ستون على الغياب ، مائة على ولادة عمر الزعني  

الأغنية الممسرحة 

عبيدو باشا 

ستون عاماً على غياب عمر الزعني . مائة وعشرون على الولادة ، ولا يزال أحد لا يستطيع أن يطوي ما أنجزه الرجل لا في خزانة ولا في ثغرة في جدار غرفة . ذلك أن عمر الزعني ، صاحب النظرة الواثقة ، صاحب النظرة المرتابة ، لم يتهاد أمام المايكروفون كأي مطرب من مطربي المقاهي والفنادق ، حين وجد أن لبنان في الطريق إلى الهاوية . أشعل الرجل النار في منازل السياسيين ومكاتبهم المرهفة وهو يهز حواسهم بالكلام على مقاومتهم . لا هم وحدهم فقط ، لأن الزعني قاوم العواصف الإجتماعية كما قاوم العواصف السياسية . كأن أغنيته أغنية مكتوبة بالأبيض والأسود ، جعلها على موسيقى بالأبيض والأسود . أورقت أغنيته مؤمناً بموته لا بموت لبنان . غير أنه لم يوفر لحماية هذا البلد المصطك ، منذ التأسيس كالأواني ، من خيول آل فرعون إلى عندك بحرية حيث انتقد شارل دباس أول رئيس لجمهورية لبنان الكبير وصندوق الفرجة . كل أغنية نخلة تواجه عواصف صبا عمر الزعني إبن التاجر البيروتي في منطقة السور .

وصل الأغنية إلى حد أنها بدت كالبصمة ، من يسمعها يعرف أنها أغنية عمر الزعني . حيث تبعه الناس كما تتبع العصافير الأغصان .الأجمل في أغنية الزعني أنها كالمائدة ، ما أن تلمح عليها الطعام حتى تجوع من قواها التعبيرية. بالأغنية صور ، بالأغنية ألبومات من الصور بالأسود والأبيض . الأبيض والأسود دوماً، ما يذكر بالسينما المصرية حين نام الناس واستيقظوا على السينما هذه . ارتجف السياسيون على وقع أغنية الزعني ، ولم يتعب الناس من سماع الأغنية وهي تبدو كمصباح في سقف . ذكر السينما  المصرية لأن أغنية الزعني  نادتها الأغنية المصرية كما نادت الأغنية المصرية . مطلع أغنية بيروت تقول للأغنية المصرية من أجلك سمعت عالياً كل شرائط الموسيقى ، كل شرائط الأغنيات . قربه من الأغنية المصرية كقربه من سريره .كما أن أيام حبه لبعض فصول الأغنية والموسيقى التركيتين. بيد أنه في عمله على الأغنيتين لم تتعرق يداه ، حيث أسدل  الإحساس البيروتي على هاتين الوديعتين الهامتين بأغنية الزعني ، من ناداه الرؤوساء والوزراء باسمه من قدرته على إسقاط نجومهم من سمائها .

 ولد عمر الزعني  بالعام ١٨٩٨ وتوفي بالعام ١٩٦١. لم يبحث عن حياته طويلاً حتى وجدها بالأغنية ، بعد أن خدم بالجيش التركي وعمل مدرساً في بيروت ودمشق . لم يجذف لكي يصل إلى الأغنية ، لمَّا وجدها كما يجد الحبيب حبيبته . هكذا تلا عالياً ما أحسه وما فكر به ، ليصحو السياسي مكتئباً بالليل وليسمع المواطن أنينه في هذه الأغنية وهي تجدل الكلام على التقوسات الإجتماعية والسياسية . لو كنت حصان واحدة بيت فرعون جلوس عال ٍ على الكرسي الإجتماعي ( لو كنت حصان ببيت فرعون / باكل بندق باكل فستق / ما بنام حوعان ).أغنية نقد ، أغنية هجاء ، أو أغنية قنص بالنيران الصديقة. أغنية عمر الزعني ليست أغنية سياسية في جزئها السياسي، أغنية لا تهجر وهدة نشأت فيها ، وهدة الكلام على السياسة لا ابتداع صنف يغنى في حلقات الرواة بوصفها أغنية تستيقظ كغزال لاكبومة.

