الوطن المستورد… لبنان

من حنجرة

الدكتور نسيم الخوري

سقطنا… صرنا في القاع… من يمدّ الحبل إلينا وهو حول أعناقنا

سقطنا … وصار الوطن تقاتلاً على المغانم والسبايا والحصص.

لماذا يا ترى؟

لأنّ اللبناني حاجب “شاطر” يباشر عمله خلف “بابور” من الكاز، يحضّر القهوة، وسرعان ما يتحوّل إلى صاحب يخوتٍ، يحضّر الصفقات ويتأهب للبرلمان.

ولأنّ سياساتنا الخارجيّة لم تكن أكثر من تملّق السفراء والقناصل والوقوف على أبوابهم والإنحناء أمامهم حتى تلامس الجباه الأرض وتقديم التقارير الحافلة بالحسد والفسد والفساد والنق و”قم لأقعد مطرحك” وتقديم أطنان الهدايا من العباءات والنحاسيّات وعلب الصدف وفناجين القهوة وعلب السكاكين والملاعق المطرّزة الجزّينية، وصولاً إلى السيارات المصفحة…ووو… أخجل من المتابعة سرداً لما  يقدّمون للغريب…ويحتقرون الغريب

ولأنّ سياستنا الداخليّة قائمة من وزيرٍ لآخرعلى تعزيز أعداد محاضر الضبط بالفقراء لمصلحة جيوب القضاة وحظوة الوشاة وكتبة التقارير وبث الرعب في العلاقات الإنسانية الطبيعية والناعمة بين المواطنين، ولصفقات تبديل دوري لإشارات السير المطفأة وتأمين لوحات لسيّارات التابعين والمحظيين بأرقام مميّزة ولتغييرها ولصفقات آلات الإطفاء ودفاتر السيارات ورخص القيادة ومغاور النافعة التي لا تنفع إلاّ  جيوب جيوش من السماسرة.

ولأنّ الزراعة في وطني ولدت على أيدي الأطباء، فلا زرعنا ولا قطفنا ولا أكلنا سوى البيانات والتصريحات الفارغة وزراعة الحشيشة واستيراد كلّ  شيءٍ حتّى هزأت  منّا نمال الأرض.

ولأنّ تاريخ الصحة ولد على أيدي الملاّكين وأصحاب العقارات وتجار الأدوية، فاضطرّ اللبناني وما يزال يبيع أملاكه وأطفاله وكليتيه وعينيه وقلبه وحيواته المنويّة لأجل تأمين الدواء، وإن وجد هذا الدواء فهو فاسد على الأرجح أو باهظ الثمن لصالح الإستشفاء والمستشفيات والأطباء ولتسعة لبنانيين من كبار المحتكرين تحميهم قوانين السرقات التب يملكها ويديرها سلاطين و”كارتيلات” الإحتكار المرعبة أعني أصحاب “الوكالات الحصرية” حيث نجد “رؤوساء جمهوريات” متحاصصة أعني تاجر هو رئيس جمهورية السكر أو الأرز والطحين والغاز والبترول الخام والبنزين والمازوت والصابون وملاقط الغسيل والبسكويت ..ألخ. لكل صنف ملكه وتجاره إذ يتداخل في تلك الجمهوريات عصابات تجفّف جيوب اللبنانيين وأرواحهم السياسي فيختلط المجرم  بالتاجر الأكثر إجراماً وتتراكم الصفقات والأسعار وصولاً إلى الإنخراط بتجارة السلاح وانفلاش القومسيونات التي تجتاح الإدارات اللبنانية والعالم…ولأن العشوائية تأكل اليوم اللبنانيين في ما خصّ اللقاح والتلقيح والكورونا بين مصالخ الخاص والعام…. والمصابون والموتى يركضون نحو المستقيات الفارغة المظلمة وكأنها القبور…وقد غادر معظم أطباء لبنان نحو الخليج ومستشفيات العالم واصطحبوا معهم الممرضات. أين تقع وزارة الصحة في لبنان وأين هم وزراء الصحة بياقاتهم المنشاة يحاضرون بما لا يفهمه المشاهدون أو السامعون؟من هو صاحب الجواب الذي..يحلّل ويناقش ويوضح…

ولأنّ الإسكان صار دفتراً لبنانيّاً حافلاً بتهجير المواطنين وفق مادة واحدة هي الإسترادد للهدم التي قوّضت قوانين الإيجارات ودمّرت العديد من أحياء بيروت القديمة، وخصوصاً بعد انفجار المرفأ، بهدف الولوج إلى حضارة عفواً حقارة فكرة تسابق الأبراج والعمارات العالية وسرقة الموازنات الخاصّة بالفقراء والمعوزين ليقتات بها نجباء من رؤوساء الوزارات الممقوتين منذ بدأنا نتكلّم بالإسكان.

