رحيل سامي شرف الذاكرة التاريخيه لقرارات عبدالناصر

رحل رجل كانت ذاكرته تضج بالكثير والكثير ،من القصص والروايات والحكايات، بل وبالأسرار الدفينه لفترة هي بطبيعتها كانت زاخرة بالمعارك الطاحنه ،والقضايا المتشابكه ،والصراعات الحادة .رحل سامي شرف الذي قضى جل عمره يجلس على كرسي واحد ،وهو سكرتير  الرئيس لشؤون  المعلومات. وللقارئ ان  يعي مدى أهمية هذا الموقع، على الأخص خلال مرحلة كانت في تميزها من اخصب مراحل التاريخ المصري والعربي والأفريقي بصفة خاصة ثم العالمي بصفة عامه . رحل رجل كان يمثل المفتاح الرئيسي لمخزن المعلومات المركزي لهذا الزعيم . خاض بجواره كل المعارك الطاحنه لتغيير سياسات كانت تقليديه في التعامل مع قوى الاستعمار العالمية ،وفجر في بلاده الثورة

الراحل سامي شرف
خزينه كامله من المعلومات  للمرحله الناصرية

الاجتماعيه وعمل على تغيير البناء الطبقي ،ليكون متوازنا مع تطلعات الفقراء والمهمشين . رحل سامي شرف الرجل الذي فارق الدنيا وهو لا يملك سوى شرفه وأمانته وأخلاصه لبلاده ووفائه لزعيمه ممتشقا كل قواه من ذاكرة حيه وثروة لا تنضب من المعلومات الموثقه للدفاع عن سياسات الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وفي كل مجالاتها المتعددة ،وميادينها الواسعه،وتفسير وقائعها وقراراتها . نتذكر اليوم الذي بدأ معه في تفنيد الأتهامات التي حاول فيها البعض ان يلصقوها بعبدالناصر،ولم يتوان في الرد ،فكتب الصحفي الراحل ابراهيم سعدة ( لم يعد هناك سوى شماشرجية عبدالناصر يكتبون التاريخ؟) وقام بالرد عليه الصحفي الكبير (صلاح حافظ ) رئيس تحرير مجلة روزا اليوسف) .ان من تطلق عليهم شماشرجية جمال عبدالناصر هؤلاء وهبوا حياتهم لمؤازرة زعيم تاريخي ورهنوا انفسهم لمساندته باخلاص وتجرد ،وكانوا دائما فوق مستوى الشبهات رغم الضغوط عليهم ،وبل وسجنهم لسنوات طويله من الزمن .

سامي شرف مع عبدالناصر والسادات

  تفجرت في القاهرة عام 1954 قضية معروفه باسم ( فضيحة لافون ) و كان لافون وزير للدفاع في حكومة اسرائيل التي يرأسها  بن جوريون ،وتتلخص وقائع الفضيحه  ان اسرائيل دبرت بواسطة بعض رجالها وعملائها في القاهرة تفجيرات في بعض المواقع في القاهرة والاسكندرية الخاصة بالأمريكيين كي تمنع اي تقارب بين الولايات المتحدة والثورة الوليدة في مصر ،واثر كشفها انتبه عبدالناصر لضرورة تشكيل (جهاز المخابرات العامه) يكون معنيا بالنشاط الخارجي للدول المعادية لمصر ،وقام بتكليف السيد زكريا محيي الدين بانشاء هذالجهاز ،وكان من رجاله في بداياته بعض الضباط الأحرار ومنهم سامي شرف وغيره،وبعد فترة وجيزة اختار عبدالناصر سامي شرف للعمل معه في مكتبه، وترك جهاز المخابرات ،وعهد اليه بانشاء ( مكتب الرئيس للمعلومات ) ، وقد تمكن من تحقيق ذلك على اعلى مستوى من التنظيم والادارة،ولم يكن ذلك اجتهادا شخصيا منه فحسب ولكن استنادا الى دراسة وتدريب على انشاء مثل ذلك النوع من المكاتب في بعض الدول ذات التاريخ في هذا الميدان ،لا سيما أن تلك الفترة كانت  تزخر بالكثير من المعلومات والتوجيهات والمتابعه ،ولعل من ابرز اعمال هذا المكتب خاصية ربما تفرد بها ،وهي  تيسير قراءة الرئيس للخطابات الوارده اليه من افراد الشعب على اختلاف مواقعهم ومستوياتهم الفكرية والوظيفيه ،وشكاواهم او تعليقاتهم على قراراته،وايضا اقتراحاتهم بشأن توسع حركة الخدمات أو تطوير أدائها ، وكان لتلك الخطابات ادارة خاصه تابعه لمكتب الرئيس للمعلومات، تقوم بتلخيص الخطابات واعطائها رقم، وفي حالة طلب الرئيس للخطاب الأصلي،يمكن بسهولة الرجوع اليه. ولذلك كان عبدالناصر على علم بفحوى كل الخطابات التي ترد اليه ،وكان يعطيها اهتماما شديدا ومتزايدا لمعرفة نبض الشارع الحقيقي ،وتطلعاته ومطالبه وشكاواه حتى الشخصية منها،,وقد اشار

