عصام العبدالله صوت شُرِّعَ على الحياة

اصرّ على قوة اللغة المحلية في ايصال الصور الشعرية الى الناس

بيروت من ليندا نصّار

هكذا حزم عصام العبدالله عدّة الشّعر ورحل تاركًا كلمات شريدة عند شاطئ بيروت لعلّها تتابع رسالة بدأها منذ وصوله إليها من ضيعته »الخيام« في جنوب لبنان، وهي تحويل التّشوّهات إلى جمال في هذا العالم الّذي حكمته الأوجاع، وغلبته القسوة منذ فترات الحرب اللّبنانيّة وما رافقها من مأساة وصولًا إلى آثارها الّتي لا تزال تسكن عقلنا اللّاواعي حتّى اليوم.

كلمات عصام العبدالله طارت بمعانيها العميقة وأحاطت بالإنسان والوطن والمدافعين عنه، ونذكر هنا قصيدة معروفة عبّر الفنّان مرسيل خليفة عن إعجابه بها عبر التّلحين والغناء. تقول القصيدة المغنّاة: »ما بعرفن ما شايفن، لفوا وجوهن بالقهر، خبوا سلاحن في الوعر، خبوا أسامين، ما في حدا بيشوفهم، إلا إذا ماتوا، وتعلقوا مثل التحف مثل القمر، عم ينخطف، ما تعدهن صاروا عدد، مثل الخطر، مارق عسهل الجمر، وبيعد دعساتو«. جعل الشاعر الراحل عصام العبدالله من الشعر امتدادًا لحياة الإنسان، وتعبيرًا عن مشاعره بأفراحه وأحزانه، وقد

عصام العبد الله رحل تاركا كلمات شريدة
عصام العبد الله رحل تاركا كلمات شريدة

واصطبغت رؤيته للشّعر بمحبّته للعالم، وقد عبّر عن ذلك بوساطة التّصوير الشّعريّ فأخذنا في رحلة عبر الخيال الجامح على متن القصيدة.

المدينة افتقدت من كان يواعدها كلّ صباح عند البحر، ومن كان يسكّن ألمها بعد أن تلتقيه ليلًا في أعماقها، وذاك المقعد الذي كان يجلس عليه، صار يتيمًا. يوم رحيله كان من المرّات الأولى الّتي يسجّل اسم عصام العبدالله على لائحة الغياب القسريّ، والموت لم يخطئ طلقته هذه المرّة.

جالس عصام العبدالله، الأصدقاء، والشعراء، والكتّاب، والفنّانين، وكلّ من أحبّ الشّعر والكلمة، برفقة السّماء والبحر والغيوم والأمواج التي أحاطت به في المقاهي الّتي قصدها، وعبّرت عن عاصفة حزن في داخله، ما لبثت أن تحوّلت إلى فرح وحركة وحياة، وطبعت ذكرى يحتفظ فيها محبّوه بعد رحيله. لقد بثّ هذا الشّاعر روحًا نقيّة ومحبّة في الأمكنة التي كان يقصدها، وكان صديقًا مضيافًا للعابرين من كلّ مكان، كذلك لقد كان منفتحًا على تجارب الآخرين، بمن فيهم شعراء وكتّاب الجيل الجديد، حيث راح يشدو على مسامعهم أروع القصائد فيستأنسون لسماعها، وكان يصغي إليهم، فلم يشعروا معه بصراع الأجيال أبدًا.

الشّاعر الجنوبيّ ابن الخيام، اعتمد اللّغة المحكيّة بوصفها لغة تمتلك شعريّة وجماليّة عالية أيضًا، إذ أنّ هذه الخصوصيّة ليست حكرًا على اللّغة الفصيحة فقط، فالعامّيّة تقرّب الشّعر من الجمهور. وكان العبدالله قد كتب اللّغة الفصيحة منذ أيّام السّتينيّات ثمّ انقطع عنها لسنوات وسنوات. وصدر له ثلاثة دواوين شعريّة: سطر النّمل، قهوة مرّة، مقام الصّوت ويرافقها تسجيلات بصوته.

