ترسيم الحدود البحرية للبنان

ترسيم الحدود البحرية للبنان بين الحق السيادي والعقبات السياسية

خلافات داخلية وضغوط وشروط دولية تتحكم بالملف

بيروت- غاصب المختار

إتخذ لبنان قراره – ولو متأخراً اكثرمن ثلاثة اشهر- بتعديل المرسوم 6433 المودع لدى الأمم المتحدة، حول إحداثيات الحدود البحرية في المنطقة الجنوبية لحفظ حقّه في مساحة الـ 2290 كلم مربع المتداخلة مع حدود المياه الفلسطينية البحرية، بما يؤمّن له نحو1430 كلم مربعاً من المنطقة الاقتصادية الخالصة المليئة بالغاز والنفط. ولكن بعد الخلاف السياسي والقانوني بين المعنيين اللبنانيين ورفض الوسيط الاميركي والكيان الاسرائيلي اي تعديل على إطار المفاوضات، طُوي ملف هذه القضية خمسة اشهر وتوقفت المفاوضات، وبقي المرسوم في عهدة رئيس الجمهورية ميشال عون بعد ان وصل اليه، إثر توقيع رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب ووزيري الدفاع زينة عكر الاشغال ميشال نجارعليه.إلى ان تدخل الوسيط الاميركي مجدداً حيث جرى استئناف المفاوضات اوائل ايار – مايو الماضي، لكن من دون التوصل الى نتيجة نهائية.

بدا الخلاف اللبناني – اللبناني حول مرسوم تعديل الحدود البحرية شكلياً وتم تغليفه بغلاف دستوري، من حيث ان هذا المرسوم بحاجة لعقد جلسة لمجلس الوزراء ليصدر عنها حسب الاصول ويصبح مُعتَدّاً ومُعتَرفاً به امام المحافل الدولية، لذلك طلب الرئيس ميشال عون عقد جلسة لمجلس الوزراء لإقراره ،لكن رئيس الحكومة حسان دياب رفض باعتبار الحكومة مستقيلة وتُصرّف الاعمال بالحدود الضيقة. وهنا توقف الكلام. وتوقف المرسوم لدى رئاسة الجمهورية.

الخلاف السياسي عبّر عنه كلٌّ من الرئيس سعد الحريري ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية، فيما سحب الرئيس نبيه بري يده من الموضوع بعد ان وضع الاطار العام للمفاوضات وترك التنفيذ للسلطة التنفيذية. فهؤلاء الثلاثة فضّلوا ان تُستأنف المفاوضات من حيث توقفت من دون إضافة تعقيدات المرسوم الجديد والمساحة الجديدة، وكانوا يعلمون ان الجانب الاميركي وهو الوسيط في المفاوضات لن يقبل بمثل هذا الطرح.

وزاد من الخلاف السياسي إقتراح رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل اواخر نيسان – ابريل الماضي، تشكيل وفد لبناني جديد للمفاوضات غير المباشرة بين لبنان وإسرائيل، على أن يكون هذه المرّة وفداً سياسياً برئاسة ممثل لر​ ئيس الجمهورية وعضوية ​ممثلين​ عن رئيس ​الحكومة​ ووزارات الخارجيّة والأشغال والطاقة، إلى جانب ممثّل عن ​الجيش اللبناني​، على أن تكون مهمّة الوفد التفاوض على أساس رسم خريطة جديدة للحدود التي يقترحها لبنان، وهذا يعني بشكل آخر، تغيير طبيعة الوفد من ​عسكري​- تقني  إلى سياسي، ونقل رئاسة الوفد من الجيش إلى ​رئاسة الجمهورية​، أو “التيار الوطني الحر” ضمناً، علماً انه مع بداية المفاوضات سقط قرار الرئيس ميشال عون ان يكون الوفد برئاسة المدير العام لرئاسة الجمهورية وتم الاكتفاء بالوفد العسكري والتقني.

وخرجت اصوات من حلفاء باسيل المفترضين ترى ان  أنّ مبادرته تزيد المشهد تعقيداً، وهي لن تنال موافقة حليفه ​حزب الله​، الذي كان ولا يزال يعارض بشدّة أيّ تفاوض سياسي، وهو يصرّ على بقاء الوفد عسكرياً وتقنياً.

الاميركي والروسي على الخط

دخل على خط القضية وكيل وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الاوسط ديفيد هيل خلال زيارته لبنان في شهر نيسان – ابريل الماضي، حيث طلب استئناف المفاوضات بين لبنان والكيان الاسرائيلي من النقطة التي توقف عندها في تشرين اول – اكتوبر الماضي، ووفق مساحة 860 كلم مربع المفترض انها مساحة لبنان الاضافية التي كان يجري التفاوض حولها.

وعلى هذا حرّك الوسيط الاميركي ديفيد هيل المفاوضات المجمدة، وزار بيروت في مطلع ايار- مايو رئيس الوفد الأميركي الوسيط  الى المفاوضات جون ديروشير على رأس وفد، وتم عقد جولة جديدة من المفاوضات.

