انماط السلوك الأمريكي حيال العرب في عام 2030 على وفق معطيات مشهد ديمومة التردي وبداية التغيير

أ.د. مازن الرمضاني*

عبر تطورها التاريخي منذ عام 1945 صعودا والسياسة الخارجية الأمريكية تتعامل مع الدول العربية أنطلاقا من ثمة أهداف إستراتيجية واقتصادية وسياسية وثقافية عليا كادت تكون ثابتة. ومرد ذلك يكمن في أهمية الوطن العربي في الادراك الأمريكي لدوره في دعم النزوع الممتد إلى الامن والرفاهية والمكانة الدولية الفاعلة في الحاضر والمستقبل هذا فضلا عن تاثيرمقاربة ضمان المصالح الامريكية العليا،التي أستمر رؤوساء هذه الإدارات على الانطلاق منها وتحقيقها بغض النظرعن انتماءهم الحزبي الديمقراطي أو الجمهوري و/أو المؤسساتي(المؤسسة الشرقية أو الغربية)، فضلا عن تاثير سمات شخصياتهم، وتاثير المتغيرات الداخلية في قراراتهم. لذا يبرزالسؤال الآتي: هو كيف يحتمل أن تتعامل الإدارات الأمريكية المتعاقبة حتى عام 2030 مع الدول العربية في ضوء معطيات هذا المشهد المركب: ديمومة التردي وبداية التغيير؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ستشكل مضمون هذا المقال الذي سيكون امتدادا لسلسلة مقالات سابقة تناولت احتمالات السياسات الخارجية لثمة قوى كبرى تقليدية وبازغة، حيال مستقبلات الوطن العربي في عام 2030.

وفي ضوء السؤال أعلاه نرجح أن الإدارات الأمريكية التي ستتعاقب دوريا بعد يوم التنصيب الرسمي للرئيس الجديد، جون بايدن في 20 من الشهر القادم كانون الأول 2021، ستعمد إلى الأخذ بنمطين متفاعلين من السلوك حيال الدول العربية في أن: الأول سيعمد إلى توظيف تأثير مخرجات مشهد ديمومة التردي في السلوك السياسي الخارجي العربي وبما يجعله منطلقا أساسيا له لجدواه العالية بالنسبة لها. أما الثاني فسيذهب إلى تبني سياسة إحتواء الأفعال العربية الايجابية الناجمة عن معطيات مشهد التغيير و/أومحاولة التكيف معها في الاقل هذا لأن هذه المعطيات تفرض على هذه الإدارة الأمريكية أو تلك ضرورة الأخذ بإنماط من السلوك حيال العرب لم تعتاد عليها سابقا.

فاما عن النمط الاول فنراه يكمن في الأخذ بالآتي مثلا:

  1. من المرجح استمرارالولايات المتحدة في تعاملها مع الوطن العربي على وفق رؤية فكرية تتأسس على أنه ليس إلا تجمعا جغرافيا مجردا لمجموعة دول وليس تجمعا لمجموعة قومية مميزة في خصائصها الثقافية ومن ثم هويتها. ولهذا ستستمر في تغليب تعاملها الثنائي على الجماعي مع الدول العربية. إذ أن مثل هذا التعامل الثنائي هو الذي يسمح أن يكون التعامل الثنائي تعاملا بين طرفين غيرمتكافئين في قدرتهما على الفعل وبحصيلة تكون على حساب الطرف الأكثر ضعفا. وهذا يكون بالضرورة الدولة العربية التي تتعامل معها الإدارة الأمريكية. هذا فضلا عن العمل على افشال المشاريع التكاملية العربية سواء على الصعيد الثنائي أوالإقليمي أو القومي العربي إدراكا منها أن مثل هذه المشاريع جميعا تتؤسس لبزوغ العرب كقوة إقليمية مؤثرة وهو الأمر الذي تراه الولايات المتحدة يفضي بالحصيلة إلى الاضرار بمصالحها المنشودة في الوطن العربي.
  2. من المرجع استمرار الأخذ بمعيار الأقتراب من الأهداف الأمريكية في الوطن العربي أو الإبتعاد عنها أومناهضتها من قبل الدول العربيةمعيارا للتمييز بين الأصدقاء والاعداء. فأما عن الأصدقاء فوضعهم سيكون مماثلا لوضع ثمة من يكون طرفا في علاقة غير متوازنة مع طرف أخر. فمثل هذه العلاقة وإن تتيح للطرف الأقل قدرة فرصة الإستفادة من ثمة منافع يقدمها الطرف الأكثر قدرة ولكن مقابل ثمن الإنسياق وراء مطالب هذا الطرف وبضمنه حتى أن يكون وكيلا لخدمة مصالحه. والشىء ذاته ينسحب ضمنا أو صراحة على جل علاقات الدول العربية الصديقة للولايات المتحدة. ولنتذكر بهذا الصدد إنسياق ثمة دول عربية وراء سياسة السير إلى الحرب مع العراق ومن ثم احتلاله عام 2003 مقابل ضمان الأمن الوطني لهذه الدول الذي كان العراق مدافعا عنه وحاميا له خلال الحرب العراقية ـ الايرانية.

