بابلو نيرودا Pablo Neruda شاعر التقلُبات الوجدانيّة

“بإمكانك أن تقطع كل الورود، لكنّك لا تستطيع أن تمنع الربيع من أن يأتي”.

نيفتالي ريكاردو رييس باسوالتو(1904-1973) من شعراء أميركا اللاتينيّة، اتّخذ من “بابلو نيرودا” Pablo Neruda اسمًا زان شهرته به، تيمُنًا وتأثُرًا بالشاعر والكاتب التشيكي جان نيرودا  (1834_1891). وُلد في منطقة ريفية جميلة تدعى بارال في وسط تشيلي، أثّرت في ذائقته الفنيّة،  في عائلة بسيطة. درس الأدب، عنه قيل:  “يعدّ واحدًا من أشهر شعراء اللغة الإسبانية، ساهمت كتاباته في مسار تطور اللغة الشعرية”.

كتب مذكراته تحت عنوان: ” أعترف بأنني قد عشت” التي تحتوي على تفاصيل عن شعره ودواوينه وعلاقاته

نيرودا

بالفنانين والأدباء، وتفاصيل حياته كرجل شيوعي ثوريّ مناضل منفيّ ومطارد. وثّق للكثير من الأحداث في تشيلي وباقي أميركا اللاتينية، وعن سيرته الذاتية كتب الشاعر شوقي بزيع (الشرق الوسط، 4 آذار/مارس 2022، ماتيلدا ونيرودا..الحب المتوهج الذي لم يتمكن الزواج والزمن من إخماده) ” سيرة نيرودا الذاتيّة هي واحدة من أفضل السير وأكثرها تشويقًا لما تتمتع به من صدق تعبيري وجماليات أسلوبية تلقائية واحتفاء عارم بالحياة”.

جمعته علاقة مع عمالقة الأدب، منها مع الروائي جابرييل كارثيا ماركيز، يقول في مقابلة جمعتهما: “بالنسبة لي الشعر، بالفعل له صعوبة كأي صنعة وكذلك إشكاليته ومشاكله، إلا أنني أشعر كأنني سمكة في هذا النهر الصغير أو أيّ كان عليه الشعر”

من مؤلفاته الشعريّة: (عشرون قصيدة حب وأغنيَة يائسة، إسبانيا في القلب، مائة قصيدة حب، إبحارات وعودات، أغنية مفخرة، أحجار تشيلي، أيادي النهار، نهاية العالم..) وغيرها الكثير. إضافة إلى مقالات وكتابات نثريّة، ترأس تحرير عدّة مجلات أدبية،  قام بترجمة أعمال لعدد من الكتّاب والشعراء الفرنسيين. حصل على جائزة نوبل للآداب في العام 1971 ودكتوراه فخرية من جامعة أوكسفورد.

توزّعت حياته بين الأدب والنضال السياسي. اتّسمت كتاباته بالغرائبيّة والغموض، وتقلّب في تعابيره بين شعر الحُب الماجن إلى الشعر البالغ العذوبة، إلى الثورة والحديث عن فظائع الحرب، إلى مشاعر الوحدة الداخليّة وفقدان الشغف، وبين اللغة المُنمقة الكثيرة الصور الفنية والتراكيب الإبداعيّة إلى اللغة المباشرة الشديدة الواقعية الفجة التصوير.

        الشعر هو سلاحي الوحيد

دخل عالم السياسة في العام 1927 سفيرًا لبلاده في عدّة دول منها الأرجنتين وإسبانيا وفرنسا وغيرها، جمعته  صداقة عميقة مع الشاعر الإسباني لوركا، والذي قُتل مع نشوب الحرب الأهلية، يقول في مذكراته: “الحرب الإسبانية غيّرت في شعري، وقد بدأت بالنسبة لي باختفاء شاعر وأيُّ شاعر”. عُزل نيرودا من منصبه كسفير للبلاد في إسبانيا، وسافر إلى فرنسا وأصدر مجلة “شعراء العالم يدافعون عن الشعب الإسباني”. عاد إلى تشيلي في العام 1937 أسس حلفًا للدفاع عن الثقافة، ونشر ديوانه “إسبانيا في القلب”.

