بنو تنوخ العرب في المسيحية والاسلام

الاب الدكتور شفيق ابوزيد

هذه الدراسة عن بني توخ وردت في كتاب المؤرخ الدكتور عرفان شهيد عن »بيزنطة والعرب« باللغة الانكليزية، واود ان انقل للقراء الكرام بعض الفقرات المهمة عن هذه القبيلة العربية التي لعبت درواً مهماً في تاريخ المشرق القديم.

تنوخ والمسيحية

يشهد المؤرخون الكنسيون على اخلاص المعاهدين العرب للمسيحية وعلى حماسهم في الدفاع عن الارثوذكسية اثناء حكم الامبراطور فالِنْس. الا ان هذه المصادر البيزنطية، الكنسي منها والزمني على السواء، صامتة في ما يتعلق بمصير هؤلاء المعاهدين ومدى ارتباطهم بالمسيحية في الفترة السابقة لحكم فالنس واللاحقة له. وقد اتضح من قبل ان هؤلاء المعاهدين لم يكونوا على الارجح سوى التنوخيين الوارد ذكرهم في المصادر العربية، التي تحوي معلومات ثمينة عن هذه المجموعة العربية المسيحية. انها تؤكد ما جاء في المصادر البيزنطية، وبذلك فانها تقوي التطابق بين المعاهدين الوارد ذكرهم في المصادر البيزنطية والتنوخيين الوارد ذكرهم في المصادر العربية. وهي تعرفنا بتاريخ التنوخيين المتأخر وارتباطهم بالمسيحية. ان المعلومات التي تزودنا بها دقيقة، ومن ثم فهي ذات اهمية.

بنو تنوخ في العراق وسورية

تتحدث الرواية العربية عن مسيحية التنوخيين قبل هجرتهم الى سورية لمـّا كانوا بعد في ارض الرافدين. ويبدو واضحاً ان التنوخيين اعتنقوا المسيحية وهم بعد في النصف الشرقي من الهلال الخصيب، على النحو نفسه الذي اتبعه فريق من لخم مع ملكهم امرئ القيس في اعتناق المسيحية في الحيرة، وعلى نحو ما فعل اللخميون، فقد نقل التنوخيون ولاءهم من فارس الى رومة، وهاجروا الى الارض الرومانية وصاروا معاهدين لبيزنطة. ليس من المؤكد في ما اذا كانوا قد هاجروا في القرن الثالث او الرابع، وهي قضية تفصيلية، لكنه من الثابت انهم كانوا في القرن الرابع عربا مسيحيين ومعاهدين لبيزنطة، وقد ظلوا على ذلك، معاهدين مسيحيين، خلال القرون الثلاثة للحكم  البيزنطي في الشرق.

من المناسب، قبل ان نترك تنوخ في النصف الشرقي من الهلال الخصيب، من حيث هاجر بعضهم الى سورية الرومانية، ان نحلل جزءا مهما من »تاريخ أحودَمّه«. مع ان الكتاب قد وُضع بالسريانية وانه يتحدّث عن نشاط تبشيري يعود الى القرن السادس، فانه يلقي ضوءا ساطعا على سبيل اعتناق العرب للمسيحية، في الفترة السابقة للاسلام. ويزوّدنا بنظرات فاحصة لذلك؛ وفوق ذلك فان جزءا من الكتاب يهتم بفرع من تنوخ؛ كان لا يزال وثنيا، لما ظهر أحودِمّه بينهم ونصّرهم اذ انه كان اسقف »الشرق« اليعقوبي [من اتباع الطبيعة الواحدة] بين عامي 559 و575.

كان نشاط أحودِمّة التبشيري يقوم على اسس متينة. وذلك بتقديم مبادئ المسيحية المنظمة للعرب. وانه يعين لكل قبيلة كاهنا ومعينا؛ ويبني كنائس ويسمي كلا منها باسم زعيم من زعماء القبائل وذلك ليضمن استمرار دعمهم لها؛ ويكرّس مذابح ويقيمها داخل كنائسهم.

رغبة منه في ان يبلغ المعتنقون الجدد غاية التقوى، فانه يدعو العرب الى تقديم عطايا للفقراء خاصة وهم يلبون النداء فيهبون بكرم للكنائس والرهبان والفقراء، ولصيانة الاديرة المقدسة بشكل خاص؛ وهؤلاء العرب المعتنقون للمسيحية يتميزون عن جميع الفئات المسيحية بتكريسهم انفسهم للصوم والتقشف في اسلوب المعيشة.

واخيرا فان مؤلف »التاريخ« [أَحودِمّه] يصفهم على انهم »متحمسون وغيورون في ايمانهم الارثوذكسي«. وفي كل مرة كانت الكنيسة تضطهد، كان العرب يدافعون عنها بحياتهم؛ وقد تميزت مجموعات قبلية عربية ثلاث في الدفاع وفي تقديم اعظم التضحية وهي »المختارة والمتعددة [قبائل] العَقولاي والتَنوخاي والطُوْعاي«.

في ما يخص التنوخيين فان بعضهم أثبت وجوده، في المصادر العربية، في ارض الرافدين في القرن الثالث ووجودهم في ارض الرافدين مرتبط بشخص خيالي معين هو الضيْزان بن معاوية. لعل هذا القسم من تنوخ كان هو الذي فكر به مؤلف »التاريخ« أحُودمّه لما تحدث عن التنوخايِ ووصفهم بأنهم مسيحيون متحمسون في القرن السادس، على نحو ما كانوا في القرن الثالث على ما تصفهم المصادر العربية والفقرة التي تشير اليهم تؤكد تعلّقهم بالمسيحية المشوب بالعاطفة واستعدادهم للموت في سبيل الايمان.

تحالف بني تنوخ مع بيزنطة المسيحية

ومع قيام السليحيين في القرن الخامس والغساسنة في القرن السادس، فان وجود التنوخيين في الشرق، عسكريا ومسيحيا، خلال ذينك القرنين امر لا شك فيه. ثم انهم يظهرون فجأة في ثلاثينات القرن السابع في ذلك العقد الحاسم في الفتوح العربية. وقد اتضحت مسيحيتهم في وقوفهم، مع سواهم من المعاهدين العرب المسيحيين تحت امرة هرقل، ضد العرب المسلمين، وهذه تؤكدّها الروايات التي تتحدث عن الفتح الاسلامي لمنطقة خلقيس )قنسرين(. وقد ظل هؤلاء التنوخيون مسيحيين خلال الفترة الاموية حين قاموا بدور مهم كجزء من الأجناد التي كانت القوة الاموية ترتكز عليها. الا ان موقعهم كمسيحيين اصبح يزداد صعوبة او حتى مما يصعب تحمله، خاصة مع سقوط الامويين وقيام العباسيين. وقد دوّن التاريخ مسيحيتهم في خلافة المهدي )158-169هـ/775-785م( وثمة معلومات ذات قيمة عن التنوخيين المسيحيين وقوتهم الواضحة المعالم، في مدونات »الشرق المسيحي« ان مجرد ثباتهم حتى حكم المهدي يدل على تمسكهم بمعتقدهم.

بنو تنوخ والاسلام

تروي المصادر انه لما جاء المهدي الى شمال سورية في سنة 780م خرج التنوخيون لتحيته واستقباله وكانوا يمتطون خيولهم العربية. لما اخبر انهم مسيحيون امر بقطع رأس زعيمهم، واجبر الباقين على اعتناق الاسلام، وكانوا خمسة الاف تماما دون النساء. ليست المصادر الادبية التي تروي هذا الفصل المهم عربية فحسب بل سريانية ايضا، ومما يضاف الى ذلك، انها توثقت بنقش. هذه كلها تتلاحم ببعضها البعض وتتمم واحدتها الاخرى في المعلومات التي تزودنا بها. الا انه قبل ان نتمكن من معرفة الحقيقة في ما حدث للتنوخيين في حكم المهدي، يتوجب علينا ان نُخضِع هذه المجموعات المختلفة من المصادر لفحص دقيق.