سامي شريف
في استقبال عبدالناصر

عبدالناصر في الكثير من خطاباته الى مايصل اليه من رسائل من افراد الشعب وحرصه على متابعتها . اختلف الأمر مع سامي شرف بعد ذلك ،بعد وصول الرئيس انور السادات للحكم . كان سامي شرف مازال يعمل  في نفس الموقع ،ولذلك قام بسؤال الرئيس الجديد عن نظام العمل الذي يفضله ،وقال له الرئيس السادات يعني ايه نظام العمل الذي اريده ؟ ،ورد السيد سامي شرف( في عهد الرئيس عبدالناصر كان هناك نظاما اتفقنا عليه وكان يقضي مثلا بتقديم البريد له مرتين في اليوم ،وكان لدى صلاحية مقابلته في اي وقت ،وكذلك ايقاظه من النوم ليلا في اي وقت ان دعت الحاجة لذلك ،فهل اتبع نفس النظام مثلا ؟ )قال الرئيس انور السادات ( لا .. كل واحد يشوف شغله حسب اختصاصه ،وبالنسبة لي البريد يدخل مرة واحده في اليوم، ومواعيد المقابلات اقصاها التاسعة مساء ،ولا يسمح بايقاظي من النوم في اي وقت ،كما ان يومي الجمعه والسبت أجازة  لا احب فيهما ممارسة اي عمل ). شهاده اخرى يذكرها الراحل الكبير احمد بهاء الدين في كتابه (حوارات مع السادات) يؤكد فيها شهادة سامي شرف ويعززها .يقول (كلفنى الرئيس السادات عام 1977 بكتابة الخطاب الذي يلقيه في احتفالات ذكرى قيام ثورة يوليو. وقلت له هل اشير في الخطاب  الى مشكلة عماليه في مدينة ( المحله الكبري) وطريقها للحل فرد على الرئيس السادات قائلا ( لا يا بهاء أنا مش عبدالناصر اقوم بالشغل في كل حاجة واتابع اي حاجة . هناك وزراء للصناعة و للعمل ورئيس للوزراء ومحافظ  في المنطقه، وكل واحد من دول يشوف شغله. ويستطرد الأستاذ بهاء قائلا لا أذكر تلك الواقعه لأفاضل بين رئيس ورئيس ،ولكن لأقول هذا اسلوب لرئيس وذاك أسلوب لرئيس اّخر في مباشرته لشؤون الحكم ،دون الحكم ايهما اجدى أوانفع .

