتوبر/ تشرين الأول، حتى نهاية ابريل/ نيسان، حيث يكون الجوّ معتدل وبارد وجميل، وهناك العديد من الفنادق السياحيّة لعلّ أشهرها: فندق سومريون، الزيتون، فندق اوروكيمر في ذي قار..

من التقاليد المتميّزة؛ بيوت القصب في أهوار الجبايش والتي هي تقليد سومريّ متوارث عبر الأجيال،  بالأختام الأسطوانيّة والألواح السومريّة وعلى الطريقة السومريّة نفسها في التنفيذ، كذلك صناعة القوارب والزوارق  لصيد الأسماك، وتعدّ سمات الضيافة والكرم من العادات التي تميّز أناسها. ومن  المأكولات الشهيرة : السمك المسگوف والزوري، المسموطة، الكباب، التشريب، الكبة والدولمة.

يذكر عبد الرزاق: تنعم الناصرية بالعيش المشترك فيها عشرات البعثات التنقيبيّة الأجنبية، والكثير  من الديانات السماويّة المسيحية والإسلام وغير السماوية أيضا كالصابئة والمندائية، وكلها تعيش بسلام، ولا يوجد تقييد على ملابس السيّاح، ولهم مطلق الحرية، حتى داخل المجتمع.

يحتفل الناس بالأعياد الإسلامية، ويمارسون طقوس وشعائر عاشوراء، وخلال أيام عاشوراء يقيمون الشعائر والطقوس الخاصة بالمناسبة ويشهدون مشهد السير على الأقدام إلى كربلاء  حيث يمر المشاة من الناصرية قدومًا من البصرة . إضافة إلى اليوم الوطني الذي أقرته الحكومة العراقية في 6 آذار من كل عام “يوم التسامح والتعايش”.

        مدينة أور الأثريّة

مدينة أور القديمة تقع على مبعدة كليومترات من مدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار، سكن فيها السومريون والإكديون يعود تاريخها إلى آلاف السنوات، كانت “أور” عاصمة للدولة السومرية عام 2100 قبل الميلاد، وتحتضن “زقورة أور” ( كلمة أكدية معناها المكان المرتفع) التي تعتبر من أقدم المعابد في العراق، وشيدت سنة 2050 قبل الميلاد، وتمثّل أقدم فكرة للبناء المدرّج في العالم، حيث بناها الملك (أور نمو) من سلالة أور الثالثة (2100 قبل الميلاد). تعدّ مركزًا دينيًا مقدسًا لدى سكان وادي الرافدين، عُبدت فيها الآلهة، وتضم المدينة الأثرية المقبرة الملكية ومقبرة الملك شولكي ومعبد دب لال ماخ. إضافة إلى أن النبي إبراهيم (ع) وُلد في أور وفيها بيته وهو مبنيّ بطريقة جماليّة.

تحتل أور مكانة في لائحة التراث العالميّ منذ 2016 بوصفها الحاضرة السومريّة الخالدة على مرّ التاريخ والسنين، بعد زيارة بابا الفاتيكان فرنسيس إلى العراق وخاصة مدينة أور التاريخيّة في محافظة ذي قار جنوب العراق، شهدت المحافظة ارتفاعا في أعداد السياح: قال أتيت أصلي الصلاة الإبراهيمية، وأتيت لأحجّ الحج الأكبر، مما شكّل عامل جذب للسياح المسيحيين من داخل وخارج العراق.

أهوار الجبايش

        مناطق الأهوار في قضاء الجبايش، تقع شرق مدينة الناصرية، وهي أراض رطبة تضم مسطّحات مائيّة واسعة وبحيرات، وتتغذى من مياه نهريْ دجلة والفرات، يكثُر فيها القصب والبردي، والبيوت البدائيّة من القصب تمثّل بيئة سومريّة حيّة، وتتميز بتنوّعها البيئي فهي ملجأ للطيور المهاجرة على أنواعها والأسماك المتنوعة، إضافة إلى الحيوانات الثديّة، ويتميز سكانها بنمط حياة خاص يعيشون في بيوت من قصب، يعتمدون على تربية الجاموس وصيد الأسماك تمتاز حياة أهلها بالبساطة، فهم يشكلون مجتمعًا خاصًا، حيث يندمج الأطفال في ثقافة العمل لأجل العيش، في ظل عدم وجود مدارس قريبة. فيها نصب شهداء الأهوار وبني تكريما لشهداء الأهوار.

         العمل مستمر

كانت زيارة البابا لمدينة الناصريّة وتحديدًا زيارته لمدينة أور وتصريحه بأنها مركزًا للحج المقدّس، نقطة تحوّل مصيريّة، دفعت الحكومة العراقيّة للالتفات إلى التاريخ المهمل في مدينة الناصريّة، ووضع الخطط الإنمائيّة والتصاميم لإعمار المرافق السياحية فيها واستثمار الأراضي في مشاريع سياحية فاعلة.

يشير عبد الرزاق:  “شكلت الحكومة قرار لجنة ٣٨، من قبل رئاسة الوزراء العراقية لبناء  مدينة أور السياحيّة بالقرب من مدينة أور الأثرية تبعد عنها ما يقارب ١٠٠٠ م، وهي مدينة عملاقة بحدود ٤٠٠ دونم . تم الآن بناء البنى التحتية والأرصفة الإضاءة ومياه الطرق وتم إنجاز بناء ٦٠٪ من مسرح يتسع لأكثر من ١٥٠٠ شخص، ومسرح داخلي ومركز ثقافي ومركز لاستقبال الزائرين، وقام أحد المتبرعين العراقيين وهو مسيحي الديانة ببناء مسجد وكنيسة على وشك الانتهاء”. وإن حمل ذلك شيئا فهو دليل على الانفتاح الديني والتقبُل.

يوجد في محافظة ذي قار كلية السياحة ومعهدًا للسياحة والفندقة يدرّب أدلاء سياحيين، وهناك تسهيلات اتّبعتها الحكومة العراقية تجاه الوافدين من ضمنها إلغاء التأشيرة أو الفيزا والاكتفاء بإعطائها في مطارات العراق من دون أيّة تعقيدات روتينيّة.

لا يزال العمل قائمًا على تنفيذ خطط المشاريع والبناء،  فتحت الحكومة العراقية أبواب الاستثمار على الخارج، وهناك استثمارات من قبل دول الخليج والإمارات في مدينة أور السياحية،  لبناء بعض المجمّعات السكنيّة.

يصرّح عبد الرزاق: أعداد السياح كانت غير متوقعة في السنتين الماضيتين منذ تاريخ زيارة الحبر الأعظم، ومن جنسيات مختلفة: أميركا وفرنسا وبريطانيا وفرنسا سويسرا ، ألمانيا، إيطاليا، بلجيكا، البرتغال روسيا وأيضا من شرق آسيا وتايلاند والبرازيل. وتشكل الدول الأوروبية العدد الأكبر تليها دول شرق آسيا.

 شهدت المنطقة طفرة سياحية بحيث امتلأت الفنادق بالحجوزات، حتى اضطر قسم كبير منهم للحجز في فنادق بغداد والبصرة كما أشار عبد الرزاق.

وعلى أمل أن يأخذ العراق حقّه من السياحة الأثريّة في الناصرية، وأن يشهد تحولًا جذريًا يُقيمه من حزنه التاريخي المتجذر جراء الحروب وآثارها المضنية على المجتمع والاقتصاد والثقافة، ويفي تاريخه الحضاري العتيد حقّه الذي يستحقه من التقدير.