قبل ان تدون المصادر الادبية العربية والسريانية المقابلة بين التنوخيين والمهدي، كان الخبر قد تحدّد في نقش سرياني قصير على حجر في كنيسة في شمال سورية لا تبعد كثيرا عن الشاطئ الايمن للفرات يشار فيه الى تهديم المهدي للكنائس. )وهذا أمر يرد ذكره في المصادر الاخرى التي لا تعيِّن تماما مواضع هذه الكنائس(. اما النقش المذكور فانه يؤكد ان تدمير الكنائس وقع في شمال سورية، في جند قنسرين )خلقيس( الاموي اي في خلقيديكية البيزنطية السابقة ذ وهي بلاد التنوخيين ذ وشملت، على الاقل جزئيا، كنائس التنوخيين.

تتمثل المصادر الادبية السريانية بمؤلفين، ميخائيل السوري )تو 1199( وابن العبري )تو 1286(، الاخير منهما يزودنا بالرواية التي تحوي معلومات اكثر.

ابن العبري ذ ان روايته عن التنوخيين ومقابلتهم مع المهدي ترد في الفصل الذي يصف فيه حكم ذلك الخليفة، لكن الاحداث الوارد ذكرها هناك تشكل تسلسلا للحوادث التي تطورت خلال زيارة المهدي لشمال سورية التي تمت في عام 780م.

تقول الرواية »على كل فان المهدي هدم الكنائس التي كانت قد بنيت في ايام العرب، وهدم كنيسة الخلقدونيين التي كانت في حلب«. لكن ابن العبري اراد ان يبدأ روايته لحكم المهدي بما اعتبره مهما من وجهة نظره ككاتب مسيحي، اي موقف المهدي من المسيحيين. يتضح من سياق رواية ابن العبري انه لم يكن امام العرب المسيحيين صعوبة كبيرة في بناء كنائس جديدة، في القرن الاول من الخلافة الاسلامية. ان الامويين المتسامحين الذين اقاموا قوتهم على الاجناد، واكثرهم معاهدون عرب سابقون لبيزنطة، سمحوا لرعاياهم المسيحيين بحرية كبيرة في ممارساتهم الدينية. ان هذه الكنائس التي دمرها المهدي، لا بد انها قد بنيت او بني اكثرها على ايدي التنوخيين، لان هؤلاء يبدون كممثلين للعرب المسيحيين في شمال سورية خلال ذلك الحكم، وهو منسجم مع ما يعرف عن حماستهم لبناء الكنائس والاديرة والعناية بها في الفترة السابقة للاسلام.

      لعل العدد الكبير من الفرسان الذين خرجوا للقاء المهدي قد يوحي بان هؤلاء كانوا بقية التنوخيين الذين كوّنوا جزءا من نظام الاجناد في ايام الامويين والذين ساءت حالهم مع سقوط حماتهم الامويين وقيام العباسيين.

      وابن العبري يزودنا باسم الشهيد الوحيد الذي سقط يومها وهو لَيْث.

      ميخائيل السوري ذ ان المؤرخ الاسبق، ميخائيل يملك رواية مهمة عن احوال التنوخيين الجيدة في اوائل القرن الثامن قبل وفاة هرون الرشيد عام 193هـ/809م.

ان روايته عن مقابلة التنوخيين مع المهدي تحوي نبذة مهمة خاصة به على نحو ما ورد عند ابن العبري يقول: ان النساء التنوخيات لم يعتنقن الاسلام، انما الرجال فقط فعلوا ذلك، وان اولئك النسوة »كان يمكن العثور عليهن حتى ايامه في كنائس في الغرب.« قد يعني هذا انهن، بعد ان فقدن رجالهن التنوخيين، اخترن ان يعملن في كنائس الغرب مفضلات ذلك على البقاء مع ازواجهن الذين اسلموا.

      وروايته الاخرى عن التنوخيين فيها قصة مصادمتهم مع العرب المسلمين قرب حلب، وانهم بعد عشرة ايام من القتال، اضطروا الى النـزوح والتوجه الى قنسرين. وهذا مكّن اهل حلب من تملك المساكن التنوخية خارج حلب وهي التي كانت واسعة وغنية.

      يتحدث ميخائيل عن »بيوتهم ومعسكراتهم الضخمة«، ولعل هذا يفسر قول ابن العبري انهم كانوا يقيمون في خيام. لعل هذه الخيام ضربت موقتا لاستقبال المهدي.

      ويستخلص ميخائيل العبرة من مصير التنوخيين ويعتبر نهايتهم المحزنة عقوبة مناسبة لارتدادهم. وعلى كلٍّ فان الرواية توحي بان بعض التنوخيين احتفظوا بهويتهم حتى بعد مقابلتهم مع المهدي اي انهم ظلوا تنوخيين ومسيحيين، اذ انهم يبدون منفصلين تماما عن السكان المسلمين. وتؤكد هذا الامر روايات المصادر العربية التي تتحدث عن انتقالهم من بلاد الخلافة الى ارمينيا، وسواها من الاماكن وهي هجرة تذكرنا بهجرة الغساسنة المسيحيين بعد الفتح الاسلامي.

      ان مؤلفات البلاذري واليعقوبي وهشام تمثل المصادر العربية الادبية، وهي يتمِّم واحدها الاخر، كما انها في مجموعها تكمّل المصادر السريانية.

      البلاذري ذ ان روايته )P.401-3( مهمة لانها تلقي الضوء على بعض نواحي المقابلة التنوخية مع المهدي فالذين ارتدوا عن المسيحية، حسب روايته، هم سكان حاضر قنسرين، ويبدو جليا من روايته التي يشير فيها الى »منازل«، ان الاشارة الى خيام في رواية ابن العبري يجب ان تفسّر بحيث يفهم منها ان هذه كانت اماكن سكن موقتة لقوم مستقرين.

      توحي روايته بان جماعة من تنوخيي حاضر قنسرين هي التي اعتنقت الاسلام خلال حكم المهدي، وليس الجميع؛ وهذا اولى بالقبول من الروايات الاخرى التي ترتأي ان جميعهم اعتنقوا الاسلام. ويضيف، فضلا عن ذلك، تفصيلا ذا قيمة هو انه رسم على ايديهم باللون الاخضر كلمة »قنسرين«. وهذا يدل على ان التنوخيين الذين اعتنقوا الاسلام كانوا أمتن صلة بقنسرين منهم بحلب. الا ان المدينتين حلب وقنسرين كانتا قريبتين الواحدة من الاخرى. وكان للتنوخيين صلة بكليهما.

      ويتضح من رواية البلاذري ان هؤلاء التنوخيين ظلوا مسيحيين لما فتح العرب المسلمون سورية لكنهم دفعوا الجزية، وقد اسلموا في ما بعد. وفي هذا اشارة الى اعتناق الاسلام الذي تم بعد المقابلة المشهورة مع المهدي، ولعلهم كانوا من الحاضِرَين: قنّسرين وحلب.

      ويتضح من رواية البلاذري هوية العرب المسلمين المخاصمين للتنوخيين الذين يصفهم ميخائيل بأنهم قيسيّون، كانوا ينتسبون الى قبيلة بني هلال، اخوال بني هاشمي في حلب، وهم الذين استنجدوا بهم ضد التنوخيين.

      ان الصلة بين العرب المسيحيين المقيمين في حلب والذين في قنسرين، والتي تعود الى الازمنة السابقة للاسلام يوضحها واقع انتقال تنوخيي حلب الى قنسرين، بعد ان اخرجهم بنو هلال، حيث استقبلوا على الرحب والسعة.

      يختم البلاذري روايته بان هؤلاء التنوخيين هاجروا، في نهاية الامر، الى تكريت في ارض الرافدين )حيث رأى هو شخصيا بعضهم هناك( والى ارمينيا والى بلاد اخرى متعددة، وكل هذا يوحي بانهم حافظوا على هويتهم كعرب مسيحيين، كما يرجح.

      لا يحدد اليعقوبي موقع المقابلة بالتحديد قرب حلب او قنسرين، بل انها حدثت في جند قنسرين، الولاية العسكرية الواسعة الواقعة في شمال سورية، والتي كانت تضم كِلاَ الحاضِرَيْن حلب وقنسرين. هذا التعبير، »جند قنسرين«، الذي يستعمله اليعقوبي يوحي بان المجموعة التنوخية، التي خرجت لاستقبال المهدي، كانت قسما من جند قنسرين وان موكبهم كانت له ملابسات سياسية وعسكرية مرتبطة بموقعهم كسوريين ومقاتلين امويين سابقين وفي النظام العباسي الجديد.

