ثمانون عاماً على ولادة سعدالله ونوس

لم يكتب سعد الله ونوس ما اراده الآخرون . لم يكتب كرجل آخر في زمن بدت فيه الأفكار كالبخار الساخن بالصراع العقائدي المفتوح بين المنظومة الإشتراكية والعالم الرأسمالي ، وسط حرب باردة لم تتوقف عن إطلاق صفارات انذارها . أخرجت الحرب هذه ، بالواقع ، الأجساد والعقول بأحاسيس عالية . تلك مرحلة أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن العشرين . سعد الله ونوس أحد صرخات المرحلة المعقدة تلك في مجال المسرح ، إذ وجد فيها شجرته الذاهبة نحو ربيعها على الرغم من عمل معظم الأنظمة العربية على رسم الممرات والطرقات لمواطنيها بدون أخذ رغباتهم على محامل الجد . المسرح هو الشيء اللذيذ في حياته ، أو أحسن ضحايا الأنظمة من استولى عليها القلق وهي تخوض حروبها وكأنها قاضٍ لا محارب . هكذا ، أكدت كتابات سعد الله ونوس أسوأ مخاوف الناس : هزيمة الأنظمة في حروبها الخارجية وانتصارها على ناسها . إنها صاحبة خطوات متشابهة ، حين تستلم مقاليد الأمور . ولأن الكتابة شهادة ، لم يبدِ ونوس الأسف على شهادته على الهزيمة العربية المدوية بالعام ١٩٦٧، في وجه المغالاة القومية الإسرائيلية وتزعمها مجموعة من القيم الأخلاقية في نظرة استرجاعية تعود إلى المحرقة واضطهاد اليهود بالعالم .

لا نبرة تدعو آلى سوء الفهم في ” حفلة سمر من أجل ٥ حزيران ” ، مسرحيته المشهورة باتهام الأنظمة بتقديس الذات إلى حد قيادتها البلاد إلى كل أنواع الممارسات الرخيصة بحق مواطنيها والإنهزام أمام العدو بضربة واحدة ، ضربة ساحقة . مذاك ، راح مصطلح ” المسرح السياسي ” يتردد بين بيروت ودمشق . مذاك بدا سعد الله ونوس واحداً من العقلاء في حياة محمومة، مجنونة ، مهددة بالإنهيار ، بانكسار وطنيتها من عدم إتقانها سوى لغةٍ العسف بالداخل .

لم يبدُ سعد الله ونوس مضجراً ولا عديم التعاطف مع البشر وهو يهجو هزيمة العام ١٩٦٧، وهو يجد ببلاده بلاداً مقتولة بالهزيمة . ولم يبدُ ساعياً إلى منصب رفيع ، لأن الكتابة منصبه الرفيع . سوف تتدنى رتبته إذا ما تركها . هكذا ، استمر الرجل المولود في حصين البحر( طرطوس السورية ) بالعام ١٩٤١ في مرسلاته الخاصة بالواقع من خلال تجربة ثرية سوف تقوده إلى كتابة كلمة يوم المسرح العالمي وقراءتها في مسرح المدينة قبل موته بأشهر قليلة بالعام ١٩٩٧. وهي رسالة يكلف أحد المسرحيين المجلين بالعالم بكتابتها من المؤسسة العالمية للمسرح ( ITI) تقديراً لوقع انجازاته بعالم المسرح . لم يقدر الكثيرون على التعاون مع أنفسهم بحيث يصلون إلى هذه المرتبة . وصل ونوس ، لأنه تفرغ للكتابة . ولأنه كتب ما هو مدعاة للصدمة دائماً منذ مسرحيته الأولى ” الحياة أبداً” بالعام ١٩٦١،كرد على انفراط عقد الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا. ما قصد أن يقوله الرجل أن الهزائم وقع على رؤوس العرب وأنهم يتعاونون مع أنفسهم في صناعة هذه الهزائم .

سعد ونوس أقل صخباً من كتاباته . ثم أنه يستخدم أسلوب الإستخلاص لا المحاكمة كوسيلة لشد اللحمة الإنسانية حول الضرورات الأولى في حياة الإنسان العربي المهمش من اساءة فهمه وتفسير الإساءة هذه على نطاق واسع من انظمته الحاكمة . ثم أن كتاباته كتابات الإستخلاصات المقلقة ، حيث التناقض بالشخصية العربية العادية شبيه التناقض في الأنظمة العربية ، ولو أن الأخير أشرس ولا يتخفى كما يتخفى التناقض الفردي في أصحابه .

