حوار مع الشّاعرة العراقيّة نسيم الدّاغستاني

ديواني الجديد بمثابة علاج نفسي لي وللآخرين اكتب بلسانهم

بيروت من ليندا نصّار

»الحياة حياتنا« عبارة تختصر فيها فلسفة الشّاعرة العراقيّة الّتي أقامت في بيروت لفترة طويلة، ثمّ ما لبثت أن هاجرت إلى ألمانيا. حملت نسيم الداغستاني في قصائدها الوطن والمرأة ومأساة الإنسان، فكان التّخييل الشّعريّ المتنفّس الوحيد تجاه الأحداث والمشاهد الحياتيّة الصّعبة. تميّزت تجربة نسيم بالخصوصيّة في الكتابة، وتميّزت قصائدها بجماليّة الصّور المستوحاة من واقع تراوح بين الألم ومحاولة تحويله إلى فرح حقيقيّ. صدر لنسيم ديوانان: الأوّل »نسيم مرّت من هنا« وذلك حين كانت تقيم في بيروت، والثّاني »لعنة الاحتمال« في ألمانيا.

الحصاد تواصلت مع الشّاعرة نسيم الداغستاني وكان لها معها الحوار الآتي:

»الحصاد«: ديوانك الأخير »لعنة الاحتمال« يحمل الكثير من الشّكّ والاحتمال. هل تعتبرين أنّ الغربة الّتي تعيشينها بعيدًا عن وطنك، والخذلان الّذي أصابك، هما سبب عدم تأكيد المواقف أو المشاهد الحياتية؟

نسيم الدّاغستاني: الغربة بحد ذاتها مفردة تدعو إلى القلق، ولها عدّة معانٍ تناقضها: الأمان، والاستقرار، والمحبّة، والحنين، والراحة… في البداية، كان التصوّر الكامن في داخلي عن الغربة، هو ما عنيته لمن سبقوني أي ما عبّر عنها الأدباء والعظماء، خصوصًا وأنّي مهتمّة بمعرفة أحداث البشر الّذين تمرّ أخبارهم في ذهني، كشريط معلومات مكثّف للحقيقة، بعدها عنت لي هذه الغربة أمورًا جديدة أكثر جدّيّة اكتشفتها من خلال تجربتي الخاصّة، إلّا أنّي لم أشعر بها بمعناها المتعارف عليه أو كما كنت أظنّها في مراحل سابقة من حياتي، بل تجلّت في ذاتي على شكل بقع داكنة اللّون، وعلى الرّغم من ذلك لم أشعر بأنها سيّئة إلى هذا الحدّ إذ اتّشحت روحي بهذه الألوان، وقد جعلتني أعبر من خلال ستار المقوّمات النفسيّة للإنسان المتصالح مع نفسه أوّلًا ومع الموجودات والمجتمع من حوله ثانيًا.

لطالما سألت نفسي عن سرّ هذا الاتّحاد والتّداخل بيني وبين بيئتي التي ولدت وترعرعت فيها وكنت أفكّر ما ستكون النّتيجة لو خرجت منها وكانت تراودني فكرة الضّياع. لكن عندما هاجرت من وطني العراق، حاولت أن أزيل من ذهني كلّ المسلّمات، وقرّرت البدء من جديد في التّعامل مع الأحداث والأمكنة التي توفّرت لي. في الحقيقة نجحت في ذلك. إلّا أّني ما زلت أشعر بأصابعي تلامس وجنات إخوتي وأخواتي وهم يبعدون عنّي آلاف الأميال. ما زلت أحنّ إلى ظلّ نسيم القديمة في أحياء بغداد العالية الأسوار، والكبيرة بحدائقها الملهمة لكتابة الشّعر، على الرّغم من أني كنت هناك سجينة بين جدران الحرب.

ديواني الجديد »لعنة الاحتمالات« كان بمثابة علاج نفسيّ لي وللآخرين الذين يشعرون إنني أكتب بلسانهم. لا زلت أشعر بأن نزيزًا قديمًا في ذاكرتي لن ينضب وسيستمر طالما أن هناك أداة تحفر بي دائمًا أعني هنا الأوضاع التي تتجدد كلّ مرّة بأشكال مختلفة وهدفها واحد وهو القضاء على الوجود الإنساني والعاطفي.

»الحصاد«: برأيك هل يجب أن يكون الكاتب حياديًّا؟

نسيم الدّاغستاني: يتنازع الكاتب بين عالمين يرتبطان بمفهوم الكتابة: عالم الكتابة على أنّها مهنة بحيث يمتلك الكاتب الموهبة ولكن تكون الكتابة بالنسبة إليه وسيلة خيالية فنية، وعالم الكتابة الحقيقيّ وتكون الكتابة عنده رغبة كبيرة ترتبط بمفهوم معنى الحياة.