      ان اليعقوبي هو المؤرخ الوحيد الذي يزوّدنا بالتفاصيل المهمة التي سبقت اعتناق تنوخ للاسلام بعد مقابلتهم للمهدي. ذلك انهم بعد ان قدموا الهدايا التي حملوها قالوا له، »نحن اخوالك يا امير المؤمنين« آملين، بذلك، ان يقربوه منهم وان يكسبوا عطفه. ومعنى انهم كانوا اخواله يمكن ان يجاب عنه بواحدة من طريقتين: اما عن طريق رَيْطَة، وهي امرأة من »الحارث بن كعب«، القبيلة المشهورة من مسيحيي نجران، والتي كان قد تزوجها محمد والد السفاح الخليفة العباسي الاول؛ واما من خلال امه أروى، زوج المنصور الخليفة العباسي الثاني واخت يزيد بن منصور الحميري. ومن هنا تزوج اثنان من العباسيين امرأتين اصلهما من جنوب بلاد العرب اسس قرابة بالتنوخيين، وهم اصلا من تحالف قبائل كان العرب الجنوبيون الازديون عنصرا فيه؛ ومن ثم فان التنوخيين كان لهم ان يتقربوا من المهدي على هذا الاساس. ومن حيث ان المهدي كان قد عاد لتوه من زيارته للقدس، فلعل الامر كان عاملا في الوضع الذي نشأ. ان القدس كانت بالنسبة للتنوخيين، وهم عرب مسيحيون متحمسون، مدينة الصلب، ولعلهم قد اعجبوا بزيارة للمدينة المقدسة يقوم بها خليفة عباسي من بغداد القاصية ورأوا فيها اشارة الى موقف فيه عطف من الخليفة العباسي الجديد نحو سورية وعربها المسيحيين.

      لكنه لما استفسر عنهم واخبر بأنهم جميعهم مسيحييون وانهم كانوا ناجحين وكبيري العدد، رفض الاعتراف بحقيقة نسب الخؤولة، وكانت النتيجة اعتناقهم الاسلام. ان هذا الحدث حري بالاهتمام؛ انه يثير سؤالا مهما، وهو، لماذا اجبر الخليفة العباسي، وهو الخاضع لأحكام الشريعة، التنوخيين على التخلي عن دينهم، ولم يسمح لهم ان يظلوا ذميين، اي غير مسلمين وهم الذين تُضمن لهم حريتهم الدينية في مقابل دفع الجزية.

      من المؤكد ان المهدي قد اربكه الاستقبال المثير الذي قابله به التنوخيون. فقد خرج منهم خمسة الاف، ممتطين خيولهم، مرتدين الثياب الجميلة )كأنهم في عيد( ولعلهم بدوا كأنهم جيش عربي صغير من مسيحيين يرحبون بحاكم، هو الذي كان يلقب، »امير المؤمنين«. وهو الخليفة الثالث من العباسيين الذين احدثوا تغييرا اساسيا في التاريخ العربي والاسلامي باعزاز المبادئ الاسلامية فيه، بعد قرن من التاريخ الاموي كانت فيه السلطة تتمركز في سورية التي تغلب المسيحية عليها، وكان يحكمها خلفاء كانوا يرعون العرب المسيحيين بكثير من العناية. ان رد فعل المهدي للاستقبال الاحتفالي الذي اعده التنوخيون له، يجب ان يفسر في ضوء هذه القضية.

      ورواية هشام ذ عن الشهيد التنوخي والظروف التي احاطت بوفاته، هي الأوفى بالمعلومات. ويستخرج منها انه لما خرج التنوخيون لاستقبال المهدي كانوا يمتطون جيادهم ويعتمرون العمائم. ولعل هذا هو ما كان يدور في خلد المؤلفين السريان عندما يتحدثون عن التنوخيين انهم كانوا يعتمرون العمائم التي كان اعتمارها بطبيعة الحال، امرا بارزا ويبدي شيئا من الكبرياء والثقة بالنفس، وكان هذا احد الاسباب التي اثارت المهدي ولعلها اربكته.

      بعد ان قيل له انهم التنوخيون وانهم مسيحيون دعاهم الى اعتناق الاسلام لكنهم رفضوا ذلك. وعندها قطع رأس زعيمهم، فقبل الباقون الاسلام، وهدم المهدي كنائسهم، »ولم يبق في تنوخ مسيحي واحد«. ان الكنائس التي هدمها المهدي موصوفة هنا بوضوح على انها تنوخية وهذا يؤيد الرأي حول وجود مؤسساتهم الدينية في شمال سورية في الفترة الاسلامية. لكن القول باختفاء المسيحية تماما بين التنوخيين هو، مبالغة. ولعل ذلك ينطبق على الجماعة التي لقيت المهدي فحسب.

      اما الشهيد فقد ورد اسمه في رواية هشام بنسبته الابوية، ابن مَحَطّة؛ ولما كانت المصادر السريانية تزودنا باسمه الاول ليث، يكون اسمه الكامل ليث بن مَحَطَّة. فضلا عن ذلك فانه يبدو انه كان زعيم التنوخيين وليس مجرد فرد من الجماعة. هذا يفسر لماذا اختير لمثل هذا المصير، لان قتل »السيد«، اي الزعيم، يضعف معنويات بقية الجماعة.

      ويظهر ان ليث بن مَحَطَّة هو آخر سيد لتنوخ المسيحية في الفترة الاسلامية. اذا كان على رأس خمسة الاف رجل، وكان اكثرهم او جميعهم، على الراجح، فرسانا، فانه والتنوخيين كانوا ولا بد قوة عسكرية مهمة في جند قنسرين في الازمنة العباسية المبكرة. ان مصيره يذكّر بمصير اسلافه الذين نافحوا عن الارثوذكسية وعن بيزنطة في الازمنة السابقة للاسلام، ومصير شهداء عرب مسيحيين آخرين في الفترة الاموية مثل الزعيمين التغلبيين مُعاض وسَمَلاّ اللذين رفضا التخلي عن المسيحية.

الامتداد الجغرافي لبني تنوخ

اتضح سابقا ان المنطقة الجغرافية لاستقرار التنوخيين كانت سورية الشمالية على الجهة الغربية من نهر الفرات، وان خلكيدكية كانت هناك، وهي التي عرفت اقوى ارتباط تنوخيّ. وفي القرن الرابع عرفت هذه المنطقة بالذات وخاصة صحراء خلقيس )قِنَّسرين( تحولا الى منطقة زهّاد ونسّاك، ومن ثم فقد اصبحت مركزا كبيرا للرهبنة لم يقلّ اهمية عن مركزين آخرين كانا في الجنوب ذ في فلسطين وسيناء. ان قيام الرهبنة وانتشارها الى سورية الشمالية، الى صحراء خلقيس، كان قضية لها بعض الاهمية للتنوخيّين كمعاهدين ومسيحيين عرب على السواء. فقد نتج عن ذلك تعايش سعيد بين عرب الصحراء والنوع الجديد من الرجال المسيحيين الصالحين ذ زهّاد الصحراء ونسّاكها. ان التنوخيين، الوثيقي الصلة بالصحراء من حيث انهم عرب، كانوا مثل اكثر العرب المسيحيين، ينجذبون بقوة نحو هذا الصنف من المسيحيين اي رجال الصحراء الصالحين. ومن ثم فقد اكتسبت صحراء خلكيدكية بالنسبة للتنوخيين المتحمسين، اهمية جديدة كمنطقة مسيحية تزينها اديرة ورجال صالحون، وقد اضاف هذا بعدا جديدا الى واجباتهم والتزاماتهم العسكرية اي الدفاع عن المنطقة.

ومن ثم فان المنشآت والمؤسسات الكنسية التنوخية يجب ان يبحث عنها في هذه المنطقة من شمال سورية، في خلكيديكية، المنطقة المحيطة بزَبَد وتلك التي تحيط بمعرة النعمان. ان المنشأة الدينية الوحيدة التي توصف على وجه التحقيق انها تنوخيّة هي دير حنّا في الحيرة؛ والاشارة الوحيدة الى منشآت دينية تنوخيّة هي التي توجد في »الجمهرة« حيث يتحدث هشام عن هدم المهدي »لكنائس تنوخ« في القرن الثامن، وهي ذات قيمة ايضا لانها تربط، على وجه التحقيق، بين كنائس تنوخ ومنطقة خلكيدية.

