شاي

سهير آل ابراهيم

يتربع الشاي على عرش أفضل المشروبات لدى الكثير من الشعوب، فهو المشروب الأكثر شعبية في العراق مثلا، ونسمع الكثير من النوادر عن احتساء العراقيين للشاي الساخن تحت حرارة شمس صيف بلد الرافدين اللاهبة.

في زمن الحصار الذي فُرض على العراق، كان الشاي مادة من مواد الحصة التموينية، لانه بالنسبة للعراقيين مادة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها. ولشرب الشاي طقوس تكاد تتشابه لدى العراقيين في كافة أنحاء البلد، فهو الحاضر على كل مائدة وسفرة، والمُرافق للكثير من وجبات الطعام، عدا عن شُربه بعد الوجبات وبينها.

عُرف الشاي اول ما عرف في الصين، حيث تخبرنا واحدة من الأساطير القديمة عن الإمبراطور الصيني شِن نانغ عندما كان جالساً تحت شجرة بينما كان خادمه يغلي له بعض الماء للشرب، وفي اثناء ذلك سقطت بعض وريقات من الشجرة في الماء المغلي. كان الإمبراطور مولعا بالأعشاب شغوفا باكتشاف فوائدها الصحية، لذلك قرر ان يجرب ذلك المشروب الذي تكون أمامه بدون تدبير مسبق. تقول الأسطورة ان تلك الشجرة كانت شجرة الكاميليا الصينية، وذلك المشروب هو الشاي، اما تاريخ الأسطورة فيعود الى عام 2737 قبل الميلاد. يذكر المؤرخون انه من الصعب جدا، او ربما من المستحيل، معرفة ما اذا كانت تلك الأسطورة تستند على واقعة حقيقية ام لا.

عثرت التنقيبات الآثارية في الصين على الشاي مخزونا في حاويات داخل قبور تعود لسلالة هان، والتي حكمت الصين في الفترة ما بين عام مائتين وستة قبل الميلاد الى عام مائتين وعشرين بعد الميلاد. ولكنه لم يصبح المشروب الشعبي في الصين الا بعد ذلك ببضع مئات من السنين، وبالتحديد في فترة حكم سلالة تانغ، التي امتدت من القرن السابع الى القرن العاشر الميلاديين، حيث اصبح الشاي المشروب الأكثر شعبية هناك. ويُذكر ان اول كتاب يتحدث بمجمله عن الشاي كان قد صدر في أواخر القرن الثامن الميلادي بجهود واحد من الكتاب الصينيين. في تلك الفترة انتقل الشاي الى اليابان بواسطة النُسّاك البوذيين الذين كانوا يذهبون من اليابان الى الصين للدراسة، لتشكل  طقوس تناول الشاي بعد ذلك جانبا مهما من جوانب ثقافة المجتمع الياباني.

وصل الشاي الى البرتغال اول وصوله الى اوروبا، عن طريق التجارة مع الشرق الأقصى والبعثات التبشيرية التي كان البرتغاليون يقومون بها، فقد ورد ذكره بشكل مختصر في بعض مصادرهم التي يعود تاريخها الى النصف الثاني من القرن السادس عشر. ولكن الفضل في اتساع انتشار الشاي في اوروبا يعود الى الهولنديين الذين بدأوا في نهاية القرن السادس عشر بإيصاله الى هناك بكميات تجارية. مع بداية القرن السابع عشر كانوا قد اسسوا محطة تجارية في واحدة من جزر الارخبيل الاندونيسي لتصدير الشاي الى اوروبا، وقد تم إرسال اول شحنة شاي من الصين الى هولندا عن طريق تلك الجزيرة في السنة السادسة من ذلك القرن، ومنها انتقل الى باقي دول اوروبا الغربية.

يُعتقد ان دخول الشاي الى بريطانيا كان في مطلع القرن السابع عشر، حين تأسست شركة شرق الهند البريطانية والتي احتكرت التجارة مع الهند والشرق الأقصى، ولكن اول تاريخ مدون للشاي هناك كان في اعلان لأول مقهى افتُتِح في لندن عام 1652م، حيث أشار ذلك الإعلان الى توفر )المشروب الصيني( في المقهى.

