في الحاجة إلى النقد الأدبي

بيروت – ليندا نصار

من الملاحظ  أن النقد في هذا العصر بات يحتاج إلى عناية خاصّة ليعود بقوّة كما كان حاضرّا في  الصالونات الثقافية والمحاضر الأدبية لدى الأجيال القديمة، فحديثًا ثمّة دراسات نقديّة جديدة استطاعت أن تصل إلى ممارسة النقد الثقافي في الصحافة مع أو من دون ضوابط. وكما ذكرنا في مقالنا السابق، لقد تمثّل النّقد في الصحافة الثقافية اللبنانية خصوصًا وصار له دور مهمّ دفعت به وسائل التواصل الاجتماعي في ظلّ العالم الرّقميّ إذا اصطلحت تسميته هكذا. من هنا كانت الهيمنة الثقافية في الصحافة بوصفها ضرورة، إذ اتّخذت طابعًا هدفه الأوّل إيصال المواضيع إلى جميع الفئات.

وانطلاقًا من ذلك يمكن للمعنيين بموضوع النقد ومن خلال أبحاثهم وتحاليلهم للمقالات النقدية أن يخلصوا إلى عدة ملاحظات مقارنة بما كان عليه النقد قديمًا. ويمكن الأخذ هنا بعين الاعتبار الفرق بين الكاتب الأكاديمي أو المتخصص والكاتب غير المتخصص الذي ينتمي إلى الصحافة الثقافية.

من هذه الملاحظات تقلّص مساحات النقد الأدبي في الصفحات الثقافيّة لصالح الحوارات والدعاية للكتب والمهرجانات الثقافية وغيرها، وإعطاء أولوية لمقالات الرأي التي تهتمّ بإثارة سجالات غالبًا ما تكون شخصيّة. وثانيها يتّصل بهيمنة القراءات النقدية في الرواية تحديدًا كجنس أدبيّ سواء كانت هذه الرواية عربيّة أم عالميّة من روايات نوبل أو الجوائز المهمّة، وكذا التي لها علاقة بالجوائز العربيّة.

ثانيًا إن طبيعة النقد الأدبيّ الحاضر في الصحافة الثقافيّة يرتكن في مجمله إلى ما هو انطباعيّ محض وهو غير مدعوم بأيّ تصوّر من التصوّرات النقديّة أو المنهجيّة، وثالثها سيادة النقد الموضوعاتيّ الصرف في معظم المقالات والأمثلة كثيرة على ذلك. ولعلّ التحولات التي يمكن التنبيه إليها ترتبط بتراجع الصحافة الثقافيّة في ما يتعلّق بالنقد الذي يمكن أن يطوّر ويوسّع من سيروات الأجناس الأدبيّة بما يسمح بفهم العلاقات داخل المجتمع. إن غياب النقد وسطوة الذاتيّة يدفعنا إلى معرفة غياب ثقافة النقد داخل المجتمع. كما أن هذا التسطيح في الوعي هو الذي سمح بتجارب إبداعيّة قويّة لم تعط لها الأهمية في أخذ المكانة اللائقة بها، علمًا أنّ هذا النقد لم يستطع أن يطبّق المناهج النقدية، ولا استطاع التخلّص منها ليصل إلى مستوى النقد الإبداعيّ تمامًا مثلما فعل عبد الفتاح كيلطو في دراسته للسرد العربيّ القديم؛ حيث كان يتوسّل بالمناهج من دون أن يظهرها تاركًا مساحة مهمّة للتحليل من الكشف عن الأنساق الجماليّة الموجودة في النصّ الذي يصبح هو المدرسة والمنهج.

ومن بين ما  تتّصف محدّدات الكتابة النقديّة الصحافيّة من حيث مكوّناتُها  أنها ذات طابع إبداعيّ في ما يتعلّق بتوظيف مكوّن اللّغة التي يهتدي بها الناقد في مقاربته  لأيّ نصٍّ أدبيّ أو ظاهرة إبداعية أو ثقافية. فهي تقوم في أغلب الأحيان على استعمال المجازات والاستعارات التي تتلافى مع لغة النقد الخاضعة، لمبدأ الوصف العلميّ الدقيق للقضايا والظواهر، وكما هو معلوم أنّ الوصف في النقد يجب أن يجتنب الوقوع في هوة الإبداعية، وأن يلتزم باستخدام لغة واضحة خالية من شوائب الإبداعيّة التي يتميّز بها النصّ الأدبيّ وتجعل منه عملًا ذا سمة أدبيّة خالصة.