وعلى كل فان المصادر تحوي اشارات اخرى الى منشآت دينية عربية تعود الى ما قبل الاسلام، وهي حريّة  بالبحث اذ قد يكون اصلها تنوخيّا.

المنشآت التالية القائمة في منطقة معرة النعمان يمكن ان تكون تنوخية: كنيسة العرب في المعرّة نفسها؛ ودير النَّقِيرة على مقربة من المعرّة، الذي يمكن ان يكون هو ذاته الدير المشار اليه سابقا في »إنباء الرواة«، حيث ترك دون تعريف )مجهولا(، الا ان الاثنين قد يكونان ايضا ديرين مختلفين.

في منطقة خُناصِرة توجد اشارة الى دير خُناصِرَة؛ ومن حيث ان النـزعة العربية قوية في هذه المدينة، فقد يكون الدير تنوخيا. مقبرة الشهداء او الكنيسة المكرّسة للقديس توما )توماس( المشار اليها في نقش ماوِيَة اليوناني، الذي قد يشير لماوِيَة الملكة او احدى قريباتها.

ثمة اشارة تعود الى زمن الفتح الاسلامي الى »دير طايايِ« اي »دير العرب«. ولعله كان الى الشمال من خُناصِرَة، وهي المنطقة المرتبطة بالتنوخيين.

اللخميون والتنوخيون في الحِيْرَة

ان هؤلاء المعاهدين، سواء اكانوا لخميين ام تنوخيين، كانوا قد جاؤوا من المنطقة الواقعة على الفرات على مقربة من الحيرة حيث كانت قد قامت جماعة ادبية عربية متطورة. وقد نسب بعض الشعر العربي الى الشخصيتين البارزتين في التاريخ التنوخي واللخمي في القرن الثالث وهما جَضيمة وعمر بن عَدِي على التوالي، وقد ارتبط كلاهما بالحركات الدينية في العراق في ذلك القرن. وهؤلاء المعاهدون، الذين يرتبط بهم اول نقش عربي مشهود له واول اشارة الى ذكر لشعر عربي في الشرق، من المحتمل انهم كانوا قد نقلوا هذا التقليد نفسه للغة العربية المكتوبة والادبية الى الشرق من العراق. ويبدو من الطبيعي ان يفترض ان هؤلاء المعاهدين، كانوا ايضا قد تعبدوا باللغة الوطنية ذاتها التي كانوا قد استعملوها في العراق قبل ان ينتقلوا الى الرومان.

الشعر العربي في القرن الرابع الميلادي

ان المؤرخ الكنسي سوزمِن الذي كانت روايته عن الشرقيين )السراسين( واحدة من اهم الوثائق لاعادة تركيب مساق العلاقات العربية ذ البيزنطية في القرن الرابع، خاصة في حكم فالِنْس، يمكن الافادة منه في قضية اخرى وقد يكون رأيه فيها حاسما، وهي قضية نظم الشعر العربي في وقت مبكر، اي القرن الرابع الميلادي. ان اصالة الشعر العربي قبل الاسلام امر اساسي لتأليف واضح لتاريخ العرب في تلك الازمنة وتوضيح العلاقة العربية ذ البيزنطية، لكن هذه القضية اخفتها غيوم جاءت من بحوث سطحية بدءاً من سنة 1925. اذ يمكن القول ان نظرة د.س. مرغوليوث وطه حسين في ما يتعلق بأصالة الشعر العربي قبل الاسلام اذ اعتبراه تزويرا لاحقا قد صرف النظر عنه الى غير رجعة، ومن ثم فان دارس الشعر قبل الاسلام يتوجب عليه ان يعنى بقضايا مهمة، واحدها هي بدايات الشعر العربي. ان تاريخ سوزومِن الكنسي ونقش النمارة يمكن ان يقدما اسهاما جوهريا.

الشعر العربي في المراجع المسيحية

اذا كانت بدايات الشعر العربي قبل الاسلام لا يمكن التثبت منها بدقة، فانه مما يمكن التسليم به بيُسْرٍ هو ان الشعر العربي يرجع الى القرن الرابع الميلادي. ان صحة هذه المقولة يمكن الدفاع عنها استنتاجا، والبرهنة عليها ان قصائد متطورة كقصائد عمرو بن قَميئة البكري، وهو شاعر مبكر في هذه الازمنة، والذي يمكن تعيين تاريخ ميلاده حوالي 480م، تشير بوضوح الى انها تقليد لما سبقها من شعر منظوم بقرن واحد على الاقل، اي انها تعود الى قرننا الرابع. واهم من ذلك ما ورد في »التاريخ الكنسي« لسوزومِن، الذي عاش جزءا من حياته في القرن الرابع وجزءا منها في القرن الخامس، والذي يقرر بوضوح ان العرب احتفوا بانتصارات ملكتهم ماوِيَة، على الامبراطور الروماني فالِنْس حوالي 380، بأغان حربية كانت ما زالت منتشرة في اواسط القرن الخامس.

      رواية سوزومِن هي اقدم اشارة في اي من لغات الوقت الى نظم الشعر العربي. ومع ذلك فانها لم تُفْحَص او تُحلَّل بدقة، مع انها تستحق تحليلا مفصلا لما يمكن ان تلقيه من الضوء المهم على وضعية الشعر العربي في النصف الثاني من القرن الرابع. ان النتائج الوثيقة الصلة بالموضوع التي يمكن ان نحصل عليها من تحليل مفصل لسوزومن وسواه من مؤرخي تلك الفترة يمكن ان تعرض على النحو التالي:

ان ماوِيَة شنّت هجوما ضد الرومان في اكثر الولايات الحدودية في الشرق. ان المعركة الرئيسية التي توصف بتفصيل عند سوزومن كانت في فينيقيا اللبنانية؛ والقائد البيزنطي الذي قهرته ماوية والذي كانت رتبته »قائد الفرسان والمشاة في الشرق« هو جوليوس.

كانت هذه المعركة تعد من »ايام العرب« ومن ثم فانه من الواضح عمليا ان الشعر الذي وضع للاحتفاء بهذه الانتصارات كان من هذا النسغ، والذي يثبت قطعا رأي الناقد ابن سلاّم )تو حوالي 847م( القائل بقيام الصلة الوثيقة بين الحروب وظهور الشعر العربي.

ان المؤرخ الكنسي اليوناني لا يتحدث عن قصيدة واحدة فقط بل عن قصائد، وهذا يوحي ان المقصود هو مجموعة قصائد عن هذه المعارك وضعها شعراء متعددون على نحو يشبه الى حد كبير ما تم يوم ذي قار، الذي وقع القتال فيه في العقد الاول من القرن السابع، اذ احتُفِي به بعدد من القصائد. هذه المجموعة من القصائد حول انتصار الملكة ماوِيَة، اذن تسبق بقرن نتفَ مجموعةٍ شبيهة بذلك، وهي التي نظمت في حرب البسوس، ومن ثم فهي اقدم مجموعة من القصائد العربية من نسغ شعر »الايام« التي يمكن تأريخها.

يروي سوزومِن ان عمل ماوِيَة البطولي ظل حيا في ذاكرة اهل البلاد، حيث جرت المعركة واحتفي بها بقصائد وضعها الشرقيون )السراسين(. وقد وضع المؤرخ الكنسي روايته بعد حوالي ثلاثة ارباع القرن من اعمال ماوِيَة البطولية. ويبدو ان هذا تاريخ متأخر لنقل القصائد التي نظمت يومها ومرويات الاحداث التي وقعت، الامر الذي يؤكد ان شعر قبل الاسلام كان ينظم عبر فترات طويلة من الزمن.