وثمة من رأى ان الدخول الاميركي على خط هذه القضية، جاء كنوع من الرد على الاهتمام الروسي بالثروات النفطية والغازية في شرقي البحر المتوسط ضمن حدود سوريا البحرية وبعض الدول الاخرى المجاورة، وهو امر يعني الكثير للروس، لأن خطوط النفط والغاز من دول شرقي المتوسط الى اوروبا ستكون بديلاً حيويا للغاز الروسي، او خطوط احتياط  تستخدمها اوروبا ساعة تريد للضغط على روسيا في امور سياسية خلافية. لذلك، فإن اكثر ما يشغل بال الروس بمعزل عن ملف أوكرانيا حالياً، هو الجانب الاقتصادي المتصل بحقول الغاز في البحر الأبيض المتوسط قبالة الشواطئ اللبنانية والسورية.

مصلحة لبنان والمتوقع؟

وبغض النظر عن التفاصيل التقنية والخلافات السياسة، فإن الخبراء اللبنانيون يرون ان مصلحة لبنان الحقيقية تكمن في تنفيذ مرسوم توسيع حدود المنطقة الاقتصادة الخالصة لأنها تضمن حقوقه في حقل “كاريش”، الذي وضعت اسرائيل يدها عليه وكلّفت شركة يونانية بدء التنقيب عن النفط والغاز اعتبارا من شهر حزيران – يونيو. لكن التعديلات اللبنانية المقترحة على خريطة الحدود البحرية من شانها ان تؤخر عمل شركات التنقيب طالما ان هناك خلافاً قانونياً قائماً.

وقد لا يتوقع البعض تحقيق الكثير بنتيجة المفاوضات، وهذه برأيهم حقيقة يدركها المفاوضون نتيجة الرفض والضغط الاميركي وموافقة اطراف لبنانيين على عدم تعقيد المفاوضات أوالغائها، لا سيما الرئيس نبيه بري وضمناً حليفه “حزب الله”، وان اقصى الممكن إذا وصلت المفاوضات الى نتيجة هو تحصيل حق لبنان حتى حدود الخط  او النقطة 23  بدل الخط او النقطة 29، لكن السعي واجب، ورفع السقف بلعب كل الاوراق المتوافرة هو من شروط اي مفاوضات لبلوغ الحد الاقصى من المطالب. خاصة ان الجانب الاميركي يأخذ موقف الجانب الاسرائيلي في المفاوضات ويضغط على لبنان من اجل عدم الذهاب بعيداً في موضوع تعديل المرسوم.

لكن في مقابل الرغبة بالعودة الى “التفاهم – الاطار” على قاعدة افضل الممكن، يرفض المتمسكون بالثروة النفطية هذا التوجه”لأنها حق سيادي”. في هذه الخانة يصب ايضا تمسُّك الجيش بتعديل المرسوم 6433، كما موقفُ لجنة الادارة والعدل النيابية، وبعض القوى السيساسية والمعارضة من المجتمع المدني ترفض التنازل عن حقوق لبنان السيادية.

ورقة قوة لبنانية

الاكيد ان تعديل المرسوم 6433 سيكون ورقة قوية في يد الوفد اللبناني المفاوض، والأهم أنه سيُثبت حق لبنان حتى الخط 29، ويحوّل مساحة 2290 كيلومتراً الممتدة إلى نصف حقل “كاريش” إلى منطقة متنازع عليها، الأمر الذي يمنَع شركة “إنرجين” اليونانية، أو أي شركة أخرى، من البدء بعملية التنقيب في هذا الحقل، لأنه يشكّل اعتداء على المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان.

وقد نشر رئيس الوفد اللبناني المفاوض العميد الركن الطيار بسام ياسين خارطة جديدة، يظهر فيها حقل غاز لبناني محتمل في البلوك رقم 9 أطلق عليه اسم “حقل قانا” تيمناً بالدة الجنوبية قانا التي ارتكبت فيها اسرائيل مجزرتين بحق الاهالي وقوات اليونيفيل في التسعينيات، وقال إنه “يمتد الى ما بعد الخط  او النقطة 23 والى البلوك 72، الذي تنوي إسرائيل السطو عليه، وهو اكبر من حقل كاريش.

وأوضح “ان شركة توتال الفرنسية حالياً تنوي الحفر بعيداً عن هذا الحقل اللبناني خوفاً من أن يشترك فيه الجيش الاسرائيلي، ويعمد الى عرقلة عملية الانتاج، كما فعل في حقل افروديت بينه وبين قبرص لمدة 10 سنوات”.

ويرى العميد ياسين ان تعديل المرسوم 6433 والمطالبة بالخط  او النقطة 29 الذي يهدد حقل كاريش، هو الذي يحمي هذا الحقل في البلوك 9.