 وعلى الرغم من أنّ النقد الصحافي يعاب عليه توجّهه المفرط صوب التّنصّل من لغة النقد العلمية؛ إلا أنه يجب أن نأخذ بعين المراعاة أن هذا النقد يشكل تركيبًا فريدًا يمازج بين النظريّات الأدبيّة، والمناهج النقديًة، ولغة الإبداع والقرب من ذائقة الأحاسيس والعواطف الناجمة عن فعل التلقي. ما يجعله ممثّلًا بهذا الاختيار الجماليّ، نهجًا آخر يسعى إلى ملامسة ذائقة القرًاء المتنوّعين.

إنّ هذا النقد الصحافي في عمومه يتوجه إلى قراء لا خيط ناظم يجمع بينهم على مستوى التخصصات والتطلعات والمرجعيات، هو ما يفرض على الكاتب أو الناقد أن يتنصّل من كل ما من شأنه أن ينفر القارئ، عبر الابتعاد عن جفاف النقد العلمي المحض، ومفاهيمه المتعالية.

ولهذا، فإن من الضروري التفكير في تخصيص مساحات مهمة للنقد الأدبي داخل الملاحق والصفحات الثقافية، كما يمكن أن يكون الانفتاح على بعض الأقلام الجديدة التي تمارس النقد الأدبيّ مهما في دفع الحركيّة النقديّة نحو مزيد من العمل على جعل الفكر النقديّ لا يرتبط فقط بالجامعة بل يصبح شأنًا ثقافيًّا يمكن أن يسهم في تحصين الشباب من دوائر التطرّف والرأي الواحد. ومن ثمّ لا بدّ من فتح ورشات تكوينيّة في الجامعة لممارسة النقد الأدبيّ داخل الملاحق الثقافية الصحافيّة ليصبح تخصّصًا أكاديميًّا يمكن يطوّر تلقّينا للأعمال الأدبية والظواهر الثقافية وغيرها.

إذا تناولنا الكاتب الأكاديمي نلاحظ أنّه حين يكتب في الملحق الثقافي يتخفف من المنهج ومن المفاهيم والمصطلحات النقدية وأحيانًا من الموضوعية ويخضع لمنطق التسويق الموضوعاتي الذي لا يتجاوز أحيانًا تقديم النصوص الإبداعية باعتبارها نصوصًا تطرح قضايا جزئية في حين يبقى الجانب الشكلي المتعلق ببناء النص جماليًّا معلّقًا ما يعيق تطوّر النقد الأدبي من جهة والإبداع من جهة ثانية.

أمّا الكاتب الانطباعي فهو عندما يكتب النقد الأدبي من داخل الصحافة الثقافية، يطلق أحكامًا عامةً لا تخضع بالضرورة إلى أي منطق بما في ذلك النص الذي يقوم بتقديمه إلى القراء، حيث لا تتوفّر فيه حتى شروط القراءة العاشقة التي أرسى ضوابطها رولان بارت. وهذا ما يدفع أحيانًا إلى تحويل النقد الأدبي إلى خطاب نقد هدام لا يحترم حتى التقويم الذي يلزم الكاتب بتوضيح مناطق القوة في النص ومكامن الخلل.

نلاحظ أنّ معظم النقد الأدبي في الملاحق الثقافية يتجه بنسبة كييرة نحو تقديم النصوص الروائية العالمية ويعيدها إلى الحاضر من منظور المركزية الغربية من دون القدرة على الانفتاح على نصوص روائية عربية استطاعت أن تفرض متخيلها المحلي وتجعله يسافر في جغرافيات لغوية كونية.

الناقد الأدبي في الملاحق الثقافية يحرص كل الحرص على تقديم نصوص توّجت في إطار جوائز باحثًا عن ضجة أو عن شهرة تغيب النص وتحجب  النصوص التي لا تكتب وفق منطق الجائزة. وبالتالي لم يعد الناقد يكتشف نصوصه بقدر ما تفرض عليه بعض النصوص.

ومهما قمنا بأبحاث حول هذه المواضيع لن نستطيع تغطية كلّ الإجابات للبحث عن الأسئلة التي يمكن أن تكون جزئيّة لما تحتاجه دراسة حقب تاريخيّة جديدة عرف فيها النقد الأدبي تحوّلات مهمّة لم تمسّ الجوهر بل مسّت الإعلام نفسه في سياق الثورة الرقميّة التي باتت مهدّدة للعقلانية والتفكير النقدي ما مهّد لدفع كثير من الشباب نحو التغرير بهم من أجل دفعهم إلى أنماط من السلوكيّات التي لا يمكن أن تكون إلا مهدّدة للأمن الثقافيّ.

العدد 117 / حزيران2021