كتب سعد الله ونوس على نحو سلس ومنظم بعض أبرز النصوص المسرحية العربية . سهرة سمر من أجل ٥ حزيران واحدة منها لا أبرزها ، حتى ولو برزت من سلطتها الأخلاقية على هزيمة تحتاج إلى مئات المحللين النفسيين لكي تفهم . الإشتراكية العلمية ، هذه دعوته لاظرفه. إنها مجلسه الدائم وراء العواصف الكبيرة . وإذ وجد أن الكتابة هي كتابة الملاحظات الصغرى على الأحداث الكبرى ، عرف ونوس بمشهدياته ذات الطابع التغريبي أو البريشتي ( منهج برتولد بريشت الألماني ) حيث يرفض الجدار الرابع باللعبة المسرحية بصالح كشفها على الجمهور وتحويل الأخير إلى جزء من اللعبة المسرحية وشريك فيها ، يلعب كما يلعب الملاكم على حلباتها . التعليم واحد من علوم مسرحيات ونوس . واحد من الغرافولوجي الخاص بها . أو علم خطوطها .

مختلفة التفكير المسرحي الدارج ، قادت الرجل النحيل إلى كتابة ما لا يفتقر إلى العمق. بالعكس . كلام متماسك بأفكار متماسكة في ” الفيل يا ملك الزمان ” و” الإغتصاب ” و” منمنمات تاريخية ” و” أحلام شقية ” و” الملك هو الملك ” و” طقوس الإشارات والتحولات “و” ملحمة السراب ” و” بلاد أضيق من الحب ” و” الفيل يا ملك الزمان ” و” مغامرة رأس المملوك جابر ” و” الملك هو الملك “. حضور جذري بالتجربة المسرحية العربية زادت من قيمها المدنية والثقافية شراكته وأحد أبرز المخرجين العرب فواز الساجر في تأسيس المسرح التجريبي بسوريا بالعام ١٩٧٧. تواصل مباشر بين الإثنين ، بحيث وصلا إلى ما عجز الكثيرون عنه . وهما تمكنا من المسرح بقدر تمكن الموت منهما . اذا مات الساجر وهو في الأربعينات من عمره ، حين مات ونوس وهو في الخامسة والخمسين ، من اقتصار حياتيهما على الهموم الكبرى والوقف بوجهها بالمبادئ الراقية المترقية بالتشدد أمام الضحلات السائدة. وفي تتبع التطور التدريجي لموت المثقف والفنان العربي لا شخصيته ، يقع الإستدلال على ذلك فيما قاله ونوس بشأن الصراع العربي الإسرائيلي وعلاقة الإنسان العربي به وهو مزروب في قفص زجاجي ، لا يخرج منه إلا بهزيمة كثة: اعتقد أن إسرائيل سرقت السنوات الجميلة من عمري وأفسدت على إنسان عاش خمسين عاماً الكثير من الفرح وأهدرت الكثير من الإمكانات . خلق ونوس مسرحاً بعيداً من مسرح الخطابة ، بعد أن آمن بمسرح الكلمة / الفعل ، بنزعة فلسفية وجودية تضمنت رسائلها الخاصة الى العالم .

عارض الرجل كل شيء ، لأنه لم يرد أن يسير طوعاً إلى الذبح . غير أن طبائع الشر نجحت في إصابته بالسرطان . مرحلة النضال ضد المرض عاشها بعيداً من الكليشيهات ، من خلال كتابة أجمل نصوصه . نصوص بطبائع استباقية ، بعيدة من الإزدواجية وبقلب الإيحائية. خمس سنوات وهو يقاوم السرطان ، بعد أن منحه الأطباء ستة أشهر . لم يتفحص معاني النجاح في تلك المرحلة لأنه أصابها وسط المواجع الكبرى ، المزيج من الآلآم الشخصية والآلآم العامة ، بعد احتلال اسرائيل لبيروت وسقوط بغداد أمام الهجوم الأميركي الكاسح . ترك ونوس بيروت في بداية الإجتياح، بعد أن عمل مدير تحرير لصفحات ” السفير ” الثقافية اليومية وفي ملحقها الأسبوعي . مذاك أكله خفوت الغضب العام . مذاك أكلته الإعتذارات العربية من الأنظمة تجاه جلاديها . مات عقل الرجل قبل أن يموت . ثم مات على نحو قدم فيه الراحل كل حججه الأخلاقية والعملية في مواجهة من تسبب في تحطيم أحلامه وحياته واحلام وحيوات الملايين . معاني ذلك تتضح لقراء مسرحياته ، في متونها وهوامشها ووقوفها ضد الشرور المخيفة والمروعة.

العدد 116 / ايار 2021