لاعلاقة لأغنية الزعني إلا بالأحلام. أغنية تلتهم القضايا النائمة ، بدل أن  تشتبك لا بتغيير تسريحة شعر المونولوغ . إلا أنها تبقى أغنية طائر لم تخذله أنثاه ، لم تخذله أغنيته . لهذا بقيت ، لهذا تبقى وستبقى ، من ملء الخراب بالإبتسامات الباردة والساخنة . ولأن الزعني رجال حالم بأغنية حالمة بالتغيير على أرض ، لا يهزها  أحد إلا الزعني. عمر الزعني رجل ضد البله، ضد الغموض. رجل لا يرتدي خوذة لكي يذهب إلى الحرب . ولأنه ضد الغموض، ضد البله،  لم يرد أن يطرد ، أن تطرد بلاده من جغرافيا البلاد. هكذا وجد وجه كل مختل فؤاد . المختلون كثر. سلطات وأفراد وهيئات ومظاهر وعيون وعقول. تلك مرحلة انصلبت فيها البلاد ، على التوابيت. احتلالان متتاليان . اختلفا على كل شيء ، إلا على القشلة . هذا جزء من التاريخ القديم . عمر الزعني من التاريخ القديم . بيد أن صوته لم يضع، لا يضيع في المناداة.هكذا لم يفقد سطوته بقديمه على الوجوه الجديدة.هكذا هو كل من هو ضد التهافت. ومن هو على هذه الصورة لا يفقد وهالته على الأوضاع ولو مر زمن شد البلاد من شعرها المجنون.

 المدهش أن أغنية الزعني، أن مونولوغاته، أغنيات ومونولوغات غير متعسفة. لأنها تمتلك جمالياتها . كأنها أقوال مجودة . تجويد لا علاقة له بتجويد الشيخ إمام لألحان أحمد فؤاد نجم . يجود الشيخ سور القرآن . هذا من روايات حب الكتاب . غير أن التجويد يصل إلى حد الهذيان بالكثير من الأحيان . حيث أن استعماله ، لا يحرم الأغنية رهافتها، بل يحاول أن يردي الأغنية بذاتها مع السعال والصراخ والتنشيز المقصود . أو استعمال أصوات بعض الهواة بدون قيادة لاستعمالهم . لأن الغاية من الإستعمال التأكيد على أن الأغنية ليست جسداً مقدساً وأن يقرأ الأغنية أو مجودها أو من يتلو نصها لا عليه سوى أن يفصح عن الكلام . فقط أن يفصح عن الكلام . حيث لا تنتهي حرب الأغنية حتى يستبد التعب بالجميع . انتاج الأغنية حربٌ، الإحتراف حربٌ بالحرب . لا يرغب عمر الزعني في أن يردي أغنيته ولا أن يلطخ فستانها بالوحل . ولا أن يهديها شالات من حرير . أغنية الزعني من نحاس ، من قسوة على آخر ما تبقى من ضوء في آخر النفق . لذا ، قادته إلى السجن ، حيث اختفى مراتٍ كما يختفي سمان في ادغال القصب . تخترق أغنيته الظلام بسجيته ، بعد أن تلمع في وجدانه ، ثم في عينيه . غير أنه لا يناور حين يتركها بأحيان طويلة ، كما لو أنها متروكة على ارائك في الحديقة كالشراشف أو الملاءات المغسولة لكي تنشف تحت ضوء الشمس . إذ يترك أجزاء منها للتلاوة ، بدون موسيقى . كلام كمن يتلو حكاية في شلال من الرومانسية . “بيروت “نصه الأزرق . بيروت زهرة بغير آوانها /بيروت محلاها ومحلا زمنها  بيروت يا حيفا ويا ضيعانها . أغنيات مباشرة ضد الجفاف ، أغنيات ضد الظلام . وأغنيات تفتح نفسها على اللعب على الكلام (شم الهوا / أكل الهوا). أغنيات حرب على الهوان . أو  مونولوجات تفصح عن ذروة من ذرى الفن البيروتي .أو فن المدينة. أغنيات رموز. بعض الأغاني أيقونات  . قدم شكوكو مونولوغات كثيرة . رجل ظريف ، غير أنه لم يمتلك شغف البناء. شغف البناء عند عمر الزعني يتلازم والبناء. الزعني بناء.ولأنه بناءوقف على تقاطعات البلاد التراجيدية ، بين المراحل والأزمنة. ناهضت أغنيته كل خيالات المحتلين . ناهضت حضورهم على أرض الواقع. أوان بأوان . أغنية الزعني أغنية أوان . مونولوجه مونولوج أوان . ابتعدا عن العبث، بصالح التصدي للعبث بمصالح البشر. لم يحسب نفسه على طائفة ولا على طائفة. هذا رجلٌ وفيٌ لكل ما له علاقة بالتربية لا بالتعليم. الإحتلال عنده ، احتلال بندقية واحتلال السذاجة لعقول  المواطنين وعسف السياسيين . إسماعيل ياسين مونولوجيست كشوكوكو  ، غير أن مونولوغاته بعيدة من مونولوغات الزعني. مونولوغات غير منقطعة عن الجذور ، بمخزون وعي هائل. 

