من حصاد بيروت صيف 2023

ها هي بيروت بحصادها بين أيديكم. بيروت الطفلة المتسوّلة للهدوء تلعب في الساحات بالمسدسات والأزقة الغريبة الوجوه والمتنوعة الأحلام. تفكّر بالسهوب الخضراء فوق رمال الشرق، وتبقى تتظلّل الصنوبرة العتيقة العارية في شارع مدام كوري في رأس بيروت. صارت بيروت مثل أشواك الصبير تتناسل أجيالاً تعلق بأصابعنا وبقلوبنا أبد الدهر تبحث في مجاهل الأمم عنها لشدّة ما أحببناها وقسونا ونقسو عليها.

لست بآدم لتُخرجك حوّاء من ضلعها الملتهبة، لكنّ حنينيكم للعاصمة التي ولّدتني وتولدكم يتكاسل ويحفّ الرؤوس المرهقة العاجزة عن حماية طفولاتكم وشبابكم وحياتكم وحضارتكم ومدينتكم العربية المقهورة وقد سمعت دعواتكم من الكويت وقطر والسعودية والبحرين لخروج أولادكم من هناك مع أنّ بيروت تتسامر والعراق وسوريا وفلسطين المخيمات في عتمة السياسة بينما لبنانكم المهاجر يُضيء الدروب لكنّ المقيم يسكنه الأنين.

أشمّ الحصاد من بيروت هذا الصيف حزناً وعشقاً لسجونها المفتوحة الأبواب وعيون خائرة بالفقر تتربّص المصطافين والمهاجرين يقلبون الصور في زواج الجنة والجحيم. لماذا؟

لأنّني أبحث عن لبنان المُقيم لا المغترب، وأغطّ ريشتي وأصابعي في جروح أسماكنا لا في جنون مقاصفنا ومراقصنا السريعة التبخّر خلال الصيف الطافح بالحرارة والحرائق. أكتب حصادي مقدّماً لكم بيروت فوق أطباق أطفالي يتطلّعون نحو مقاصف الحنين المستورد لتصير بيروت بيروتين وأكثر. إنّني أشهد أمامي ريشةً لا عاصمةً تولّد نصّاً، لكنها تغطّي سنابل القمح المحصودة الشاهقة من لندن إبتسامات وأشواقاً لمدينة تظنّها كلّ يومٍ قد شاخت بالمصائب والغرائب، لكن الحبر يتعرّق إذ يسحبها من رحم الواقع المرّ والذكريات العصيّة.

من يرمّم جسد بيروت الممزّق ويمسح وجهها نحو الدنيا ؟  من يفهم هموم بيروت وقد إمّحت أبوابها وضاع مفتاحها العتيق؟

من يكشف أقنعتها ليعيد تفصيلها ملامح للتاريخ وللحضارة والعروبة من ألفها الى يائها؟ بيروت غلال الحصاد وعطاءاته الحضارية والثقافية من العراق نزولاً إلى كلّ بلدٍ وقريةٍ عربية تنشد فوق الصواني حبّاً وفكراً وقامات شعوبٍ وقياملتها. حاكوا لها من جديد هياكل جعلتنا نظنّها تزحلقت في التيه، لكننا لقيناها أبداً في الوجدان. نعم، تقيم بيروت في الأزمنة إذ يستقبلك البيت المتطّلع نحو الشرق يقصده العطاش من أصقاع الأرض بمشرقها ومغربها، لتعقد الخناصر والألسنة وتتزاوج الأعراف والتقاليد والقيم من كلّ صوب معارضين ومعتدلين، وكأنها تتآلف في الرحم الأوّل ثمّ تطلق صرختها الأولى بصوتٍ واحد: بيروت يا رحم العرب.

سيفرح الكثيرون مثلي ممّن أضاعوا بيروت، وآلمتهم ثقوب الذاكرة بعد تغيّر المشهد. لعلّهم محقّون بعدما كدنا نجد عاصمتنا صورا رمادية مشتّتةً ً موشّاةٍ بالحزن والحنين يجمعها رسّام هاوٍ أو يصفّها نحّات فوق جدارٍ لا يتسّع أزميله لزفرةٍ من ياسمين الصباحات هناك. لعلّهم على حقّ وقد شئتها مقالاً عاقد الأزرار شعراً منثوراً في زمانٍ لا قرار له ولا بصمات باقية سوى ما سقط من ذمّة بيروت. هذا حبر يلملم ابتسامات طفولة المدينة ويرمّم معالمها الغنيّة وأسواقها المتعدّدة التي كانت لا تنام إلاّ وأشجارها وبساتينها الراقصة وأزقتها وكنائسها ومساجدها المتعانقة ومقاهيها وموانئها المُقيمة أناشيد القلوب وأعيادها في الملاعب والساحات وووو….وحتّى تصرخ الواو فرحةّ بقيامة هذا السجل الأمين بين أيدينا، كلّ هذا يجعلنا نقول أنّ وثيقة وطنية حنونة تهمس في كبريائنا جميعاً:

لا تمحوا رموزكم. نعم لا تمحوا رموزكم ومعالمكم ولو لم يُبقِ الغزاة حجراً منها. لماذا؟

لأنّ الناس، غالباً ما يرفعون فوق جدرانهم صوراً لمدنهم لا بهدف الزينة والتمدّن والدعاية السياحية فقط ، بل بهدف تغطية الشقوق التي تعتور الجدران العتيقة بتقادم الزمن أو بشهوات الحروب الداخلي والخارجي والتكسير والتدمير، ولأنّ الناس، واللبنانيون منهم، هشّموا مدينتهم ورموزهم بطواعيتهم وانفعالاتهم وانقساماتهم وبقي الوطن فيهم الحنين الى رائحة بيروت وعواصم العرب الجميلة المهجورة اللاهية بضفافها فوق بحيرة المتوسط والتي تطرّز الحياة الباقية أبداً في أوسع من الرافدين في مسام الروح والحبر.

يمكنني الملاحظة أنّ الشروخ قد تقوى بين الآباء والبنين والمذاهب والطوائف مع انفتاح النوافذ على مصراعيها ودخول الخارج متعدّداً إلى دواخل الداخل ، لكنّ هذه المعضلة الشاقّة ستبقى معصيّة وكوارث وطنيّة وقومية نحرسها بالرموش.

ستبقى بيروت كما عواصم العرب المقهورة والمخطوفة من فوق أسرّتها وحضاراتها مثل تفّاحات نيوتن بصيغة الجمع مع أنّ نيوتن وبتفاحته الوحيدة سحب قانون الجاذبية، لكنّ تفّاحة بيروت وعواصم العرب المُربكة ستبقى  تجرح رؤوسنا وطاقاتنا ومنها سنبعث الجاذبية العربية المنهارة بين الأوطان والمواطنين ومؤآنسة التاريخ الى حدود نقش المثل ومعالم الآباء والأجداد والمدن لا محوها أو كتابتها فوق الجدران.

ستنسحب هذه المعضلة على أسماء الشوارع والساحات في بيروت سواء أكانت باقية منذ بدايات التاريخ وتعثره أكوام حجارة وبقايا أسواق أو صنوبرة يتيمة، أم شمطت تسابق أبراجٍ مجنونةً هستيرية وعشوائية متقدّمة في بلاد العرب تقليداً لبرج بابل وغابات الإسمنت المزدانة بالقباب والقصور المستوردة والمحشوّة بالسيّارات الداكنة الزجاج وصالات السينما و”البوب كورن” أو البوشار والعنف والجنس المعلن أو المكشوف في ما يشابه الجادّات الأمريكية والبريطانية والغربية في أنماط الحياة .

يتثاءب قلب بيروت هذا الصيف ساحة كبيرة رفعها الرئيس رفيق الحريري لمؤآنسة شهداء الاستقلال المنخور نحاسهم برصاص الحروب، وتُرفع فوق اللوحات الرخامية التواريخ والأسماء الرمزية، لكنّ التماثيل ضجرت سيدّي الشهيد، مع أنّ المتظاهرين يعربشون كلّ يومٍ فوقها تحدّياً للحالي أو هرباً منذ ال2019 بحثاً عن ثورةٍ أو حراكٍ أو تغيير يقلب حصادهم الفارغ. ستبقى تلك المعالم ثرواتٍ عمرانية مجهولةً كليّاً من الذين يرتادون يومياً “شارع مونو” أو “الزيتونة باي” أو “الجمّيزة” بعرباتهم التي تتجاوز أثمانها الخيال لشهر صيفٍ أو أكثر.

قالت لي التماثيل الخاصة بشهداء الإستقلال والتي مزّق الرصاص نحاسها: أكتب واختم بالحروب اللبنانية التي حوّلت ساحة البرج إلى “الداون تاون”.