فالكاتب الذي اتّخذ من الكتابة مهنة له لا أعول عليه ولا أنتظر منه موقفًا، فهو يكتب بحسب ما يطلب منه. وحين تمرّ الأحداث أمامه، يصبح ساردًا بلا موقف إذ يعبر عن موقف عمومي بلا تحليل إنساني. أجد أن تحليلي هذا هو اكثر لطفًا مما هو عليه الكاتب المشهور في الحقيقة، خصوصًا ذلك الذي يجلس على منصة إذ أنّه من الممكن أن تكون سببًا كبيرًا في إحداث تغييرات كبيرة في عالمه الاجتماعي. أما الكاتب الآخر فبالتاكيد إما أن يصبح منحازًا لفئة معينة وهذا برأيي بوق ساحر يتوارى وراء الطغاة كيفما كان شكلهم ومهما كانت انتماءاتهم. وإمّا أن يعبّر عن مواقفه بكلّ جرأة مهما كلّف الأمر. في الواقع هذا الموضوع كبير ومقاييسه تختلف من شخص إلى آخر. لكن هذا رأيي الصريح تجاه دور الكاتب ومسؤوليّته في تغيير الأوضاع نحو الأسوأ أو نحو الأحسن. بالنسبة إلي أنا أقدّس الكاتب صاحب الموقف الإنساني المثالي حتى ولو كان الثّمن التّضحية والفناء برصاصة على يد قنّاص مجهول.

»الحصاد«: تردّد نسيم دائمًا »الحياة حياتنا«… على الرّغم من صور الحرب وظروف الحياة الصّعبة والغربة وكلّ الألم الّذي بات يعيشه الإنسان العربيّ اليوم، أين نجد نسيم وسط كلّ هذه الجثث المتفحّمة وطلقات الرّصاص العمياء؟ وإلى أيّ مدى استطاعت الشّاعرة في داخلك تجميل هذا العالم عبر التّخييل الشّعريّ؟

نسيم الدّاغستاني: الحياة حياتنا رؤية روحية وسلوك نفسي، كان لا بد أن أحصر هذا القول في هاتين الكلمتين، لعلّي أستطيع أن أستمرّ بمصارعة التراجيدايا التي ترافق الحياة منذ ولادتنا، ومنذ اللّحظة الأولى لاختلافنا الّذي يثير الخوف من المجهول. أحبّ هذا الانعتاق من الانتماء الذي يقيّد رؤيتنا وخيالنا. وأتمنّى أن نصبح مثل هواء دافئ غير معروف المصدر وأن ننعتق من أحكام الحياة التي أملاها علينا الآخرون. وإنّي أدعو إلى إعادة النّظر في الأشياء والموجودات ورؤيتها بطريقة تختلف عن تلك الّتي كتبها أسلافنا، كما تختلف عن المتعارف عليها. بصراحة أنا مثلا ضد الأمثلة فالبشر يختلفون كاختلاف بصمة الإبهام، لكن هناك تماثل بسبب العادة والعدوى والرأي الجمعي. أظنّ أنّي ما زلت أحاول دائما أن أصنع غلافًا وعمقا آخر على هذا الكوكب عبر التّخييل الشّعريّ.

»الحصاد«: حياتك الّتي تعجّ بالأسفار والتّنقّل، خصوصًا بين بلدان يتصاعد منها الضّباب بروائح البارود لِتَخُطّ مشاهد مذابح الأطفال وسبي النّساء. إلى أيّ مدى استطعت تجسيدها في مساحات القصيدة؟

نسيم الدّاغستاني: ليست الفاجعة التي تصيب العرب الآن هي المحرّك الأساسيّ للوصف المأساويّ، إنّما منذ نشوء الحضارات بدأ صراع البقاء باختلافه، يمرّ عبر حروب شنيعة. لا بدّ أن نعلم أنّ السلوك الوحشيّ، ليس جديدًا بل هو كما قال عنه الفلاسفة القدامى صراع بين الخير الشر. ولا ننسى أنّ الخير قانون الحياة الّذي بدأ منذ آلاف السنوات الّتي كانت تختلف عمّا نحن عليه الآن. لطالما كان الخير مهيمنًا على الشّرّ أمّا اليوم فما يحصل أمر غريب أو بالأحرى يثير الألم ما جعل هذا الأمر يتراكم ليسجّله التّاريخ المأساويّ. لذا أقول إنّ الموت هو عنصر بدا واضحًا في القصائد. الجدير بالذّكر أنّي تطرّقت إلى مسألة الإيزيديّات، وإلى مسألة الخدعة الكبرى، وبناء وحش كبير اسمه »داعش« ذاك الذي يرمي البلدان في الهاوية. بالنسبة إليّ، أرى ما وراء الستار فأصف الإنسان ومعاناته بعيدًا عن أيّة جهة مسمّاة لأنّي لا أنحاز إلى طرف معيّن.