قاتل عمر الزعني العالم البوليسي بالفن . قاتل بالكنه والغاية. لذا ، ارتقت أغنيته،كما يرتقي بشري بحياته ، بعيداً من الآلهة الخفية. مدهش هذا الرجل ، إذ أراد أن يحسّن النوع، حتى وجد ذاته في كتابة نوع آخر، يقوم على دمج الأجناس. الموسيقى والكتابة والآداء والروح والمنطق . منطق بساطة بأحيان و تبسيط بأحيان . لا ضرورة لتكرار الكلام على الفرق بين الإثنين . التبسيط كلام على السطوح . البساطة صعود  . صعود إلى أعلى المنارة. تتغير الظروف ولا يتغير الرجل. يتغير وجه الإحتلال ولا يتغير الرجال . رجل بنصوص لاتنتمي إلى المجموعة الكونية للنصوص ، إلا حين يتداخل النص بالموسيقى. نص متباسط ، فقير بلغة الصراع الطبقي ، حتى يدخل بالموسيقى( زياد الرحباني قريب من تجربة الزعني بأجزاء من الأغنية هذه ). موسيقى نضجت بنضوج الظروف. بنضوج الرجل. نضجت الأغنية بظهور المسرح عليها. مسرَّح الرجل الأغنية. المسرح الحاضنة اللاإصطناعية لأغنية الزعني. لا غرابة بذلك. ذلك أن الرجل حدث الأغنية بالمسرح وحدث المسرح بالأغنية. الدراما عُرف الأغنية. لولا المسرح لما تقدمت الأغنية. لولا الأغنية ، لما وجد الزعني دوره بعصف المدينة . بحياة المدينة العاصفة. أغنية لا تقع ولا تجنح إلا إلى الرفعة البشرية، ولو أن تفكيكها العلمي والضروري لم يحدث بعد . ذلك أن كل من حاول قراءة الأغنية تحسسها لا قرأها . وهذا نقص بحاجة إلى تعويض . 

  اليوم العالمي للإذاعة

لا يزال العالم يعامل الإذاعة وكأنها تعيش في عالم بارد ، حين تعيش وسائل الإرسال الأخرى في عالمها الدافئ. التلفزيون في المقدم . بالرغم من الإذاعة المليئة بالنسيان ، علمت الوسائل الأخرى المشي على أرض الواقع ، حين وجدتها أمامها كأولادها. مذاك لم تملك سوى الفراغ والوحدة. انتهت حرارة الإذاعة مع حزن الإذاعة على ذاتها . تركت الأمر على غاربه ، حين راح مشاهدو التلفزيون يمرون من ورائها ومن أمامها . يلتقطون بضع جمل . سوى لا يقوون إلا على العودة إلى نشرات الأخبار  والتقارير المصورة وبرامج التوك شو ، التاركة قتلاها من دون دفن . 