شغر عدّة مناصب سياسيّة، كان ماركسيّ الاتجاه، وانتمى للحزب الشيوعي قبل أن تحظر بلاده صلاحيّة عمل هذا

نيرودا وزوجته ماتيليدي

الحزب، ويتعرّض للملاحقة والنفي.

في كتاباته السياسيّة انتحى منحى ثوريًا وواقعيًا، خفّف من الرمزيّة واتجه نحو اللغة المباشرة واستخدم لغة ثوريّة،  حتى عُرف بشاعر الشعب: “قد تسأل.. لماذا لا يتحدث الشعر عن الأحلام وأوراق الشجر/ عن البراكين العظيمة في موطنه/ تعال وعاين الدماء في الشوارع”. وفي قصيدة “الموت وحده” يقول: “هناك مقابر موحشة مستوحدة، قبور ملأى بالعظام، دون صوت../ هناك موت داخل العظام  كالصوت، محض صوت/ كنباح دون كلاب ينبع من أجراس عديدة، من قبور عديدة/ يفيض في ذلك الصمت الرطب كالدموع أو المطر…”.

“وفي المنفى  كتب نيرودا قصائد “نشيد الجنرال” عام 1950،( من مقال “بابلو نيرودا شاعر الثورة والإنسانية” نُشر في آذار/ مارس 2006 في مجلة قاسيون الإلكترونية، للكاتب الحسين النعناع)  “وكانت بالفعل بداية شعرية مختلفة، إنها قصائد ملحميّة يخلط فيها التاريخ مع أفكار إيديولوجية بعيدًا عن الرمزية الشعرية، وتحمل هذه القصائد أجمل الأفكار وأقواها مما جعلها من أفضل ما كتبه: نحن فضة الأرض النقية/ معدن الإنسان الحق/ نجسّد حراك البحر الدائب/ دعم كل الآمال/ ولحظة في الظلام لا تسلبنا النظر/ ودونما عذاب سنلقى حتفنا”.

في بداية السبعينيّات اضطرب الوضع السياسيّ في البلاد على أثر حصول انقلاب عسكري قُتل على أثره رئيس البلاد سلفادور الليندي المُنتخب ديمقراطيًا، ليُعيّن مكانه الحاكم الديكتاتوري أوغستو بيونشيه، هجم الجنود على بيت الشاعر بحثًا عن سلاح  ووقتها كان جوابه الشهير “الشعر هو سلاحي الوحيد”.

توفي في أيلول/ سبتمبر 1973 وقيل أنه قُتل بحقنة قاتلة من قبل نظام بيونشيه حتى لا يتحوّل إلى رمز للمعارضة في الخارج.

فليُنقذنا الحُب من الحياة على الأقل!

 “كل شيء يقودني إليك، وكأنّ كلّ ما هو موجود، الروائح الضوء، المعادن، ليسوا سوى قوارب صغيرة باتجاه جُزُرك التي تنتظرني”.