»الحصاد«: في انتقالك إلى بيروت، حملت قضيّة المرأة الطّفلة، الحالمة، المظلومة، الثّائرة المتمرّدة… هل ما زالت نسيم تحمل القضيّة نفسها في مجتمعها الجديد وفي هجرتها إلى ألمانيا على الرّغم من كلّ الظّروف الصّعبة الّتي عانتها؟

نسيم الدّاغستاني: يمكن الاعتبار أنّي أنا ما زلت انا بلا أشباه ولا قواعد. لا أحبّ الشكوى، لكن معاناتي السّوداء اصطبغت بإصراري على إبراز اللّون الأبيض، ذاك الوجه الجميل للحياة.

أعمل دائمًا على إظهار صورة مخالفة للجميع. بالنّسبة إليّ أن أستعير كلمة »احتمال« هذا يعني أنّ هناك احتمالا لامرأة هاجرت من بلد إلى آخر، وهي في خضمّ هذا الصراع في الحياة، إنّه صراع البقاء على المبادئ الّتي يؤمن بها الإنسان. ما يجب معرفته دائمًا هو تلك القوّة الّتي تبعث على الاستمراريّة. من الصّعب أن تشرحي للآخرين من أنت، لكن من الممكن أن يكون للمعرفة دور في إبراز الأشياء الحقيقيّة، والسلوك اليوميّ له أهمّيّة، فحياتي الشخصية مرتبطة بحياتي الثقافيّة والمعرفيّة والاجتماعيّة، فأنا أنقل كلّ ما أشعر به، وأحاول تحقيق كلّ ما حملته من وعد لنفسي.

»الحصاد«: في ديوانك »نسيم مرّت من هنا« الكثير من الثّورة والتّمرّد والجموح نحو الحرّيّة المطلقة. هل يمكن اعتبار هذه الكتابة متنفّسًا لطريقة عيش أو حياة ماضية كانت حافلة بالقيود وقمع للحرّيّة في المجتمع العراقيّ؟

نسيم الدّاغستاني: لا أنكر أنّ المجتمع العراقيّ محافظ وصعب، لكنّه في الوقت نفسه منفتح، وهو متناقض تناقضًا مخيفًا. الكتاب كان وفاء لقصائد قديمة اعتليت المنصّات بها وأثّرت يومها في الجمهور. أمّا الآن فلست نسيم تلك الّتي مرّت من هنا، صرت أكتب نسيم هنا. هناك فرق في كتاباتي شاسع وقد لاحظه العديد من النّقاد. إنّ الثورة النفسيّة والتجارب هي الّتي تؤثر في الانتاج، كذلك مرور الوقت الّذي أعتبره بمثابة مسمار يتعرّض للصّدأ أحيانًا، لكنّه في الوقت نفسه، يبقى ثابتًا، ويجعل من أركان الطاولة أكثر قساوة.

قصيدة من ديوان »لعنة الاحتمال« للشّاعرة نسيم الداغستاني

)الشّاعر(

جزءٌ صغيرٌ من العالمِ

يسبحُ في كأسِ الماءِ

ويتخدَّر

يُفْرِغُ المحبرةَ في عيني

ليكتُبَ القصيدةَ

هذا الجزءُ.. الهجينُ

غيرُ مرئيٍّ

مثلُ اللَّونِ الأزرق.. يبقى منفيَّاً في البحرِ

الشَّاعرُ لصٌّ أعمى

يسبحُ في التُّرابِ

ولا يخشى اللَّيل

…………..

)إثم(

فازَ بجنَّةِ الشُّعراءِ من استطاعَ أن يصفَها

هيَ حياةٌ بلا عقابٍ.. وآخرةٌ بلا جريمةٍ

…………………..

)الكاتب(

أشبهُ بخفرِ السَّواحلِ

عندما يغمضُ عينَيه

تهربُ الفكرةُ

)المعرفة(

تجعلُ الإنسانَ مثلَ كائنٍ غريبٍ

لهُ عينٌ واحدةٌ أشبهُ ببحيرةٍ سوداء

…………………..

)الشِّعر(

فنٌّ لا يصنعُهُ الأحياءُ

أعطني سلاحاً لأقتلَ نفسي

كي لا أموتَ ميتةً بشريَّةً

لأنّي لا أكتبُ

لا أسمعُ

فقدْ سقطَتْ تِلكَ الشّحمتَان على كفّي.. ضجراً

……………………

)شاعر(

هناكَ شعرٌ أسودٌ

أشبهُ بالسِّحرِ الأسودِ

يكتبُهُ الشَّاعرُ عندما يمجِّدُ الطُّغاةَ

نسيم الداغستاني: الحياة الجديدة

ديوان غلاف لغة الاحتمال لنسيم الداغستاني