 وأما عن الدول العربية التي تصنفها الولايات المتحدة كدول غيرصديقة لها فإنها ستعمد إلى تبني سياسة إحتوائها عبر أدوات متعددة منها مثلا فرض العقوبات الاقتصادية عليها ودعم القوى الداخلية المناهظة لحكوماتها سبيلا إلى أضعافها في مرحلة ومن ثم إستبدالهالاحقا بأخرى تتبنى سياسة الإنسياق وراء السياسة الأمريكية. ومن غير المحتمل اللجوء إلى توظيف القوة العسكرية لهذا الغرض. فالكلفة البشرية والاقتصادية لهذا التوظيف تحول دون ذلك. والعقل الأمريكي سيبقى يتذكر كلفة غزو العراق واحتلاله عام 2003 والمقاومة العراقية له لاحقا.

  1. من المرجح استمرار تأرجح سياسات الولايات المتحدة حيال الصراعات العربية ـ الإقليمية بين الانحياز للطرف غير العربي أو تبني سياسة الحياد المعلن حيال هذه الصراعات أو دعم الطرف العربي ضمنا أو صراحة. فاما عن الانحياز للطرف اٌلإقليمي لنتذكر الموقف الأمريكي الداعم لإسرائيل والممتد في الزمان ومثاله موقفها حيال حرب تشرين الأول/اكتوبر عام 1973 ونقل السفارة الأمريكية من العاصمة إلى القدس وافتتاحها رسميا في 14 مايس2018 وتشجيع عملية التطبيع العربي مع إسرائيل. وجراء هذا الدعم الممتد زمانا من غير المحتمل حتى وإن تم حل الصراع العربي ـ الإسرائيلي جراء الأخذ بسياسة التطبيع الشامل مع العرب كافة من غير المحتمل إن تعمد الولايات المتحدة الأمريكية إلى التخلي عن سياسة ضمان التفوق العسكري الإسرائيلي على العرب. فهذا التفوق هو الذي يؤمن لإسرائيل أمنها الخارجي من تحديات المستقبل.

وأما عن تبني عن سياسة الحياد المعلن فالسياسة الأمريكية حيال الحرب العراقية ـ الايرانية (1980-1988) تعبر عنها كفعل قد يتكرر. فهذه الحرب التي عبرت في وقته عن ذلك النموذج من تلك الحروب بين دول عالم الجنوب التي تعمد القوى الدولية المؤثرة إلى تركها بعد اندلاعها ممتدة لفترة طويلة ولاهداف تكمن في مجموعة تلك المصالح التي اريد بإدامة الحرب أن تحقق بعضها و/أو توطد بعضها الآخر هذاعلى الرغم من إنها كانت تستطيع فضها وعلى شاكلة تلك الحروب الإقليمية السابقة على اندلاعها.

 وقد كانت الولايات المتحدة احدى تلك القوى الدولية التي لم تتوان عن توظيف هذه الحرب خدمة لمصالح إستراتيجية واقتصادية وسياسية منشودة. فإستراتيجيا تجسدت هذه المصالح في الحيلولة انذاك دون هيمنة قوى إقليمية مناهظة للسياسة الامريكية، وخاصة العراق أو ايران على منطقة الخليج العربي أو كذلك قوة كبرى وخصوصا الاتحاد السوفيتي في وقته. وهنا لنتذكر مضمون مبدأ كارتر الذي انطوى على التهديد بإستخدام القوة العسكرية ضد كل من اراد الهيمنة على هذه المنطقة. أما اقتصاديا فقد كان ابرزها في وقته يكمن في ضمان تدفق النفط اليها والدول الاوربية الحليفة، فضلا عن المصلحة الاقتصادية الكامنة في بيع الاسلحة لكلا الطرفين المتحاربين سواء بصيغة مباشرة أو غير مباشرة. أما سياسيا فالولايات المتحدة كانت واعية أيضا لما تريد: كسب العراق واحتواء التدهور في العلاقة مع ايران بعد احداث 1979 في أن. بيد أنها كانت واعية أيضا لجدوى أن تفضي ديمومة الحرب إلى استنزاف قدرات قوى إقليمية مؤثرة كانت في وقته مناهظة لسياساتها. ومن هنا كان تبني سياسة الجلوس على الكرسيين في أن. وقد ساعد تذبذب ميزان القوى العسكري بين الطرفين في وقته على تحديد موقفها منهما. فهذا توزع بين تقديم الدعم لأحدهما (العراق) مع الحرص على إبقاء العلاقة ممتدة مع الطرف الثاني (ايران) في الوقت ذاته.