سامي شرف في السجن

كان سامي شرف وشعراوي جمعه وعلي صبري ابرز القيادات في العهد الناصري الذين ساندوا انور السادات للوصول الى مقعد الرئاسة ،ضد مجموعة مجلس قيادة الثورة الذي تم حله بعد انتخاب عبدالناصر رئيسا للجمهورية عام 1956 ،ولقد حاول بعضهم مثل البغدادي وكمال الدين حسين وحسن ابراهيم أن يتبنوا عودة اعضاء مجلس قيادة الثورة القديم الى الحكم بدعوى ان القيادة الجماعيه تعوض قيادة جمال عبدالناصر التاريخيه .تصدى ايضا لتلك الدعوة خالد محيي الدين ،وقد كان عضوا سابقا في هذا المجلس، وقال ان مجلس قيادة الثورة أصبح في ذمة التاريخ ،من جانب اّخر كان احتضان تلك المجموعة،ويطلق عليهم رفاق عبدالناصر لترشيح (أنور السادات) باعتباره نائبا للرئيس قد عزز موقفه،وفي مواجهه للسيد (حسين الشافعي) وقد كان ايضا نائبا للرئيس .لكن الأمر لم يستغرق طويلا في هذا الوفاق ،فقد تم التخلص منهم بعد ثمانية أشهر لاغير بل والقبض عليهم . فاتهمهم بالقيام ب( مؤامرة) لقلب نظام الحكم وقدم اسانيدا هزيله، لم ترض عنها النيابة العامه ،فأحالهم الى المدعي الأشتراكي ،وقد استحدث هذا المنصب بعد توليه الحكم ،وقام بتشكيل محكمة خاصة وهي (محكمة الثورة ) لمحاكمتهم باعتبارها قضية سياسية أكثر منها جنائية. قضت المحكمة بالأعدام على خمسة من القيادات الناصرية ،ومنهم سامي شرف ،وقام السادات بتخفيض الحكم للمؤبد . يؤخذ في الاعتبار ان سامي شرف قد قدم استقالته من موقعه كسكرتير للرئيس لشؤون المعلومات عدة مرات،وكان الرئيس السادات دائم الرفض لها. ربما لأنه كان يؤثر ان يقصيه مع رفاقه من النخبة الناصريه،مع تشويههم ،حتى لا يشكلوا معارضه مع اتجاهاته السياسية ،ويشكلوا قوة لها تأثيرها السياسي ضد تطلعاته في التقارب والتجانس مع الولايات

عبدالحكيم عبدالناصر
في عزاء الراحل سامي شرف

المتحدة الأمريكيه ،بل ومع اسرائيل كما حدث . يذكر أن الرئيس السادات حاول الضغط على سامي شرف من اجل الافراج عنه أن يعترف أن الأتحاد السوفييتي حاول تجنيده ابان حكم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر. للتجسس على عبدالناصر،ولكنه رفض ذلك الأبتزاز بعنف ،وفضل البقاء في السجن لمدة عشر سنوات كامله ،وخرج مع رفاقه علي صبري وفريد عبدالكريم ومحمد فائق ،الذي كان قد حكم عليه بالسجن عشر سنوات قضاهم بالكامل سجينا ،ورفض كتابة التماس وطلب العفو عنه طيلة تلك السنوات .

موسوعة سامي شرف

ظل سامي شرف امينا على انتمائه السياسي حتى النفس الأخير.اصدر سبعة كتب دون فيها كل تجربته مع الزعيم الراحل ،وفوق كل ذلك ظل يتابع اي هجوم عليه في اطار الحملات المنظمة التي حاولت النيل من عبدالناصر ،والى الحد الذي اتهمته فيه باختلاس 15 مليون دولار،وهي قيمة الدعم الذي قدمه الملك  سعود للجيش المصري،وذلك بعد  تنازله عن العرش السعودي لاخيه الملك فيصل وقد جرى تحقيق بشأن تلك الواقعه من خلال لجنة شكلت بتكليف من مجلس الشعب برئاسة وزير الماليه الأسبق الدكتور علي الجريتلي ،وقد تم تعقب خروج هذا المبلغ من احد البنوك السويسريه الى ان تم ايداعه  في ميزانية القوات المسلحه. قام سامي شرف بكتابة الكثير من المقالات بأسانيدها ،وعن كل القرارات التي عاصر صدورها في الفترة الناصريه ، وقد رافق عبدالناصر من عام 1955 حتى رحيل عبدالناصر عام 1970 .لذلك استحق عن جدارة ان يكون امينا لمخزن المعلومات،وعن كافة الدوافع والظروف التي صاحبت اصدار الكثيرمن القرارات التي اصدرها عبدالناصر .