لا ذكاء في الأمر هذا . لأنه لا ينبغي أن نتذكر ، ينبغي أن لا ننسى حتى لا نتذكر أن الإذاعات لا تزال تسبح في حياة المواطنين في بحرها الأوسع من بحر أي بحر آخر . إنها تمتلك على الأقل القدرة على أن تدفع المستمع إلى التخيل في في عصر سيادة المادة . ثم أنها تمتلك ، بالعودة إلى سباحة الإذاعة الواسع في الحياة ، أنها الأعظم في أوقات الذهاب والعودة من العمل إلى المنزل أو العكس ، أو في رحلات السيارات الطويلة أو في الرحلات الطارئة والمفاجئة.    

عدد مستمعي الإذاعة يفوق اعداد مشاهدي التلفزيون . هذه قضية لالبس فيها بحسب الإحصاءات المنشورة في بلاد أوروبا وفي عواصم العالم العربي . 

مد الإذاعة على وسع الخيال . لا يخفي بها أحد وجهه كما يحدث حين يشاهد أحدهم التلفزيون ، حيث الموت الواقعي واللاواقعي للحواس . الإذاعة ملكة الحواس . الإذاعة هذا الحضور الغامض ، رأس الغبطة على الطرقات والأوتسترادات والأحياء الداخلية ، العبور الواثق من  الطرف إلى الطرف . لن تشدها الأرض إلى الغيبوبة . ولأننا نشهد ، الآن، ثورة حقيقية ، في كيفية نشر المعلومات والحصول عليها، باتت الإذاعة ، في خضم التغيرات الجذرية الهائلة، التي يشهدها العالم في الوقت الحاضر، أكثر أهمية ونشاطاً وتشويقاً، مما كانت عليه في أي وقت مضى. وهذه هي الرسالة التي تود الأونيسكو التأكيد عليها.

1- تعد الإذاعة في الأوقات الصعبة والأحوال العسيرة ، الحقل الدائم القادر على الجمع بين مختلف الأفراد والجماعات . إذ تظل الإذاعة ، في جميع الأوقات والأحوال ، سواء أكنا في طريقنا إلى العمل أو في مكاتبنا أو في منازلنا أو حقولنا ، سواء في زمن الحرب أو السلم أو في حالات الطوارئ، مصدراً مهماً للغاية للمعلومات والمعارف ، يشمل مختلف الأجيال والثقافات . 

2- تدعو الأونيسكو ، الجميع ، باليوم العالمي للإذاعة ، إلى الإرتقاء، بقدرة الإذاعة، على تعزيز سبل الحوار والإصغاء ، التي نحتاج إليها ، للتصدي للتحديات التي تواجهها البشرية جمعاء. 

3- تتيح الإذاعة للناس كافة ، رجالاً ونساء ، التعبير عن آرائهم ، وتعمل على تبليغها. 

4- تصغي الإذاعة إلى الجماهير وتسعى إلى تلبية الإحتياجات الخاصة بها. وهي وسيلة فعالة للذود عن حقوق الإنسان وصون كرامته. ووسيلة فعالة لإيجاد الحلول للمصاعب التي تعترض سبيل كل المجتمعات.

5- الإذاعة عالمي بيوم الإذاعة العالمي. 

6- وافق المجلس التنفيذي لليونسكو على اعتماد اليوم العالمي للإذاعة في ١٣ شباط من كل عام . وقد جاءت فكرة الإحتفال بهذا اليوم من قبل الأكاديمية الإسبانية للإذاعة. وجرى تقديمها رسمياً من قبل الوفد الدائم لإسبانيا لدى اليونسكو بأيلول من العام ٢٠١١. 

7- تم إقرار اليوم العالمي للإذاعة في شهر ديسمبر  ٢٠١٢، من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة . 

العدد 114 / اذار 2021