علاقات لبنان وسوريا: الحب الممنوع

الخسائر تتراكم و”الفيتو” السياسي الخارجي يمنع إستعادتها

بيروت – غاصب المختار

مرت العلاقات اللبنانية – السورية الرسمية بحالة من القطيعة التامة على الاقل علناً، منذ خروج القوات السورية من لبنان عام 2005 بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لكنها لم تنقطع على المستوى السياسي ولا مرة من قبل حلفاء دمشق اللبنانيين. وهي الآن تمر بمخاض عسير كعلاقة “الحب الممنوع” نتيجة الحصار الاميركي المباشر لسوريا وغير المباشر للبنان عبر “قانون قيصر” الذي فرض عقوبات قاسية على سوريا وكل من يتعامل معها.

بعد خمس سنوات على القطيعة مع سوريا، حصلت التسوية عام 2010، وكان من ابرزنتائجها زيارة رئيس الحكومة وقتها سعد الحريري الى دمشق على رأس وفد وزاري كبير وتوقيع اتفاقيات اقتصادية كثيرة وبرامج تعاون تشمل مجالات عدة من بينها النقل والملاحة البحرية. لكن الزيارات الرسمية توقفت بعد الحرب السورية عام 2011.واتخذ الحريري وحلفاؤه موقفا معاديا للنظام السوري حتى تشكيله حكومة جديدة عام 2017 حيث تجددت  الزيارات بشكل افرادي فزار دمشق وزير الصناعة حسين الحاج حسن (حزب الله)، ووزير الزراعة غازي زعيتر (حركة أمل) وزير الأشغال العامة والنقل يوسف فنيانوس (تيار المردة) تلبية لدعوة وزير الاقتصاد والتجارة السوري للمشاركة بمؤتمر لإعادة الإعمار، وحصلت مشكلة وقتها إذ رفض الحريري خلال جلسة الحكومة وضع أي بند عن زيارة سوريا، إلا أن بعض الوزراء أكدوا أنهم ذاهبون إلى سوريا بصفتهم الرسمية الوزارية. وتتالت “الزيارت الوزارية” خلال حكومتي الحريري والدكتورحسان دياب في الأعوام الثلاثة الماضية.

كان العامل الاساسي وراء زيارات الوزراء حلفاء سوريا الاستفادة من إعادة افتتاح معبر نصيب الحدودي السوري مع الأردن، لبحث فتح الحدود بين لبنان وسوريا وللحصول على تراخيص مسبقة لتصدير المنتجات اللبنانية الى الاسواق العربية عبر سوريا، وبدء الحديث الجدي حول سبل إعادة النازحين السوريين، ومعالجة مشكلات كثيرة عالقة منها تحديد الحدود في بعض النقاط واقامة معابر شرعية عليها لمنع تهريب البضائع والاشخاص.

تحايل على قانون قيصر

وعلمت “الحصاد” ايضاً من مصادر وزارية لبنانية انّ وزير الشؤون الاجتماعية والسياحة في حكومة حسان دياب المستقيلة البروفسور رمزي مشرفية، بدأ قبل تكليف نجيب ميقاتي بتشكيل الحكومة الجديدة بعد اعتذار الرئيس سعد الحريري، التحضيرات مع السلطات السورية لزيارة وفد وزاري موسع الى دمشق، يضمّ إضافة اليه وزير الصناعة عصام حب الله، ووزير الزراعة والثقافة عباس مرتضى، وزير الصحة الدكتور حمد حسن، وربما يكون في عداد الوفد وزير الاتصالات طلال حواط، ووزير الاقتصاد والتجارة راوول نعمة الذي كان متردّداً في المشاركة، لكن التحضيرات توقفت مؤقتاً بعد تكليف ميقاتي.

وبحسب المصادر، فإنّ هدف زيارة الوفد الوزاري كان البحث مع المسوؤلين السوريين في كل المواضيع ذات الاهتمامات والمنفعة المشتركة، وفي طليعتها ترتيبات إعادة اكبر عدد من النازحين السوريين الراغبين بالعودة، والانفتاح الاقتصادي وفتح الحدود والاسواق امام المنتجات الزراعية والصناعية اللبنانية بأقل قدر من القيود والرسوم، ومواضيع اخرى مشتركة بين البلدين منها التعاون الطبي وفي مجال الدواء.