في حوار معه وعندما سئل عن اللّغة المحكيّة، حوّل الإجابة إلى مشهد قريب من السّامعين، فاعتبر أنّ الفصحى هي ابنة الملك، المحكية هي ابنة البواب، خصوصية المحكية هي انها ابنة البواب وسيدة أولى في الحفل الملكي، حيث يصعب أو حتى يستحيل أن ندعو ابنة البواب الى الحفل الملكي، فهي تدخل وهي الأحلى وهي الأجمل، لأن ابنة الملك التي هي الفصحى تكون قد دخلت مع أبيها وفي ظله، بينما الأولى تفتح أبواب الممالك. كذلك ربط محبّته لوطنه لبنان باللّغة المحكيّة، وأضاف أنّ كتابته باللغة المحكية أتت من شعوره بأن أحداً ما يريد سحب لبنان من تحت قدميه، كانت انتقاماً من موقفه العروبي والأممي الذي كان يعني تجاهل الانتماء الوطني.

لطالما أصرّ الشّاعر على قوّة اللّغة المحكيّة في إيصال الصّور الشّعريّة إلى النّاس أجمعين، وكانت نصائحه للجيل الجديد بالحفاظ على ما أطلق عليه »جعرافية القصيدة«، وكان يستقبلهم في مجلسه ويقرأ لهم وينصحهم بمحبّة الأب، داعيًا إلى الحفاظ على الأدب والإبداع.

الشّاعر عصام العبدالله لم يكتف بالتّأثير في أصدقائه وأقربائه في غيابه، بل رثته الأماكن أيضًا، وبكته عتبات المقاهي الّتي قصدها، وافتقدت الأرصفة خطواته بإيقاعاتها الرّنّانة. رحل الشّاعر بحديثه المشوّق وحضوره الحنون، تاركًا الليّل، ، في وحدته فاقد الحياة، بعد أن ملأه حياة بحبره وضحكته الّتي أخفت هدوءًا وتأمّلًا عميقًا.أحبّ الحياة الّتي بخلت عليه بالشّعر في الآونة الأخيرة، وقد كان قلمه يتمتّع بديناميّة خاصّة بثّت أجمل المعاني في قصائده. تلك الرّوح الصّافية الّتي حملها عصام العبدالله، قبضت على مفاتيح اللّغة المحكيّة ليشرّع أبواب الشّعر الّذي صفّقت له الملائكة في حضوره وغيابه. كان أستاذنا الرّاحل شاعرًا، وقارئًا، وذوّاقًا، منفتحًا على آراء الآخرين، كما كان صاحب رؤية وتأويل للأحداث الّتي تدور من حوله.

نقل عصام العبدالله عشقه للطّبيعة من بلدته الخيام إلى مدينة بيروت التي بحث في تفاصيلها، فقبض على الأشياء بدقّة، وطوّعها ليجعل من الشّعر مغامرة في عزّ هياج البحر. ولم يقبل إلّا أن يعلي من شأنه أكثر فأكثر ليكون صوت القصيدة أعلى من مستوى الأمواج المتطلّعة نحو السّماء. هو الّذي قال عن المدينة إنّها بالنّسبة إليه البحر والسماء المفتوحة ودبيب البشر، الغرباء الذين يتجاورون ويتفاهمون ولا يتفاهمون، يعيشون في صخب حتى لكأن الحياة مهرجان.

من قصائده المحكيّة »في مدينة اسمها بيروت«:

بيروت عنقود الضّيع/لما استوى بالصّيف والسّكّر لمع/طلع الصّبي عالحيط بدّو يقطفو/ما طال/إمّو تقلّو نْزال/بيّو يقلّو هلّأ بتوقع/عفريت هالصّبي ما كان عم يسمع/جاب العصايي ولوّحا/صابو/وقعو الضّيع/وتفرفط العنقود حبِّة ورا حبِّة ورا ضيعة ورا حبِّة/وقعو على تيابو وتوسّخو جيابو/ وقع العنب/ بعدا العريشي مشبّكي/والخيط حدّ الخيط/وبعدو الصبي عالحيط.

هكذا رحل عصام العبدالله وفي نفسه إصرار على الحياة، قصد تحويل لحظاتها الحزينة إلى فرح وتفاؤل وإيجابيّة. سنقول اليوم يا شاعرنا الغالي، وباللّغة المحكيّة اللّبنانيّة الّتي عشقتها: »كسرت خاطرنا، مين بيعوّضلنا عن غيابك، من بعدك خلصت مهرجانات الحياة، عصام العبدالله لك الحياة الجديدة بأبوابها المشرّعة… إلى اللّقاء«.