ان نقل »الخبر«، اي رواية »اليوم« والقصائد يثير قضية هذا النقل في ما اذا كان شفويا ام مكتوبا. ان البحث الاصيل حول قضية النقل في ازمنة ما قبل الاسلام، الذي جرى في السنوات الاخيرة، يميل بالباحثين الى القول بالنقل المكتوب او على الاقل الى وجوده في الازمنة السابقة للإسلام. ان حلفاء بيزنطة العرب في القرن الرابع، الذين كانت ماوية ملكتهم، لم يكونوا اميين، اذ ان نقش النمارة، الذي يعود الى فترة اسبق في القرن الرابع، يشير بوضوح الى استعمال الكتابة لتدوين الاعمال البطولية التي قام بها الملك المعاهد العربي امرؤ القيس. وثمة نقوش يونانية، تعود الى وقت متأخر من القرن الرابع، تَمُتّ الى ماوية او احدى قريباتها. من المحتمل ان هذه القصائد التي كانت احتفاء بانتصار كان عزيزا على قلوب العرب، كانت ايضا قد دُوِّنت. فضلا عن ذلك اذا كانت جماعة من غير الشرقيين )السراسين( قد تذكرت في اواسط القرن الخامس احداث بطولات ماوية وتفاصيلها، فالمحتمل ان الشرقيين )السراسين( تذكروها ايضا بل واكثر من ذلك انهم دونوا تلك التفاصيل على شكل »اخبار«، وهو النسغ العربي المعروف تماما الذي كان يتألف من روايات نثرية دونت فيها الايام وسواها من الاحداث. ومن ثم فان رواية سوزومِن هي شهادة لاقدم اشارة موجودة الى نظم الشعر قبل الاسلام والى نقله ايضا. ومن ثمّ فانه من سوء الحظ انه لم يُعثر لا على القصائد ولا على النص العربي للاخبار.

من كان هؤلاء الشعراء وماذا كان نسبهم القبلي؟   ان السؤال يُطرح في اطار الرأي القائل بان الشعر العربي يُفْترض انه بدأ في سورية، بلاد الشام، لكن في وقت متأخر، حتى في ايام الامويين اذ ظهر إبّان حكمهم شاعر واحد نابه فقط، هو عدي بن الرِّقاع. على كل عندما نتذكر ان تنوخ ولخم لم تكونا قبيلتين وطنيتين سوريتين بل قبيلتين مهاجرتين من ارض الرافدين، فان القضية تجد جوابها. ان القبيلتين العربيتين المهاجرتين حملتا معهما تقليد الشعر العربي على نحو ما نقلتا معهما الكتابة بالعربية التي تبدو جليا في نقش النمارة.

انه مما يُلْفت التأكيد على نظم الشعر العربي في الفترة السابقة للاسلام، ان الذي دوّن هذا الخبر يلجأ الى كلمة القصائد بدل الاشعار؛ ومن ثم فانه يؤكد الرأي القائل بان قراءة الشعر العربي المبكر كانت »انشادا«.

مع ان هذا الشعر، الذي نظم للملكة ماوية ورجالها من العرب، تنوخيين كانوا ام لخميين، لم يصلنا، فان تصوّره ممكن قياسا على شعر »الايام« كالذي نظم لحرب البسوس، الا ان هذه كانت حربا بين العرب؛ فيوم ذي قار قد يكون افضل [للقياس] اذ انه دخلت فيه دولة اجنبية، فارس؛ والانسب [للقياس] حتى الشعر الذي نظم في القرن السابع في معارك مثل اليرموك وإجنادَين، اذ انه ارتبط ببيزنطة.

اهمية الشعر العربي في تاريخ سوزمِن الكنسي

مع ان رواية المؤرخ الكنسي اليوناني مقتضبة، فقد اثبتت انها ذات قيمة في توصلنا الى النتائج السابقة حول حقيقة نظم الشعر العربي في النصف الثاني من القرن الرابع، ومن ثم فانها تشهد باستخدام الوزن في نظم الشعر العربي. ان خسارة هذه القصائد امر يؤسف له، اذ لو انها حفظت، فانها كانت تسعف الباحث في شعر ما قبل الاسلام في تفحص القضية الثانية الكبرى، التي يتعين عليه حلها، بعد الوزن، اي لغة هذه الاشعار ذ الى اية درجة كانت متطورة ومدى قُربِها من لغة القصائد التي وصلتنا من القرن الخامس او بُعدِها عنها، مثل قصائد عمرو بن قَمِيَّة. ان لغة هذه القصائد ناضجة ومتطورة وتوحي بان لغة القرن الرابع لا بد انها كانت قريبة منها جدا، كما ان استعمال الاوزان المتطورة في القرن الرابع يستنبط من استعمالها في قصائد القرن الخامس. هذا الاستنتاج عن الوزن قد اثبتته البيّنة المؤكدة عند سوزومن؛ والآن يجب ان ننصرف الى وثيقة اخرى هي التي تؤكد درجة التطور التي بلغتها »اللغة« العربية في القرن الرابع والتي استعملت في تلك القصائد التي نظمت من اجل الملكة ماوية. والوثيقة هي نقش النمارة. وهذا امر مهم اذ ان لغة شعر ما قبل الاسلام كانت احدى المسائل المهمة في بحث قضية الاصالة، ونقش النمارة حري باهتمام اكبر لانه الوثيقة الاكبر اهمية لبحث هذه القضية.

ان النقش شهادة قاطعة على وضع اللغة العربية في القرن الرابع، وهي ما يمكن الباحث من السير في فحص قصائد ثابتة تُعزى الى هذه الفترة المبكرة والتي رفضها المشككون باصالتها. بدونها نكون نتعامل مع اشارات عما كانت عليه العربية في القرن الرابع. اما وهي بين ايدينا فان الدليل لا يقبل الجدل، وهي موضع ترحيب مثل قول سوزومن عن الوزن. ان الوثيقتين تتمم واحدتهما الاخرى اذ ان الواحدة دون الاخرى لن تيسر لنا فحص نماذج ثابتة للشعر العربي المبكر من وجهتي النظر المهمتين للغة والوزن.

      ان الفحص الدقيق للغة نقش النمارة يظهر انها ليست سوى اللغة العربية الادبية )الكلاسيكية(، الامر الذي لا يمكن ان ينكره من يقرأ النقش. ان ما قد يبدو غريبا او غير مقروء او غير عربي في النقش يبدو انه قد حصل بسبب استعمال الخط الارامي ذ النبطي، الامر الذي قد يكون حجب بعض الكلمات، وهو موضع يزيد في سوئه طول النقش المحفور على حجر قبل نحو ستة عشر قرنا؛ او ان لغته العربية كتبت تحت تأثير الأرامية، لغة النقوش السامية في سورية، وهي التي استعملها العرب ايضا مثل الانباط والتدمريين؛ وتبدو هذه في مثل صورة استعمال كلمة »بر« ل »ابن«؛ وهناك بعض الكلمات التي هي، على الارجح تعبيرات فنية قديمة التي لا تفهم معانيها بسبب الزمن الطويل، كما هو الحال بالنسبة لبعض كلمات في شعر ما قبل الاسلام.

      وعندما يتذكر الواحد هذا كله يضطر الى الاستنتاج بان لغة نقش النمارة العربية هي ادبية )كلاسيكية( لا لبس فيها وانها مماثلة للغة العربية الواردة في شعر ما قبل الاسلام.

      فضلا عن اللغة فان النقش جدير بالملاحظة لحقيقتين وثيقتي الصلة بالموضوع: تاريخه المبكر في القرن الرابع بعيد نهاية الربع الاول منه؛ وان الشخص المكرم في هذا النقش هو امرؤ القيس، اصله لخمي من ارض الرافدين واللخميون هم الذين حملوا معهم الى النصف الغربي من الهلال الخصيب استعمال اللغة العربية الادبية )الكلاسيكية( ونظم الشعر العربي على نحو ما كان قد تطور في ارض الرافدين.