خاض الشاعر عدّة تجارب عاطفية، كان الشعر مرآتها، وعكست زيجاته الثلاث نمط حياته في مراحل ما، اتّسم زواجه من امرأة هولندية “ماريا أغينار” في العام 1930 بالبؤس، انتهى بالانفصال وبابنة وحيدة ماتت على أثر إصابتها بمرض دماغي في عمر الثماني سنوات، ويُقال بأنه لم يكُ يُنفق على مرضها! بعدها تزوّج بالرسامة الأرجنتينيّة “ديليا كاريل” لإعجابه بالتزامها العقائدي وسعة ثقافتها وهي تكبره بخمسة عشر عامًا، ويبدو أنّ الثقافة وحدها لم تكن لتكفي رجُلًا شهوانيّ النزعة كما تُظهر أشعاره وبعض القصص المرويّة عنه! إذ خلال زواجه بها دخل في علاقة سريّة مع مغنيّة تشيليّة “ماتيلدي يوروتيا”، ليتذوق متأخرًا طعم الحبّ الحقيقيّ، ويخوض معها مغامرة عاطفية خفيّة: “ثمة أمر أهم منك ومني، إنه أنت وأنا”. طلّق كاريل ليتزوج بها، شكّلت ماتيلدي مصدر إلهام واستقرار له وشغف حبّ لا يُنهيه الزمن، خصّها بديوان: ” مئة سوناتة حب”. أنشأت مؤسسة نيرودا. تبادلا رسائل حبّ كثيرة، جُمعت بعد وفاته في إسبانيا لتصدُر في كتاب مستقل بعنوان “رسائل  حب” بين عامي 1950 -1973 شاهدة على قصة حبّ عميقة الجذور.

“حبنا يملأ كلّ شيء وكل شيء سيحدثك عني على مدار الساعة وكل شيء يجلب لي أخبارك.”

من النقاط السوداء في حياته، ذكر في مذكراته قصّة اعتدائه على عاملة شابة كانت تعمل لديه، ووصف الحادثة بسلاسة سرديّة مما أثار عليه نقمة ومعارضة الناشطين، الذي كان سببًا في منع تسميَة إحدى المطارات باسمه.

كتاب المذكرات

لم يكن الشاعر بريئا كما تُظهر الكتابات عنه، ولعله ارتكب هفوات لا تُغتفر وترك تساؤلات تتصّل بسلوكه العاطفي.

  وفي منحى آخر، تُظهر أشعاره الغنية بالاستعارات والتراكيب الفنيّة الممزوجة بالذاتيّة نزوعًا يفيض بالرومنسيّة والرقّة، ونشيدًا يهفو نحو الآخر الأنثى التي رأى فيها الحبيبة والوطن، وكانت منجاه من مشاعر الوحدة والعدم والخيبات: “كنت وحيدا مثل نفق، تجنبتني العصافير/ واخترقني الليل باجتياحه الطاغي/ وكي أنجو بنفسي صغت منك سلاحًا/ سهما لقوسي، حجرا لمقلاعي.”

جسّد بقالب شعري وروح مخيالة الكثير من مواقف العشق: “متشبثة بذراعي مثل نبتة متسلقة/ تلملم أوراقها صوتك المتمهل والهادئ.”

وصوّر القطيعة بين الأحبة، حين يغيب الاستماع، ويحل الصمت كالموت : ” وأرى كلماتي بعيدة/ وأبعد منها كلماتُك/ تتسلق كاللبلاب فوق آلاميَ القديمة/ تتسلق فوق الجدران الرطبة/ وأنتِ الملوم في هذه اللعبة الدامية”. ويقول:  “تعجبينني حين تصمتين لأنك تكونين كالغائبة/ بعيدة ومتألمة كما لو أنك قد مُتِّ”. وفي صولاته وجولاته، بدا كعاشقٍ مضطرب يُراوح بين النسيان والتذكُر: “إذا نسيتني هكذا فجأة/ فلا تبحثي عنيّ/ لأنني سأكون قد نسيتك.”  ويعود: ” في أعماقي لا شيء ينطفئ أو يطويه النسيان/ فحبي يقتات على حبكِ يا حبيبتي/ وسيظل طيلة عمركِ بين ذراعيكِ/ دون أن يترك ذراعيّ”.

 لا يُنكر قارئ لشعر نيرودا رؤيته التبجيليّة للحبيبة، واندفاعه الشاعريّ إلى أبعد حدّ نحو تصويرها ومحاورتها بأسلوبٍ عاطفيّ بالغ الرقّة، يقول: “كان العطش والجوع، وكنت أنت الفاكهة/ كان الأسى والدمار، وكنت أنت المعجزة/ آه أيتها المرأة لست أدري كيف استطعت احتوائي/ في أرض روحك، وبين ذراعيكِ..”