يعتبر الشاي المشروب الأكثر شعبية في العراق، رغم انه لم يصل الى بلد الرافدين الا بعد ألوف السنين من ظهوره اول مرة، فقد عرف العراقيون الشاي بعد الاحتلال البريطاني للعراق عام م، وسرعان ما احتل مكانة مرموقة لديهم.

توجد في الصين شجيرات تستخدم في إنتاج نوع من الشاي يسمى دا هونغ پاو، والذي يعتبر الاغلى في العالم. في عام م دفع احد الاثرياء مبلغا يقارب الثلاثين الف دولار أميركي لشراء عشرين غراما من ذلك الشاي! تصف احدى السيدات ذلك الشاي بأن له قلب بوذا، وسعره مناسب لإمبراطور رغم ان شكله يبدو وكأنه شاي للفقراء والشحاذين. تعمل تلك السيدة في مزرعة الشاي التي تعود لاهلها الذين يعملون في انتاج الشاي منذ عدة أجيال. في بداية الربيع من كل سنة تذهب تلك السيدة وعائلتها الى الجبال للدعاء والطلب من إله الشاي المسمى لو يو، ان يُنبت في أشجارهم براعم جديدة.

يمكن الحصول على شاي دا هونغ پاو بأسعار معقولة، اذ يباع الكيلوغرام الواحد من بعض تلك الأنواع بسعر لا يتجاوز المائة دولار أميركي. لكن تلك الأنواع لا تكون مأخوذة من الأشجار الأصلية القديمة، والتي تتواجد على المنحدرات الوعرة في أعالي الجبال. تتميز تلك المنحدرات بتواجد الأحجار الكلسية، كما ان أحجارها غنية بمعادن اخرى والتي تعطي ذلك الشاي نكهته المميزة. اصبحت تلك الأشجار نادرة الوجود وذلك يفسر سبب ارتفاع سعر الشاي المأخوذ منها.

سعت شركة شرق الهند البريطانية الى احتكار التجارة مع الهند والشرق الاقصى، وكان الشاي من ضمن المواد المستوردة. حاولت الشركة الحصول على الشاي بأسعار زهيدة لأجل تحقيق اعلى مستوى من الأرباح،  وكانت الفكرة ان تتم زراعة أشجار الشاي الصينية في الهند. كانت الهند آنذاك مستعمرة بريطانية، ولم يتمتع الشاي الهندي بنكهة الشاي الصيني الذي اصبح مرغوبا في بريطانيا بشكل كبير. ولذلك الغرض تم إرسال احد المختصين بعلوم النبات الى الصين، وكان ذلك في عام 1849م. كانت مهمة ذلك الشخص سرية، الهدف منها سرقة حبوب او شتلات اشجار الشاي، وبالتحديد شاي دا هونغ پاو، ونقلها لزراعتها في الهند، وعندئذ يقل او ربما ينعدم اعتماد بريطانيا على الصين في الحصول على الشاي!

اختار ذلك الشخص الإقامة في معبد قريب من أشجار دا هونغ پاو، ومن خلال احاديثه مع النُسّاك في ذلك المعبد تمكن من الحصول على المعلومات الضرورية لزراعة وانتاج الشاي، كما تمكن من سرقة حبوب وشتلات من تلك الأشجار، والتي نُقلت الى الهند وتمت زراعتها وتكثيرها كما استخدمت لتحسين انواع الشاي الذي كان ينتج في الهند آنذاك. وكانت تلك بداية نشوء تجارة الشاي والتي تقدر قيمتها اليوم بالدولار الأميركي بالمليارات .

ربما يكون شاي دا هونغ پاو هو الاغلى في العالم، ولكنه ليس الاغلى بالنسبة لي، فذلك الشاي الذي كان ينضج بهدوء على فوهة السماور في حديقة دارنا، في هدأة تلك الأماسي الندية البعيدة، هو الأطيب نكهة والاغلى على قلبي بلا منازع.