ان الحقيقة الاولى تمكننا من الحكم على نتف شعرية منسوبة لا الى القرن الرابع فقط بل حتى للقرن الثالث ايضا، اذ ان امرأ القيس لا بد انه قضى على الاقل ربع قرن من حياته في القرن الثالث؛ والحقيقة الثانية تجعل من الممكن الحكم على هذه النتف من الشعر العربي الاكثر تبكيرا، التي كان بعضها قد نظم في النصف الشرقي من الهلال الخصيب، مثل الشعر المعزو الى اللخميين والتنوخيين من سكان ارض الرافدين، الذين كان امرؤ القيس نفسه ينتسب اليهم. ومن ثم فان نقش النمارة يزوّدنا بالاطار الفيلولوجي والزمني والمكاني الذي يمكن من خلاله لبعض هذه النتف ذ وهي بين الاقدم عهدا في مجموعة شعر ما قبل الاسلام ذ ان تدرس بشكل مفيد. الا ان دراسة نتف القرن الثالث هذه ما كان ليتم ابدا لولا الفقرة الجازمة الواردة في سوزومن والتي تشير الى نظم الشعر العربي في القرن الرابع. ومن ثم فان ضم هاتين الوثيقتين، الوثيقة الادبية الواردة من عالم التأريخ البيزنطي والوثيقة النقشية من النمارة في الولاية العربية هو الذي جعل البحث ممكنا.

      ان شعر ما قبل الاسلام هو شيء لا يثمّن كشهادة معاصرة لهذه الفترة المبكرة والتي تمتد قرونا ثلاثة قبل ظهور الاسلام. الا ان البحث عن شعر ما قبل الاسلام مهم على شكل خاص لمعاهدي القرن الرابع، الذي هو مهمة هذا الكتاب الرئيسية. ففضلا عن القائها الضوء الساطع على حياتهم الثقافية، التي كان الشعر احد عناصرها، فان هذا البحث يزوّدنا بخلفية مهمة لقضية وجود طقس كنسي )ليتورجية( عربي في هذا القرن، وهي قضية يُؤسس لها الى حد بعيد بالتحقق من ان المعاهدين هؤلاء لم يكونوا جنودا غليظين اميين بل مجموعة عربية مسيحية كان لها شعراؤها الذين نظموا قصائد عربية لمناسبة انتصاراتهم الارثوذكسية على فالنس الاريوسي، ومن ثم فانه من المحتمل ان يكونوا قد جربوا التعبير عن عواطفهم الدينية عبر استعمال اللغة نفسها التي نظمت بها قصائد النصر. وقد تحظى هذه القضية بما يزيدها قوة اذا امكن التثبت من ان ديوانا )شعريا( قد وُجد عند تنوخ في الازمنة السابقة للاسلام.

ديوان تنوخ

ان ضياع القصائد التي احتفت بانتصارات ماوِيَة امر يؤسف له، على ما ذُكر قبلا. وعلى كل فان اشارة سوزومِن الى هذه القصائد المفقودة )حتى الان( هي امر سار، اذ انها تُيسِّر لدارس الشعر العربي قبل الاسلام بان ينافح عن حقيقة نظم هذا الشعر في القرن الرابع الميلادي، ومن ثم فانها تمكّنه من تتبع قضية صلة تنوخ بالشعر العربي، واحتمال وجود ديوان شعري تنوخي في ازمنة ما قبل الاسلام ومن ثمّ البحث عن مثل هذا الديوان في الازمنة الاسلامية.

ان لائحة ابن النديم )تو 995 او 998م( وجدول الآمدي )تو 981( لا تشملان »ديوانا« لتنوخ. لكن هذا لا يعني ان تنوخ لم تنتج ديوان شعر خاص بها. لكن هاتين اللائحتين لم تكونا شاملتين لمـّا صنفهما مؤلفاهما او ان النقص الذي نجده الآن جاء نتيجة فَقْد الوضع بالنسبة الى الحقيقة القائلة بانه ثمة اشارة واضحة الى »ديوان تنوخ« او »اشعار تنوخ«، كما تسمى هذه المجموعة في شرح البَطَلْيَوْسي الاندلسي، واشارة اكثر دقة في عمل القِفطي )تو 1248( الى »ديوان« تيم اللات، وهي جزء اساسي من المجموعات القبلية المؤلفة من اتحاد قبائل كانت تنوخ واحدة منها. يتضح من هاتين الاشارتين ان مثل هذا الديوان قد وجد في بغداد في القرن الحادي عشر لما قام  التنوخي ابو العلاء المعري )تو 1058( بزيارته المشهورة لتلك المدينة. ان الشاعر والفيلسوف الاعمى، وهو ابرز تنوخي في العصور الاسلامية، عني بديوان قبيلته، خاصة وانه لم يكن موجودا في وطنه سورية، الممثلة بخزائن الكتب في طرابلس.

      ان هذه الاشارة الى ديوان تنوخ تثير عددا من القضايا المهمة، مثل تاريخ نظمه، وهل كان اسلاميا ام انه يعود الى ما قبل الاسلام ولماذا لم يُضَمَّن لائحتي ابن النديم والآمدي.

ان ديوانا كان معروفا في القرن الحادي عشر، اي بعد ظهور الاسلام باربعة قرون، لا شك انه كان يحوي شعرا للتنوخيين في العصور الاسلامية: انه مما لا يمكن تصوّره انه حوى شعرا للتنوخيين بعد الاسلام فحسب، دون ان يرد فيه شعرهم قبل الاسلام او بعضه على الأقل. ان تنوخ وهي القبيلة ذات الهوية الواضحة التي قامت بدور مهم في تاريخ العرب، هي تنوخ قبل الاسلام وتنوخ القرن الاول من الفترة الاسلامية، والقبيلة استمر دورها كجزء من نظام »الاجناد« الاموي. ومن ثم فانه من الثابت على وجه الدقة ان جزءا لا يستهان به من الديوان لم يكن يعود الى الازمنة الاسلامية المتأخرة فحسب بل الى ما قبل الاسلام والعصر الاموي.

ان اشارة الى »ديوان تنوخ« في القرن الحادي عشر تذكّرنا برسالة وضعها هشام في القرن الثاني هـ/الثامن م عن التنوخيين اسمها »تنوخ وانسابها«، وقد تم ذلك في المنطقة ذاتها، العراق، وقد ارتأى البعض ان هذا الكتاب »اخبار تنوخ وانسابها« هو اصلا عملان ذ الواحد يحوي الشعر والآخر يحوي الشعر والتاريخ. لكن القبائل العربية كانت تضمّ الى ديوان شعرها اخبارها من حيث النسب والتاريخ. وعندها يطلق على الديوان اسم كتاب القبيلة. ولعل الذي وضعه هشام في القرن الثاني هـ/الثامن م كان من هذا الصنف، اي انه كان يحتوي ديوان الاشعار واخبار القبيلة التنوخية. الا ان الشعر اخذ على حدة في ازمنة لاحقة وهو الذي عرف في القرن الخامس هـ/الحادي عشر م »اشعار تنوخ«.

اذا صح هذا فالذي يمكن ان ينتهي القول اليه هو ان المؤلف الذي وضع في القرن الثاني هـ/الثامن م وهو الاصل لا يفصله عن ازمنة ما قبل الاسلام فترة طويلة، كما لو انه وضع في القرن الخامس هـ/الحادي عشر م.

ان استبعاد ديوان تنوخ على يد ابن النديم والامديّ يتطلب تفسيرا. وقد ورد القول من قبل بان ديوان فريق من تنوخ، اي الخاص بتيم اللات، كان يتيسر الحصول عليه في بغداد في القرن الخامس هـ/الحادي عشر م، وقد تكون هذه الاشارة هي السر. ان تنوخ، على ما ذُكر، لم تكن قبيلة مفردة بل كانت مكونة من اتحاد قبائل. ان أزْد )أسْد( جَضيمة ومَلِكَ تنوخ كانا عضوين فيه، وثمة رواية أخرى )وهي المفترض انها تعكس تركيبهم القبلي بعد هجرتهم الى سورية( تروي انضمام فَهْم ونِزار والأحلاف ايضا اليه. وقد تكون تنوخ قد فقدت هويتها كاتحاد، بعد ان فقدت وضعها القيادي وبعد انحسارها السياسي خلال القرنين اللذين تَلَوا القرن الرابع الميلادي، في ما تمكنت العناصر القبائلية المنفردة من تأكيد هويتها او لعلها اكتشفتها من جديد. ويبدو انه بسبب ذلك انصرفت كل من هذه العناصر القبلية الى جمع شعرها الخاص، ولعلّ هذا تم في ازمنة ما قبل الاسلام او في الازمنة الاسلامية المتأخرة. ومما يزيد هذا التفسير قوة الاشارات المتفرقة الى دواوين بعض من هذه العناصر القبلية في الجداول الاسلامية للدواوين القبلية. فثمة )أ( ديوان تَيْم اللات الذي ورد ذكره قبلا؛ )ب( وديوان الأَزْد او الأَسْد؛ )ج( وديوان جَرْم؛ )د( ومن الممكن ايضا ان تكون هناك دواوين لبعض القبائل الاصغر مثل بني أسَد بن وَبَرَة، التي كان بعضها جزءا من تنوخ في الفترة السابقة للاسلام.

