خدمته بعيونها

01الحكايات القديمة خلبت ألبابنا.اصغينا الى تفاصيلها بمخيلة خصبة وذاكرة متوقدة. لن اقول انها تلفزيون طفولتنا لأن الشاشة الصغيرة تصادر المخيلة ومع الوقت والادمان تترك القليل النادر للذاكرة. لذا فاجيال ما قبل التلفزيون اخصب خيالاً وافضل ذاكرة من اجيال الالكترونيات المنتشرة بسرعة لا حدود لها. نعم، ما زال الزمن الاقل اتكالاً على الآلة هو النبع الفوارالذي روى الآثار الكلاسيكية الكبرى في الشعر والفلسفة والرسم والنحت والموسيقى، وايضاً بالنسبة الى فن الحكاية المنتشر في كل ثقافات العالم، ومنها ثقافتنا العربية.

يروى الكثير، عندنا وعند غيرنا، عن اشخاص ماتوا ولم يموتوا تماماً. اشخاص رأوا اجسادهم هامدة من مكان آخر وعادوا اليها بقدرة قادر، وآخرون دفنوا ثم استفاقوا في توابيتهم ورجعوا الي بيوتهم احياء يرزقون. من تلك الحكايات واحدة تذكرتها عندما طلب مني حفيدي ان اخبره قصة في لحظة غير متوقعة، قياساً بمدى ادمانه على الحراتيق الالكترونية. وليس غريباً ان يصيبني طلبه بالسعادة فكأنني على وشك إنقاذه من الغرق!

إسمع يا فتى، عاش في ضيعتنا رجل حسن السمعة، طيّب المعشر، قليل الكلام، كثير العمل. ما تجنب عشرته احد، ولا استغابه ثرثار بنميمة، وكان اسمه راجي. في الخامسة والسبعين من عمره أصابته نوبة قلبية قاتلة، إذ كان جسمه بقوة ابن الاربعين، وكلما كان القلب قوياً يزداد خطر الذبحة الصدرية، كما سمعنا من كبارنا.

بعد أيام قليلة على دفن راجي سمع عابر سبيل إستغاثة في المدافن فأسرع وأخبر المختار. في حالات كهذه طبيعي أن تتبع المختار كل قدم قادرة على السير، اي ثلاثة ارباع الحاضرين في الساحة زحفوا معه الى المقابر. ولما فتحوا التابوت وجدوا اراجي حياً دامع العينين، فهللوا فرحاً وأعادوه الى بيته على الراحات. وروى راجي أنه رأى نفسه ميتاً وحزن حزناً عظيماً لأنه مات قبل ان يقوم بواجب رفض الإفصاح عنه للحاضرين. لكنه قال: »بعد أن صليت وتوسلت الربّ ان يعيدني الى بيتي ولو ليوم واحد أحسست بنُمال حارق يجري في جسمي وفتحت عينيّ وبدأت اصرخ كأنني وُلد ت من جديد«.

وفيما كان راجي يروي حكايته أمام الجمع، دخلت إمرأة ترمّلت باكراً و لها ولدان، وأرتمت باكية على قدميه. لوهلة ظنّ الحاضرون أن بين راجي وبينها علاقة سرية، علماً انه لم يكن وسيماً أو ثرياً بل صاحب مزرعة صغيرة يعيش من جنى أرضه، وقد سافر اولاده إلى الأرجنتين واستقدموا أمهم لتعينهم في تربية أطفالهم فبقي وحده. مع الارض. الواقع كما جاء على لسان الأرملة أن السر بينه وبينها لم يتعدّ تبرّعه بتعليم ولديها مشترطاً عليها ألا تخبر احداً وألا تأتي لزيارته، ولو صادفته في الساحة ألا تسلّم عليه لئلا تجلب لنفسها الأقاويل والى رأسه الصداع.لكن فاجأته المنية قبل ان يسدد اقساط المدرسة لليتيمين.

غنيّ عن القول ان طيور البغتة حطت صامتة ساكنة على مهنئي راجي بالسلامة. فلم ينبس احد ببنت شفة.

عاش راجي حتى بلغ السادسة والتسعين، ولم تعد زوجته ولا اولاده أو احفاده من الأرجنتين. لكن الأرملة خدمته بعيونها في سنوات الشيخوخة الصعبة.

»ما معنى خدمته بعيونها« سألني حفيدي، فأطرقت مفكراً في جواب يفهمه المقبل هذاعلى القرن الحادي والعشرين من دون ان يقرأ عن اناس خدموا غيرهم بعيونهم عرفاناً بالجميل. ولم تسعفني اليكترونياته بمثال صالح للمقارنة والتشبيه.