وفي حال تم تثبيت الحدود اللبنانية على الخطّ 23، يكون لبنان قد حقق إنجازاً بالمحافظة على مساحة 860 كلم مربعاً، وزاد عليها حقولاً أخرى، ومن بينها حقل قانا وربما حصة من حقل “كاريش” الاسرائيلي.

المناورة الاسرائيلية والمخرج

بالمقابل، وفي مناورة للإلتفاف على المطلب اللبناني الجديد، اعلنت وزارة الطاقة الاسرائيلية خريطة جديدة للتفاوض وسمتها “بالخط 310” أو الخط الأحمر، الممتد شمالاً إلى أبعد من الموقف التفاوضي الأساسي لإسرائيل والمتمثل بالخط الأزرق. والمساحة هي ضعف المساحة المتنازع عليها، بهدف ابتزار لبنان والضغط عليه.

  فهل هذه الخطوة الاسرائيلية ستؤدي الى مزيد من التأزم، او تعيد الطرفين الى طاولة المفاوضات، بحيث اصبح لكل طرف خريطة مختلفة عن تلك التي انطلقت حولها المفاوضات في تشرين الاول الفائت؟ ووسط هذا التجاذب السياسي الداخلي والضغط الاميركي والرفض الاسرائيلي على لبنان، كيف سيكون المخرج؟

تقول مصادر معلومات رئاسة الجمهورية لـ “الحصاد” ان رئيس الوفد الاميركي طلب ان يكون التفاوض محصوراً فقط بين الخط الإسرائيلي والخط اللبناني المودعَين لدى الأمم المتحدة، أي ضمن المساحة البالغة 860 كيلومترا مربعا، وذلك خلافا للطرح اللبناني من جهة، ولمبدأ التفاوض من دون شروط مسبقة واعتماد القانون الدولي للوصول الى حل عادل ومنصف يريده لبنان من جهة اخرى.

وتضيف المصادر ان لبنان دخل المفاوضات بلا شروط مسبقة، ويرفض ان تُفرض عليه شروط مسبقة كتحديد خطوط الحدود مسبقاً، وهو مستعد لمناقشة اي طرح يقدمه هو او الوفدالاسرائيلي وفق قانون البحار الدولي. وخلاف ذلك لا تعود هذه مفاوضات بل إملاءات مرفوضة. والمخرج يكون بالعودة الى قانون البحار والقوانين الدولية وليس بالسعي لتحقيق المطامع الاسرائيلية.

  اما الوسيط الأميركي فأكد حسب معلومات “الحصاد” أن العودة الى طاولة المفاوضات أتت بناءً على شرطين أساسيين تبلّغهما رئيس الجمهورية ميشال عون وهما: أن التفاوض سيكون محصوراً بينَ الخطين 1 و23، أي المنطقة المتنازع عليها، ومن ثم البحث في المكامن المشتركة.

لذلك تأجلت جولة المفاوضات السادسة مرة اخرى، بعد رفض الوفد اللبناني المفاوض برئاسة العميد الركن بسام ياسين التوجه إلى مكان الاجتماع، بسبب رفضه “الشروط الإسرائيلية المسبقة لناحية حصر التفاوض على مساحة الـ 860 كيلو مترا مربعاً”. وترك الوسيط الاميركي المجال للبحث في صيغ ومقترحات جديدة مقبولة من الطرفين. لكن بدا من سير جلسة المفاوضات الاخيرة ان  الاطراف الثلاثة اللبناني والاميركي والاسرائيلي مستعجلين على التوصل الى حلول لبدء الاستثمار في الثروات البحرية، ولمنع اي توتر جديد في المنطقة في ظل جو التسويات الكبرى القائمة مع جدد مفاوضات فيينا حول الملف النووي الايراني واللقاءات بين السعودية وايران في العراق، وزيارة مدير المخابرات السعودية الى سوريا، وما يمكن ان ينتج عنها من تغيير للخريطة السياسية. لكن متى موعد الجولة المقبلة؟ الجواب مرهون بالموقف والمسعى الاميركي لتدوير الزوايا الحادة.

وتشير مصادر متابعة إلى أن إسرائيل مضطرة لتقديم تنازلات واتخاذ مواقف غيرمتشددة. فهي تستعجل البدء بعمليات استخراج النفط والغاز، وتريد الحفاظ على حقل كاريش ولو لم يكن كاملاً، والذي تستعد لبدء عمليات الاستخراج منه. وهذا يقتضي منها تقديم تنازل في مساحات أخرى ويحقق مكسباً للبنان أكثر من مساحة الـ860 كلم، عبر حماية الحقول التي لديه وتوسيعها امتداد أكثر نحو الجنوب والغرب ولو تنازل في مناطق اخرى.

تنازل الطرفين اذاً هو الذي يحل المشكلة. حيث اشارت المعلومات الى ان حركة اتصالات ستجري بين المعنيين من اجل الاتفاق على اطار تسوية يعيد المفاوضات الى السكة.

العدد 117 / حزيران2021