ان استبعاد ديوان تنوخ من الجداول يسمح لتفسير آخر وارجح احتمالا، وهو تفسير لا يتصل بوضعها كقبيلة قديمة من ايام قبل الاسلام، بل لانعزالها كجماعة مسيحية في الازمنة الاسلامية. لم يكن العلماء المسلمون، وهو امر طبيعي ومفهوم، مهتمين بشكل خاص بمثل هذا النوع او النموذج من الشعر، وخاصة اذا كان »الديوان« مطابقا »لأخبار تنوخ« لهشام. يجب ان نذكر انه كانت لهشام صلة خاصة بالخليفة المهدي الذي كانت له تلك المقابلة المشهورة مع تنوخ في قِنَّسرين حين ارغمها على اعتناق الاسلام. وبالنسبة الى ديوان تنوخ الذي كان معروفا في القرن الحادي عشر، والذي اشير اليه قبلا، فلعله كان قد استحسنت فيه قصائد لا تحوي لونا مسيحيا قويا على النحو المشابه لذلك في حين ان اشعار النابغة، شاعر الغساسنة، الذين كانوا ايضا مسيحيين متحمسين ومتعصبين، تحوي القليل مما لا بد أنّ الشاعر كان قد نظمه عن مسيحيتهم. ان الجماعة الوحيدة، التي كان من الممكن ان تحتفظ بمثل هذه الاشعار، هي تنوخ بالذات، اذ انها ظلت مسيحية الى حكم المهدي.

ان ديوان تنوخ لقي القَدَر نفسه الذي لقيته كل الدواوين الاخرى التي ضمتها لائحتا ابن النديم والآمدي )باستثناء ديوان واحد هو ديوان هُذَيْل(. اذ ان جميعها فقدت، بسقوط بغداد على ايدي المغول )658هـ/1256م(. وقدر ما كانت هذه الخسارة جدية بالنسبة الى اعادة تركيب الكثير من تاريخ التنوخيين في ايام ما قبل الاسلام، فانه مجرد وجود ديوان كهذا هو امر ذو معنى وهو نقطة انطلاق لفحص بعض القضايا المهمة للتاريخ التنوخي في الازمنة السابقة للاسلام.

تاريخ بني تنوخ في القصائد الشعرية

اظهر النقاش السابق ان »القصائد« التي احتفي فيها بانتصارات ماوِيَة كانت من نسغ »الايام«، ولعلها شكلت حلقة من القصائد؛ وقد نقلت عبر مدة طويلة نسبيا؛ ومن المحتمل ان النقل كان كتابة كما كان شفويا. ان تدقيقا اعمق لهذه المعلومات من الممكن ان يثير المسائل والملاحظات التالية:

هل كانت هذه القصائد التي تغنّي البطولة، والتي تعود الى القرن الرابع، تكوّن جزءا من المجموعة المفترض انها كانت تحوي شعر تنوخ قبل الاسلام والتي، بدورها، شكّلت، او لعلها شكّلت، جزءا من ديوان اكبر في الازمنة الاسلامية؟ من المحتمل انها جاءت على نحو ذلك؛ اذ ان هذه القصائد احتفت بأعظم عمل بطولي لهم، وانها كانت، ولا بد ان يضمها الديوان على انها الجزء الاهم فيه، خاصة وان التنوخيين، من حيث واقعهم، لم يلبثوا ان سقطوا من عليائهم السياسية حول نهاية القرن الرابع، وتقدمت عليهم مجموعة عربية اخرى، هي الصالحيون، ولذلك فان »ايام« القرن الخامس كانت من المحتمل ان ترتبط بالمجموعة السائدة الجديدة. ومن ثم فان هذه القصائد الماوية كان من الممكن ان تُضمّ هنا من حيث أنها احياء لذكرى ماض تنوخيّ مجيد، انتهى بظهور قوة الصالحين.

ان النبرات الدينية التي اوحت بهذه القصائد حَرِيّة بالانتباه الدقيق. فكما ذكرنا من قبل كان التنوخيون مسيحيين ارثوذكسيين مخلصين، وقد بلغ الامر بهم ان قاتلوا الامبراطور نفسه، فالِنْس، في سبيل الارثوذكسية؛ وبعد الاتفاق مع فالنس حاربوا القوط الاريوسيين بالروح ذاتها كجنود ارثوذكسيين يقاتلون اصحاب بدعة. انه من الصعوبة بمكان ان نظن ان اصداء احوالهم الدينية والعقائدية لن يتاح لها ان تسجل في حلقة القصائد التي نظموها لانتصاراتهم على فالنس وعلى القوط. اذ انه بالنسبة لهم كانت هذه حربا مقدسة وحربا دينية شنّوها في سبيل الارثوذكسية. ان المؤرخ اليوناني سوزومِن يتحدث عن »قصائدهم« المحتفية بانتصاراتهم على الجيوش الامبراطورية؛ ومع انه لا يوضح لنا محتويات هذه القصائد فانه من المؤكد ان هذه »القصائد« كانت قد تضمنت تلميحات الى افكار دينية وعقائدية اذ ان الحرب كانت قد شُنَّت في سبيل الارثوذكسية. مثل هذه الاصداء لا تزال تسمع في عدد قليل من ابيات شعر نظمت لجماعة مسيحية اخرى، هم الغساسنة لا زالت يمكن الحصول عليها، ويترتب على ذلك ان خسارة هذا الشعر مدعاة للاسف بنوع خاص. فانه، ولا بد، كان يوثق الظهور المبكر للتعابير المسيحية العربية في »الشرق«، عدا عن ذلك فانها كانت تعزز الرأي القائل بأن هؤلاء العرب الفصحاء، الذين عبّروا عن نفوسهم بشعر عربي في ما يتعلق بحروبهم في سبيل الارثوذكسية، لا بد انهم تعبّدوا ايضا عبر الواسطة نفسها اي العربية.

ان شعر الثورة الماوية، او »حرب الشرقيين )السراسين(«، كما يسميها سقراط، في سبيل الارثوذكسية مجهول الناظم، الا انه من الممكن ان تعدد بعض الشعراء الذين كانوا تنوخيين وهم الذين عاشوا قبل شعراء ثورة ماوية. وباستثناء الاثنين الاولين، اللذين ينتميان الى تنوخ الشرقية في العراق، فانهم قد ينتمون لاي من تنوخ الشرقية او الغربية. او ان بعضهم كان ينتمي الى تنوخ الغربية في »الشرق« على نحو ما كان عليه الشعراء المجهولون للثورة الماوية، وقد كانوا ينتمون الى تنوخ )السورية( الغربية.

جَضيمَة، ملك تنوخ المشهور في النصف الثاني من القرن الثالث، هو التنوخي الأقدم الذي تنسب اليه بعض نتف شعرية. ان الآمدي يعده بين الشعراء على نحو ما يفعل المرزُباني. ومما هو حري بالاهتمام قول الآمدي ان »قصائد جَضيمة قد توجد في كتاب الأسْد«. ولعل مثل هذه الرواية توضح السبيل الذي اوصل شعر التنوخيين الى »دواوين« القبائل المختلفة التي كانت تنوخ تتألف منها، وقد كانت الأسْد احداها.

عمرو بن عبد الجِنّ، وهو معاصر لعمرو بن عَدِي، والد امرئ القيس الوارد اسمه في نقش النمارة. عده المرزُباني شاعرا ايضا. ان بيتي الشعر اللذين سلما من شعره لهما اهمية خاصة بالنظر الى الاشارات التي يحتويانها »للرهبان« و»هيكل« و»عيسى بن مريم«. ان تاريخيته تتأكد ايضا، من اشارة اليه في نتفة شعرية لواحد من سلالته المسمى أَسَد، وهو شاعر تنوخي آخر.