وفي الاجتماعات التحضيرية للزيارة التي ترأسها للمرة الاولى بصفة رسمية الرئيس حسان دياب، جرى البحث في موضوع “الترانزيت” عبر سوريا ومختلف النقاط المرتبطة بقانون قيصر، وأوضح مصدر متابع أنّه جرت مناقشة قضايا أبعد من موضوع الترانزيت تتعلّق بمجالات سياحية وزراعية وصناعية وحتى في مجال الأشغال والاتصالات من دون خرق “قانون قيصر”  الاميركي  الذي يعتبر أي تعامل مع الحكومة السورية تجارياً كان أومالياً أواقتصادياً دعماً للحكومة السورية ويعرّض الأفراد والشركات اللبنانية والقطاع المصرفي للعقوبات. لذلك جرى البحث في ان تتم العمليات الاقتصادية عبر القطاع الخاص غير الخاضع كلياً لعقوبات “قانون قيصر”.

وقد كانت ستتم الزيارة برغم تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة الجديدة، ولكن بعد اعتذاره وتكليف الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة الجديدة توقف كل شيء مؤقتاً لحين إتضاح نتائج إتصالات التشكيل. ولو  تمت الزيارة في وقتها المقرر في حزيران او تموز الماضيين، كانت ستكون اول زيارة لوفد وزاري كبيرتتم بموافقة الحكومة ورئيسها.وجاء هذا التطور بعد إصرار السلطات السورية على إعطاء اي زيارة الطابع الرسمي بين حكومتي دولتين، فلم يعد مقبولاً لدى سوريا ان تتم زيارات بالسر او بصفة شخصية لوزراء مقربين منها للحصول على منافع لبنانية، فيما تبقى سوريا واقعة تحت “الحُرُمْ” السياسي اللبناني، مع انها استجابت لكل متطلبات لبنان برغم الموقف السلبي الرسمي منها، بتسهيل مرور الشاحنات وتزويد لبنان بالكهرباء وقوارير الاوكسجين لزوم المستشفيات إبّان تفشي جائحة كورونا، وغيرها من خدمات لعل اهمها ترتيب عودة عشرات الاف النازحين من لبنان خلال السنوات الثلاث الماضية بإجراءات خاصة مع مديرية الامن العام اللبناني وبرضى ضمني من حكومات سعد الحريري وسواه.

تحريك السياسة

بالتوازي مع الزيارات الاقتصادية، بدأت عملية سياسية لإعادة تفعيل العلاقات، عبر زيارة وفد نيابي سياسي لحلفاء سوريا (ضم الوفد النواب ​علي حسن خليل​، ​عبد الرحيم مراد​، ​أسعد حردان،​ حسين الحاج حسن​ ، هاغوب بقرادونيان ووزراء سابقين ومسؤولين آخرين) حيث أجرى لقاءات أهمها مع وزير الخارجية السوري فيصل المقداد، وقد تمّت مفاتحته بقضايا إقتصادية ذات اهتمام مشترك بين البلدين.

ولاحظت مصادر متابعة انّ تركيبة الوفد تضم الوزراء ممثلي الاطراف السياسية الحليفة لسوريا (حزب الله وحركة امل والحزب الديموقراطي اللبناني وتيار الكرامة الذي يترأسه النائب فيصل كرامي وحزب الطاشناق الارمني)، ما يعطي للزيارة طابعاً سياسياً رمزياً، ولو انّ القصد منه تحقيق مكاسب اقتصادية تريح الاسواق اللبنانية.

كماعلمت “الحصاد” ان رئيس الحزب الديموقراطي اللبناني النائب طلال ارسلان يزور دمشق كل شهر او شهرين تقريبا منذ سنوات ويلتقي الرئيس بشار الاسد من دون الاعلان عن الزيارات. سوى مرة واحدة في الزيارة الاخيرة قبل شهرين.

هذه الزيارات ذات الطابع السياسي الواضح تشير الى تبلور قرار كبير بالإنفتاح الواسع على سوريا ومن خارج قرار الحكومة، بعدما وصلت الحرب السورية الى حالة من الاستقرار العسكري في معظم المناطق السورية وحالة من الاستقرار السياسي ترافق مع المعلومات عن بدء “التطبيع” العربي مع سوريا عبر عودة بعض السفارات العربية مثل سفارة الامارات وغيرها، والحديث عن مفاوضات سورية – سعودية للوصول الى اهداف محددة امنياً وسياسياً وليس الى استعادة العلاقات الطبيعية بشكل كامل.

