سبع نوافذ للروح

1– جماهير

لا مكان للعزلة.

الصحراء عارية أمام الطائرات،

والغابات تكشفها الاقمار الاصطناعية،

والبيت لا تستره الجدران،

والثياب يمكن محوها بأمر تكنولوجي.

لا مكان، حتى لكلام حميم،

إذ تحيل الكلمات على صراخ الشارع،

والحب حيلة عاطفية

والزواج وعد بالملل.

ليس الانسان وحيداً.

إنه جماهير.

٢- آخر المشي

أنا الهارب ناسياً اسمي.

مشيت حتى الحدود،

وربما تسللت الى وطن مجاور،

عابراً الطرق الزراعية المهجورة.

مشيت ما دمت قادراً على المشي،

مستمتعاً بكوني جزءاً من الطبيعة، عصفوراً يطير أو طيناً يخفق بالماء.

في آخر المشي سكون،

وأهل يستدعونني الى البيت،

ورب عمل الى العمل.

٣- حكمة الطفل

– تلك الكتابة الليلية

عشب يختنق تحت الماء أو يكاد.

كأن الكلمات تكتفي بأشكالها،

بعلاقاتها الداخلية.

وأبعد من ذاكرة اللغة

ذلك الحلم الحي في اول الموت

– الكلمات المسجاة على محفّة

يحملها عبيد القرون الوسطى،

روبوتات عصرنا،

سالكين الطرق الزراعية

الى أعلى الجبل.

تلك الكلمات مائدة الجوارح

والشمس والهواء،

منذورة للطير وفضاء الطير.

وليس بعيداً ذلك الطفل

معزولاً عن الشجرة

عن المعادن.

يحصي أيامه بملل ولا يكبر.

ذلك الطفل

في شقاء حكمته المبكرة.

٤- صوت معدني

كيف تصرخ عروق الحديد ثم تصمت بحنان وحنين.

نحن أمام قصب الحضارة الحديثة تمرّ فيه أنفاسنا لتصير صوتاً معدنياً.

كان صوت القصب نباتياً رعوياً.

كان صوت القصب:

الجاز في المدينة

والناي في الحقول، ولكن:

ثمة خيط مشدود من المحيط الى الخليج.

نمسك بالخيط، يرتجّ بارتدادات صاخبة.

ننظر اليه بحرص خيفة أن ينقطع، فلا تبقى لنا موسيقى وندخل في شوك المجهول.

٥- سنديان قليل

الصخرة هناك تنتظرنا حيث الهواء لم يتغير، والشمس تلمع في بقع مياه خلّفها المطر، والعظايات تخرج من أوكارها لتشحن جلدها البارد.

من هناك بحر قريب وسنديان قليل وظلال اليفة لا تنافسها مرايا مستوردة.

نرفع رأساً أخفضته العلوم السياسية والاقتصادية واللغات المعولمة المقطوعة الصلة باللهاث الأول، باللغة الاولى.

نصرخ عالياً فوق الصخرة العالية، معوضين عن صمت مطلوب وطاعة لا يحتملها وجدان وحرية حبيسة الكتب.

6- عندما يضيق الصدر

يضيق هذا الصدر كأن للهواء ثمناً أعجز عن دفعه، أو كأن دعوة للاختناق ملحة ولا أعرف من يوجّهها. هناك في الطابق السادس عشر من برج في دبي حدثت تجربة الاختناق الأولى، كانت لحظات قليلة للمفاضلة بين الاستلقاء عند الباب أو القفز من النافذة. لم يحدث الوداع وتطاولت اللحظات حتى امتلأ صدري مجدداً بهواء الصحراء النقي.

والتجربة الثانية في بيروت، تشبه الأولى مع فارق الانتباه الى تدبر أحوال العائلة بقدر الامكان وكتابة رسائل الكترونية الى الأصدقاء تطلق بكبسة واحدة.

فما هذا الجسد؟

ننشغل به عن عملنا، عن متعة القراءة والسماع والمشاهدة، ننشغل عن الحماسة والتخطيط وصراع الأفكار.

جسد يولد ليحملنا، ولكن أيضاً لنحمله.

أسأل نفسي كيف يجد أناس أعرفهم وقتاً لقراءة مجلدات ولكتابة مثلها، لعلهم لا ينامون جيداً، أو لعلهم هجروا الأهل والأصدقاء وأقفلوا باب العقل والخيال.

هذا الجسد ما يبقى فوق الأرض أو تحتها. جسد لطقوس الولادة والحب والموت، جسد يشهد للولادة والبعث، للتحول، جسد هو آلة للعبادة وربما ذلك سبب وجوده. جسد لا يستطيع التحدي. جسد هشّ تتركه الروح ولا تأسف. جسد متروك بلا صاحب. لا مجال لادراك العلاقة بين النفس وهذا الذي يلمس ويلمسونه ويؤول الى تراب.

يكفي أن يضيق الصدر، يقفل ثم لا ينفتح. نسمة واحدة هي النهاية.

7- بلا عودة

وحيداً في طريق الحارة الفوقا، حيث جامع متواضع قريب من السماء وثلاث سروات عاليات في حديقته. وحيداً والشمس من ورائي. تعبر سماء التلة ثم تغرق في البحر. أكاد أختفي بدوري في رماد الضباب ولكن، بعد خطوات، أرى البيت الحجري كما توقعت ونافذته الوحيدة. أتأمل لأتخيل، لكنني أراها حقيقة، شعرها الكستناء المنسدل ووجهها يهدل بفرح اللقيا، لا حاجة ليد تلوح إذ يكفي الوجه وتلك العينان. اقترب من النافذة يداخلني قلق: هل تطل بشكل عادي لترى أي شخص يعبر أم انها عرفت بعودتي فأنهت عزلة طالما وصفت لوعتها في رسائل مهربة تلقيها في غربتي؟

ولا شيء حقيقياً في جولة الحارة الفوقا، صورتها من النافذة كانت حركة نبات بريّ داخل ذلك البيت المهجور.

لم تكن الحبيبة بل نبات وحشي خلف النافذة، يحيا على مطر، على شمس تحنو، نبات لا يكتب يومياته في دفتر مجلد بعناية. لكنني في جولتي الخائبة كنت أستطيع رؤية الحبيبة في مكان النبات، أقترب من النافذة ممسكاً بأصابعها المتدلية مبتسماً لوجهها العالي ينهمر حنانه شلال نور.

أتكون سافرت الى مكان أجهله أم غادرت دنيانا. لا أستطيع السؤال في قرية هاجر معظم أهلها وحلّ في مكانهم غرباء. والحارة الفوقا هناك تكاد تكون مهجورة لا أحد يقصد خرائبها.