قضايا سامي شرف

يفرد سامي شرف صفحاته لمناقشة الكثير من القضايا التي اثيرت في الحقبه الناصريه ،ويستند دائما الى اقوال عبدالناصر وتاكيده على مبادئ جوهرية تشكل اساس سياساته حيث يقول ان عبدالناصر تمسك بمبادئ اساسية وكان الاستقلال ورفض التبعية ليس بوصفها هدفا او غاية في ذاتها ،ولكن باعتبار أن الاستقلال وسيلة أساسية للتنمية الاجتماعية ورفاهية الشعب .ثانيا الانحياز الكامل للفقراء،وللاغلبية الساحقه من ابناء الشعب ودون ان يعني ذلك أي عداءشخصي لأي فرد من افراد الشعب أو الطبقات داخل المجتمع .ثالثا: احتلت قيمة ( العروبه) موقعا متميزا في

واحد من سبعة كتب اصدرها سامي شرف عن عبدالناصر

نظام القيم الذي تبناه عبدالناصر وثوار يوليو ،ولقد كان رصد عبدالناصر في كتابه ( فلسفة الثورة) عن العروبه دليلا على تجذر ذلك المفهوم لديه مبكرا .رابعا السلطه : لم تكن السلطه لديه وسيلة لكسب الأمتيازات أو التحكم في رقاب البشر ،بل كانت أداة للخدمة الوطنية والتضحية وبذل كل مايمكن من جهد وعرق في سبيل رفاهية المجتمع . تحدث سامي شرف عن قضايا عامه تناولها عبدالناصر ،في معالجات وقوانين ،وعن مشروعات قام بانجازها ،وكذلك عن احداث قد جرت ،والقى بالكثير من الأضواء على تفاصيلها ،وكواليس مشاكل قد طرأت ،وسبل مواجهتها .تحدث عن عبدالناصر وقضايا التنمية ، وعن عبدالناصر والتنظيم السياسي ،وعن الأزمة مع محمد نجيب ،وعن علاقات عبدالناصر مع الأخوان المسلمين ،ومع الشيوعيين ،ومع حزب الوفد ،كما تحدث عن عبدالناصر وثورة اليمن وثورة الجزائر ،وعن عبدالناصر والصحافة  والثقافة والفنون . ابعاد كثيره لحركة عبدالناصر خلال سنوت حكمه ،وعمق التغيرات التي حدثت على الساحة الوطنيه في مصر أو على الساحة الخارجيه سواء في العالم العربي او الافريقي وحتى العالمي.تحدث كذلك عن اشتراكه شخصيا في الاعداد لتهريب السيد عبدالحميد السراج من سوريا بعد تهريبه من السجن ،وكان في استقباله على الحدود السوريه اللبنانيه ،ومعه ضابط المخابرات المصريه محمد نسيم ومعهما الزعيم اللبناني كمال جنبلاط ،وبعد وصولهم للقاهرة توجهوا لمنزل الرئيس عبد الناصر في الثامنه صباحا لتناول طعام الأفطار معه ( عبدالحميد السراج وحارسه وسامي شرف). لا يمكن ايضا في تلك العجاله من الكتابه عن سامي شرف،والكتابة عنه تحتاج الى اوراق كثيره ومساحات واسعه ،أن أغفل أنه ايضا كان من المؤسسين  لتنظيم ( المؤتمر القومي العربي ) في لبنان ،وقد حضر بعض جلساته ،ولكن لم يكشف الدور الذي لعبه الكثيرون مع كل من الدكتور خير الدين حسيب ومعن بشور.حتى وان اوردت بعض الكتابات  دور تنظيم (الطليعة العربيه) الذي اسسه جمال عبدالناصر في تشكيل تلك المنظمات التي تنشر المفاهيم القومية وتعميق مفاهيمها . اخيرا وقبل ان اختم اشير في عجالة اخرى للمستوى الاقتصادي لرجل ظل بجوار الزعيم الراحل جمال عبدالناصر ما يقرب من خمسة عشر عاما . يقول الراحل السيناريست ( ممدوح الليثي) سألت السيد سامي شرف ( هل تقرأ جريدة ( الخميس) التي يصدرها ويرأس تحريرها ابنه عمرو الليثي؟) اجاب ( لا .. لا أقرأها فان دخلي لا يسمح لي بشراء صحيفتين في اليوم الواحد ) . وهي اجابة تحمل في طياتها قدرا كبيرا من النزاهة والشرف ،الأنفه والكبرياء . رحل الرجل العفيف النظيف الشريف سامي شرف، وتبقى  ذكراه شهادة لعصر ،اتسم بشفافيته وصدقه ونظافته .