وأما عن إلتزام الولايات المتحدة بضمان الأمن الوطني لدول الخليج العربي فمرده تاثير ذات تلك المصالح إلإستراتيجية والاقتصادية المدعومة بمخرجات علاقة تاريخية وطيدة الجذور. وعلى الرغم من أن علاقات دول الخليج العربي مع الولايات المتحدة الأمريكية ستبقى على الأرجح وطيدة، بيد أن نوعية هذه العلاقات قد لا تفضي في حالة اندلاع صراع مسلح بين أحدى هذه الدول وايران إلى تبني الولايات المتحدة تلقائيا لسياسة الانحياز إلى جانب هذه الدولة الخليجية العربية أو تلك ومن ثم قد لا تكون هذه العلاقات الخليجية العربية ـ الأمريكية الوطيدة حائلا دون تبني الولايات الأمريكية لثمة انماط من السلوك تختلف مضامينها بإختلاف طبيعة علاقاتها السائدة في وقته مع اطراف هذا الصراع. وبهذا الصدد نفترض ثلاثة مشاهد محتملة:

فأما عن المشهد الاول الذي يتميز في حالة تبادل الولايات المتحدة علاقات الصداقة مع الطرفين بالحرص على التدخل كطرف ثالث محايد وتوظيف هذه العلاقات سبيلا لتهدئة الصراع أولا ومن ثم تسويته سلميا لاحقا عبر صيغة الحلول الوسط. هذا لأن الفشل في حل هذا الصراع أمريكيا سيفضي إلى تدخل أطراف دولية أخرى ذات مصالح مهمة في منطقة الخليج العربي ومن ثم توظيفها لهذا الصراع لصالحها فضلا عن أنه سيكون دليلا مضافا على تراجع القدرة الأمريكية على التأثير حتى في تفاعلات اصدقائها وفي منطقة جغرافية كانت دوما ضمن مصالح الأمن القومي الأمريكي.

وأما عن المشهد الثاني والذي يفيد بتبادل الولايات المتحدة لعلاقة التعاون مع الطرف الخليجي العربي وعلاقة الصراع مع الطرف الايراني فإنه ينطوي على تبني اياها لسياسة داعمة للطرف العربي عبر ثمة ادوات ومنها التهديد بإستخدام القوة و/أو استخدامها على نحوٍ منفرد أوجماعي عبر الأمم المتحدة سبيلا لردع الطرف الإيراني.

وأما عن المشهد الثالث والذي يعبرعن علاقة أمريكية متوترة مع الطرفين الخليجي العربي والايراني، فإنه يكرر ذات المشهد الذي اقترنت به السياسة الامريكية حيال الحرب العراقية ـ الايرانية. بيد أن الولايات المتحدة قد تذهب إلى ابعد من ذلك خصوصا عندما تدرك ان ميزان القوة يتجه نحوالطرف الايراني. ففي هذه الحالة قد لا تتردد عن توظيف الاستخدمات المتعددة للقوة العسكرية ابتداء بالتهديد بإستخدامها وانتهاء باستخدامها فعلا على نحو محدود إن استدعت الضرورة ذلك هذا للحيلولة دون التحكم الإيراني في منطقة الخليج العربي ومن ثم تهديد المصالح الأمريكية فيها.

وأما عن النمط الثاني من أنماط السلوك الأمريكية حيال الدول العربية، فنراه يكمن أساسا في احتواء الافعال الناجمة عن الإندفاعة العربية نحو التغييرأو في التكيف معها. ومثالها الآتي:

  1. من المرجح أن تعمد الولايات المتحدة إلى تبني ثمة افعال ذات مضامين مختلفة ترمي إلى تشجيع بقاء العرب أسرى لمصالحهم القطرية الضيقة من ثم السلوك الناجم عنها إنطلاقا من إدراكها أن حصيلة الاندفاعة العربية نحو تغيير الواقع العربي نحو الاحسن ستفضي بالضرورة إلى بناء قوة عربية إقليمية كبرى وقادرة على التصدي لتلك السياسات الخارجية الساعية إلى الهيمنة على حاضر العرب ومستقبلهم ومنها الأمريكية. بيد إن نجاح هذا السلوك الأمريكي يتوقف على كيفية قيام الدول العربية الأكثر تأثيرا ومن ثم الدول العربية الأخرى، بالتعامل معه. وانطلاقا من أن مشهد ديمومة التردي وبداية التغيير لا يلغي بقاء الدول العربية دولا مستقلة ذات سيادة ومن ثم دولا تتخذ القرارات على وفق متطلبات مصالحها الوطنية من المحتمل أن يقترن تعامل الدول العربية مع الولايات المتحدة بأحد الإحتماليين:

 فأما عن الإحتمال الأول فيتجسد في رد فعل عربي شبه شامل ورافض للنزوع الأمريكي الرامي إلى الحد من وتائر تصاعد عملية التغيير العربي. وحيال ذلك قد تتجه الولايات المتحدة إلى التصلب في مواقفها حيال العرب أو التراجع غير المعلن دعما السمعة الدولية. ولعل من نافلة القول أن أقتران السياسة الامريكية بهذا الإحتمال أو ذاك يتوقف على نوعية الإدراك الأمريكي لمدى الاستعداد العربي للصمود أمام سياسة التهديد والترغيب الأمريكية حيالهم.

وأما عن الإحتمال الثاني فهو الانسياق العربي وراء السياسة الأمريكية جراء تأثير تلك المدخلات المتعددة التي كرست علاقة التبعية العربية للولايات المتحدة عبر الزمان.

  1. من المرجح أيضا أن تتبني الولايات المتحدة لسياسة خارجية حيال العرب لا تنطوي على تعطيل عملية التكامل النظامي العربي فحسب وإنما أيضا على توظيف الصراعات الداخلية في تلك الدول العربية المؤثرة وسواها التي تعاني من إشكاليات اثنيىة و/أو دينية ـ طائفية و/أو اجتماعية ـ سياسية سبيلا لإشغالها وإستنزافها داخليا ومن ثم الحد من أنغماسها في عملية التكامل العربي. والشيء ذاته ينسحب على تلك الصراعات العربية مع تلك الدول الاقليمية ذات المشاريع القومية المناهظة للتكامل النظامي العربي.
  2. ينطوي مشهد التغيير العربي أيضا على ابعاد خارجية تتجسد في أستقلالية السياسة الخارجية العربية، وبضمنه بناء علاقات وطيدة ومتوازنه مع جل القوى الكبرى التقليدية وتلك البازغة. ولان هذه القوى ولاسيما تلك التي ستكون في حالة تنافس أو صراع مع الولايات المتحدة ستسعى بالضرورة إلى بناء علاقات واسعة مع العرب لأهميتها بالنسبة لهم نفترض وبإرجحية عالية أن الولايات المتحدة ستعمد ليس فقط إلى تبني سياسة التهديد والترغيب للحد من تطور العلاقات العربية مع تلك القوى وإنما أيضا إلى إلحيلولة دون أن تكون مخرجات هذه العلاقات مدخلا لتحقيق حالة التوازن في العلاقات العربية ـ الأمريكية و/أو أن تكون مدخلا داعما مضافا لتطلع هذه القوى الصعود إلى قمة الهرم السياسي الدولي.

 وفي ضؤء انماط السلوك الامريكي المحتملة اعلاه حيالنا نحن العرب والتي تتماثل أيضا الأخرى مع جل أنماط سلوك القوى الكبرى يبقى السؤال المهم ماذا ينبغي علينا نحن العرب في هذه المرحلة الانتقالية من تطور العالم أن نفعل؟ هل نترك غيرنا يحدد لنا مستقبلنا؟ أم نعمد نحن إلى تأسيس شروط هذا المستقبل ابتداء من الحاضر؟

ونرى أن الجواب لا يحتاج إلى تأمل طويل. فاذا تركنا غيرنا يحدد المستقبل لنا فإنه سيعمد إلى تحديده لنا في ضوء مصالحه العليا أولا وأخيرا. أما إذا عمدنا نحن إلى صناعته اعتمادا على الذات فإننا نستطيع التمهيد لدور عربي فاعل ومؤثر إقليميا وعالميا. فالقدرات العربية مجتمعة تؤهل العرب على أن يكونوا قوة أقليمية كبرى بشرط احتواء معطيات التنافر ودعم معطيات التكامل والتوظيف الأمثل للقدرات خدمة للمصالح الوطنية والقومية التي لا تتقاطع.

ومن اجل صناعة المستقبل العربي المرغوب فيه لنتجنب الانتظار السلبي والدخول في دائرة اللأفعل و/أو ردود الفعل. أن اللاعبين الفاعلين في هذا العالم الصغير والمتغير هم الذين يصنعون المستقبل. ونحن نستطيع الشيء ذاته إن اردنا ذلك وبضمنه معاكسة التاريخ الذي يريده اعداء امتنا العربية صناعته لنا. فالمستقبل يبقى صناعة بشرية.

*استاذ العلوم السياسية/السياسة الدولية ودراسات المستقبلات/لندن

العدد 112 / كانون الثاني 2021