أسَد بن ناعِسَة: يورد الامدي في »المُؤْتَلِف« بعض المعلومات المتعلقة به: )1( انه من نسل عمرو بن عبد الجنّ، الذي يشير اليه في واحد من اشعاره التي يوردها المؤلف؛ )2( وانه شاعر من ايام قبل الاسلام؛ )3( وان شعره كان في غاية الصعوبة وهي ملاحظة تتفق الى ظهوره الشعري في زمن مبكر جدا قبل الاسلام؛ )4( وانه هو الذي قتل البطل المشهور عنترة؛ )5( وان شعره قد ضم الى مجموعة »اشعار تنوخ«؛ )6( واخيرا، على ما ينهي الآمدي روايته عن أسَد، انه وقومه كانوا مسيحيين.

المثلّم بن عمرو التنوخي: وقد سلم من شعره خمسة ابيات فقط، وهي التي يذكر فيها، فضلا عن اشياء أُخَر، »الله« ويزهو بقبيلته تنوخ.

الحارث بن نَمير التنوخي: وقد سلم من شعره، شأنه شأن الشاعر السابق المثلّم، خمسة ابيات.

تنوخ بعد تنوخ

ان سقوط التنوخيين حوالي نهاية القرن الرابع كجماعة من معاهدي بيزنطة من اصحاب النفوذ، لم يعن تلاشي التنوخيين او اختفاءَهم من المسرح المعاهدي العربي في »الشرق« كحلفاء لبيزنطة. فقد استمر وجودهم لما اصبح الصالحيون المجموعة المعاهدة العربية المهيمنة في القرن الخامس، وكلا الفريقين التنوخيين والسليحيين استمر وجودهما لمّا سقط السليحيون وقام الغساسنة بالدور نفسه في القرن السادس. ومن ثم فقد كان التنوخيون اقدم مجموعة من مجموعات المعاهدين في خدمة بيزنطة خلال القرون الثلاثة السابقة لظهور الاسلام، واستمرارهم، بعد سقوطهم كالقوة المهيمنة، زاد في تعقيد اوضاع الوجود المعاهدي في »الشرق«، وهذا عامل يلقي الكثير من الضوء على بعض القضايا المتنازع فيها بالنسبة للتاريخ الغساني والعلاقات العربية ذ البيزنطية في القرن السادس مثل »ملكيّة« الملك الغساني الحارث في عام 529م ومساق معركة كلّينيكوم في عام 531م.

      مع ان هذا الكتاب معني بالقرن الرابع فقط، فانه حري بالاهتمام ان نذكر باختصار الادوار التالية في تاريخ هذه المجموعة العربية المسيحية الرائعة، في العصر الاسلامي، والتي استمرت خلال تلك الفترة بالقيام بدور مهم في تاريخ المنطقة ومرت بعملية تثاقف اخرى، وهذه المرة في جو »الشرق« المسلم. ويمكن تقسيم تاريخها في الفترة الاسلامية الى ثلاثة ادوار: )1( فترة الفتوح الاسلامية )2( والفترة الاموية؛ )3( والفترة العباسية.

يُبدي التنوخيون حضورا عسكريا ومسيحيا قويا في عقد الفتوح الاسلامية »للشرق« او ما يقاربه في ثلاثينات القرن الاول هـ/السابع م. انهم يبرزون فجأة بين المصادر التي كانت قد نسيتهم، ويقاتلون بشكل ظاهر تقريبا في المصادمات الكبرى في النـزاع البيزنطي ذ الاسلامي في ذلك العقد. فهم يقاتلون في دومة الجندل بقيادة جَبَلَة بن الأيهم الغساني، ويعسكرون جنوبي زيزياء قبل معركة اليرموك ويقاتلون في المعركة ذاتها عام 16هـ/636م بقيادة جَبَلة. ويلقاهم ابو عبيدة في قِنَّسْرين في »حاضرهم« لما قاد جيشه الى الشمال، وفي »حاضر« حلب ايضا، ويقبل الضريبة من اولئك الذين لم يعتنقوا الاسلام وظلوا مسيحيين. وفي عام 639م ينضمون الى هرقل لما قام بهجومه المضاد لاسترداد سورية، ويقومون بدور مهم في تلك الحملة. وتنتهي الفترة البيزنطية في تاريخ تنوخ لما فشلت هذه الحملة.

بالرغم من انهم كانوا مسيحيين، وكان بعضهم مخلصا لمسيحيتهم، فقد حسنت احوالهم ايام الامويين، على نحو ما كانت عليه قبائل عربية مسيحية اخرى، اذ ركز الامويون قوتهم على »الاجناد«، التي كان جزء كبير منها عربا مسيحيين مثل الكلبيين. اذ انهم قاتلوا الى جانب مؤسس الاسرة الاموية في معركة صِفِّين الحاسمة ضد علي عام 37 هـ/657م. وقد قاتلوا مع مروان مؤسس الفرع الاموي الثاني، المروانيين، في معركة مرج راهِط في 65هـ/684م، وبالاشتراك مع الكلبيين اعانوا على بقاء الخلافة للامويين لفترة ثانية. وفي السياسات القبلية في الفترة الاموية انحازوا الى اليَمَنيين ضد القَيْسيين القبائل العربية الشمالية والتي كانت قد قدمت سورية حديثا. وجريا مع هذا التحالف هاجموا، في عامي 744-745م في منطقة قِنَّسرين وخُناصِرَة، مؤخرة الخليفة الاخير، مروان بن محمد )مروان الثاني( الذي كان قد رفع من شأن القيسيين على حساب اليمنيين وهم اهل تنوخ في الولاء السياسي. ان هذا التبدل في السياسة القبلية عند الامويين المتأخرين كان معناه نكبة للتنوخيين وسواهم من المجموعات العربية المسيحية في سورية، الذين انتهى مصيرهم بسقوط هذه الاسرة. ان هذا الامر حدّد نهاية التنوخيين، او بداية هذه النهاية، كجماعة عربية مسيحية في سورية في الفترة الاسلامية.

ان سقوط الامويين وقيام العباسيين، وهو تبدل ثوري في التاريخ الاسلامي، اثر في شؤون سورية تأثيرا عميقا، فقد آل امرها الى أن اصبحت مجرد ولاية، في ما انتقل مركز الثقل في الاسلام مع تبدل السلطة، الى بغداد القصيّة في العراق. ومما هو اهم للعرب المسيحيين كان ظهور الاسلام العباسي على حساب العروبة الاموية، وهذا أثّر، بطبيعة الحال في مصير العرب المسيحيين في سورية الذين غربت شمسهم بسقوط الامويين. ان المصادر تتعرف الى بقايا التنوخيين في سورية في حكم المهدي )158-169هـ/775-785م( وفي الفترة التي تلت وفاة هارون الرشيد 193هـ/809م.

خلاصة

ان المقابلة مع المهدي قد درست بعناية بسبب اهميتها، ولأنها، كما قيل، تمثّل نهاية تنوخ كجماعة عربية مسيحية ذات كيان واضح في المنطقة التي كانت قد اقامت فيها منذ القرن الثالث او الرابع. ان آخر ذكر للتنوخيين في المصادر بعد وفاة هارون الرشيد له اهمية اذ انه يوحي بأنهم، مثل سواهم من السكان المسيحيين الذين لم يقبلوا اعتناق الاسلام ولا تحملوا العيش في جو من الظلم، اختاروا الهجرة الى حيث يمكن ان يعيشوا كجماعة مسيحية اذ انهم انتقلوا الى ارمينيا، واماكن اخرى سواها، حيث كان هناك وجود مسيحي قوي. وعلى عكس اسم سَليح فقد استمر اسم تنوخ معروفا على نحو بَيـّن في سورية بين اولئك التنوخيين الذي اعتنقوا الاسلام وتمثلتهم الجماعة الاسلامية منذ بدء الفترة العباسية المبكرة، ومن المرجح ان دما تنوخيا يجري في عروق بعض المسيحيين في سورية اليوم، خاصة في جزئها الشمالي، حتى ولو ان اسم تنوخ لم يستمر في ما بينهم.