مصلحة لبنان

في رأي المتابعين لحركة الزيارات واعطائها طابعاً شرعيا رسمياً، انها تخدم مصلحة لبنان اولاً، بحيث تحل العلاقات الرسمية الشرعية بدل علاقات ملتبسة وعمليات غير شرعية عبر الحدود كتهريب المحروقات والادوية وبضائع مختلفة، ما ترك اثرا سلبيا على الاقتصاد اللبناني.

فمصلحة لبنان تكمن برأي الخبراء في تقوية الاقتصاد والتصدير وعودة النازحين السوريين وليس بالتهريب من وإلى سوريا، وهذا لا يتم في ظل اجواء عداء سياسي وبعضه رسمي لسوريا. وهذا ما لم تعد تقبله سوريا وتطالب بزيارت ذات طابع رسمي حكومي وليس وزاري شخصي، بخاصة ان بعض خصومها السياسيين وبينهم رجال اعمال، كان يُمنّي النفس بل يتحضّر للمشاركة في إعادة إعمار سوريا، من ضمن شركات من مختلف الدول العربية والغربية، حيث اندلع سباق بينها للحصول على امتياز المشاركة.

ويقول خبير اقتصادي متابع للعلاقات اللبنانية – السورية وزائر دائم لدمشق لـ “الحصاد”، انه بإمكان لبنان توفير قرابة 500 مليون دولار ثمن زجاج في عملية إعادة إعمارما هدمه إنفجار مرفأ بيروت، إذا اشترى الزجاج من سوريا بدل شراءه من الخارج بمبلغ 750 مليون دولار، ذلك ان نفس الكمية يُمكن شراؤها من سوريا بمبلغ 200 مليون دولار.عدا إمكانية شراء 200 صنف دواء بمواصفات عالمية يتم تصديرها الى خمس دول اوروبية بأسعار متدنية جداً.

إضافة الى ذلك، ثمّة استفادة كبيرة للبنان من تطبيق اتفاقية تجارة الترانزيت عبر الاراضي السورية الى العراق والاردن ودول الخليج، ذلك ان اللجنة الوزارية المكلفة متابعة العلاقات الاقتصادية باشرت البحث في هذه الاتفاقية لخفض الرسوم المفروضة على الشاحنات اللبنانية اثناء مرورها في سوريا مقابل تقديمات لبنانية الى سوريا يتم الاتفاق عليها حسب الحاجة.

وهنا  يظهر حجم خسائر لبنان من مقاطعة سوريا رسمياً وسياسياً، مع ان دمشق لا تطلب من لبنان ما لاطاقة له على تحمّله بوجود العقوبات والضغوط الاميركية والاوروبية عليه لمنعه من إعادة العلاقات الى نوع من التوازن والحالة الطبيعية على الاقل، إن لم يكن ممكناً إعادة العلاقات المميزة كما كانت في مرحلة التسعينيات والألفين حتى 2005.

ما مستقبل العلاقات؟

برأي المتابعين للعلاقات اللبنانية – السورية، انها لا يمكن ان تعود الى طبيعتها في ظل الظروف السياسية القائمة في لبنان وفي ظل سيف العقوبات المسلط على رقبة اي حكومة لبنانية، حتى موضوع عودة النازحين ما زال يتعثر برغم النشاط الروسي في هذا المجال والذي تجدد الشهر الماضي لكن من دون نتيجة تُذكر.

وتشير معلومات المتابعين ان اللجنة الوزارية بصدد إعادة تحريك ملف العلاقات لإنجاز جزء ولو بسيط من المقترحات التي كانت قيد البحث مع الجانب السوري، ذلك أن استعادة العلاقات الى طبيعتها قرار سياسي لا يجرؤ اي رئيس حكومة على إتخاذه، ولو ان رئيس الجمهورية ميشال عون وبعض القوى السياسية الاخرى تضغط بإتجاه فتح حوار رسمي بين الدولتين لمعالجة القضايا العالقة، ولا سيما قضية عودة النازحين، التي باتت الدول الغربية وبعض الدول العربية تربطها من دون سبب مقنع او أي مبرر بالحل السياسي في سوريا، الذي بات يخضع لمتغيرات الميدان بعد إستعادة السلطات السورية لمعظم المناطق من الجنوب الى الشمال والشرق والغرب وبقيت بعض الجيوب السياسية اكثر مما هي عسكرية… لكن في كل الاحوال يبقى القرار بيد السلطات الرسمية اللبنانية وقدرتها على تجاوز الضغوط الخارجية لتحقيق مصالح لبنان.فأي حكومة يمكن ان تتخذ القرار الكبير؟

العدد 120 / ايلول 2021