ولأنّ تاريخ الدفاع قام على أيدي صيّادي العصافيرفي جبال لبنان والبوادي  السورية وتوزيع رخص السلاح على الأزلام والكتبة، فلا دافعنا ولا حفظنا أرضنا، وكانت النتيجة أن خرّب الأعداء زرعنا وكرومنا وجنوبنا وكرامتنا وأحرقوا أرضنا وأهلنا لولا أن قاتلنا بما بقي من لحومنا وأظافرنا وأطفالنا.

ولأنّ الماليّة مدرسة بل جامعة عالمية مشلوحة في البريّة لا مثيل لها في العالم في أصول النهب وتبرير قوائم المصاريف ونقل الإعتمادات في ميزانيات الدولة وشطب الضرائب وخنق الناس بالضرلائب والديون وفقاً لفنون النهب والإختلاس.

ولأنّ الأشغال العامّة لا تتعدّى الشغل ببعضنا البعض وترتيب العاطلين عن العمل في صفوفٍ طويلة جائعة، وحفر الطرقات صباح مساء وتشغيل معامل الإسمنت التي تقتل الناس بالسرطانات، وتقديم الزفت هبات للنوائب والأوزار ورؤوساء البلديات الذين لم يفعلوا سوى بناء القصور البلدية التي تملأ الأحياء.

ولأنّ وزارات الثقافة والتعليم العالي والإعلام تراكم أجيالاً مسلوبة ضحلة الثقافة همّها توزيع الجامعات على حماة قصور السياسيين والمذاهب والطوائف والأزلام والمحاسيب بعدما وزّعت الإذاعات والشاشات والمواقع على الأزلام أيضاً وشاركتهم بكلّ كلمة وإعلان، وهكذا ماتت الإذاعة اللبنانية ومات تلفزيون لبنان بعدما سرقوا أرشيفه، وماتت أو تموت الجامعة اللبنانيّة،

ولأنّ الوباء المعروف بالكورونا والمعابر والفقراء وأطفال الحروب والمهجّرين والمعاقين والطلاب والشهداء والجنوب والمهاجرين وأكاذيب “التعايش” والكتابة  والصحافة والتلفزيونات والمساكن الشعبية  والدخان والزعامات والميليشيات والإنتخابات والمرافقين ومواكب السيارات السوداء المصفّحة،

ولأنّ الغنى الفاحش والفقر المدقع والتصنّع والتمغرب والإزدواجيات والكذب وضمور الوطنية ونهب الوطن هو القاعدة العامّة التي لم تمحها حروب شرسة،

ولأنّ هذه الأمور مقدّمة طفيفة حقيرة لمّا نشهده في هذا الوطن المستورد الذي لا جذور له سوى صراخ الألسنة المهترئة، أو هو مقدّمة  يسيرة من حواضر الوطن العشوائي وفقاً لتسميةٍ أولى الذي يعيش ويستمرّ بلا دستور وكلّهم يتقاتلون على نصٍّ مدفوعة أثمانه عدّاً ونقداً وذلاُ وكذباً،

ولأنّني أكتب بهذا عن روح المناضلين في كلّ هذه الميادين وهم قلّة ماتوا مقهورين وخصوصاً في ميادين الصحة والدواء وقوانين الإيجارات والإسكان والتعليم المجّاني بعدما قوّضت حيتان المال والوكلاء الحصريون تاريخاً نظيفاً طاهراً يسجّل لههم مع  نضال قدامى ساسيي لبنان،

أين كنّا وأين أصبحنا؟؟؟

سقطنا نهائيّاً ! نعم سقطنا، ولن يخلّصنا سفير أو مبعوث أو مصرف دولي أو دولة عظمى أو إقليمية أو…أو….لا يخلّصنا إلاّ خمسة أو ستّة أبطال من فقراء بلادي..لماذا ؟

لا بدّ من قراءة هذا النص، تمهيداً لإعادة طبعه ونشره وتوزيعه بكلّ اللغات حضّاً لا على العصيان المدني أوالنزول للعيش في الساحات أو التخلّص من أصحاب القصور والتلال الذين مصّوا دماءنا ودمّروا الوطن الذي لم يعد صالحاً لأية قيامة.

العدد 124 / كانون الثاني 2022