على هامش فوز جو بايدن بالرئاسة الأمريكية-بصمات رؤساء أمريكا السوداء في العراق

د. ماجد السامرائي

منذ أكثر من ربع قرن لم تنظر الولايات المتحدة الأمريكية إلى العراق كبلد مستقل ذي سيادة تبنى العلاقات معه على أساس ديبلوماسي، وإنما ولأسباب جيوسياسية لأهمية العراق كمحور مهم الوضع فيه يحدد مسارات السياسة الأمريكية في المنطقة. لهذا كان على شعب العراق تحمل أعباء هذه المكانة التاريخية للعراق وتلقي الضربات المتتالية، فبالإضافة إلى حرب الثماني سنوات المدّمرة بين العراق وإيران 1980 ـ 1988 التي شجعتها واشنطن، واجه هذا الشعب خلال عقدين حربين أمريكيتين كلاهما عدوان عسكري غير مبرر الأول كان لتحرير الكويت حيث لم يكتف الرئيس جورج بوش الأب بتحقيق هذا الهدف فوجه ضربات ساحقة ضد الجيش العراقي المنسحب من الأراضي الكويتية عام 1991.

في عام 2016 صدر كتاب  »القدر والسلطة.. الأوديسة الأمريكية جورج هربرت ووكر بوش« لجون ميتشام وتناول فيه سيرة الرئيس الـ41 للولايات المتحدة، جورج بوش (الأب) وفي جزء منه تحدث بوش عن الغزو العراقي للكويت ورد فعل أمريكا. ويكشف الكتاب أن جورج بوش (الأب) أصيب بالاكتئاب بعد الحرب على العراق، وقال مساعده مارلين فيتز ووتر إنه اشتبه في أنه كان بسبب اضطراب الغدة الدرقية، وأوضح ميشام أن حالة الاكتئاب كانت بسبب خيبة أمله لأن صدام حسين بقي في السلطة.

لا توجد فوارق كبيرة بين رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية من كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي رغم الوجه الحربي لزعماء الحزب الجمهوري. فبعد بوش الجمهوري لم يكن الديمقراطي كلينتون الذي حكم ما بين 1993ـ2001 أفضل من سابقه ففي عهده تبلور المشروع الأمريكي لاحتلال العراق وأمسكت الجهات الأمريكية في الخارجية والمخابرات ثم البنتاغون بالملف العراقي، وفتحت قنوات الاتصال بمعارضي نظام صدام، لكن تركيزهم كان على التيارات الدينية الشيعية ولم يعطوا أهمية للمعارضين لذلك النظام من الذين كانوا يعملون داخل أجهزة الدولة من الديبلوماسيين والعسكريين الهاربين.

أصدر الكونغرس الأمريكي عام 1998 قانون تحرير العراق الذى وقعه كلينتون، وكشف القانون عن سياسة رسمية جديدة للولايات المتحدة تدعم الجهود الرامية إلى إزالة النظام الذى يرأسه صدام حسين من السلطة فى العراق. وقدمت خمسون مليون دولار للمرتزقة المعارضين وكان أحمد الجلبي في حينه رئيس ما سمي بالمؤتمر الوطني العراقي. وتم شن هجمات صاروخية على الأحياء المدنية ببغداد بعد صدور ذلك القانون من دون مبررات قانونية.

أصبح لليمين المتطرف مكانة مهمة في صياغة القرارات السياسية الأمريكية في عهد جورج بوش الأب وما بعده. ومن أبرز شخصيات هذا اليمين دونالد رامسفيلد الذي أصبح وزيراً للدفاع وبول وولفيتز منظّر الحرب على العراق وريتشارد بيرل الذي أصبح مستشار بوش وريتشارد هاس عضو مجلس الأمن القومي، ومستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نتنياهو وهو من أكثر المتشددين في الدفاع عن نظرية الحرب على العراق وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط من جديد..

 نشط قادة اليمين قبل واقعة الحادي عشر من سبتمر 2001 ومنذ الأيام الأولى لحكم جورج بوش الإبن تبلور وأصبح جاهزاً مشروع اجتياح العراق. تجاوب بوش مع تلك التطلعات المتطرفة، ومعروفة قصة تجلياته الدينية بأنه  »يجب القضاء على ياجوج وماجوج في بابل« وغيرها من الهرطقات الكهنوتية. بل إن الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك كان قد استغرب وسخر من محادثة بوش له هاتفياً والطلب منه المساعدة في الاجتياح العسكري وفق تلك الدوافع الدينية.

لم تكن هناك مبررات قانونية واخلاقية للحرب على العراق واحتلاله عام 2003، كان الهدف هو الاحتلال وتدمير الدولة العراقية وجيشها الوطني. اعترفت رئيسة مجلس النواب الأمريكي الحالية نانسي بيلوسي بأنها كانت تعرف إن الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش كان يتحايل على الجمهور من أجل بدء عملية غزو العراق عام 2003، وذكرت صحيفة ذي نيشن الأمريكية أن بيلوسي قالت أثناء حديثها على شبكة سي إن إن أنها لم تشعر أن الكذبة كانت جريمة لا يمكن الاستغناء عنها على الرغم من إن الغزو قد تسبب بمقتل 650 ألف مدني عراقي وتشريد خمسة ملايين شخص آخرين في جميع أنحاء البلاد.

وهذا ليس الاعتراف الأول حول بطلان وكذب مبررات الحرب على العراق التي لا تزال آثارها وتداعياتها شاخصة وتزداد يوما بعد يوم، فقد سبقتها اعترافات وظهور وثائق دامغة تدل على كذب واحتيال بوش الابن وتسببه بخسارة تريليونات الدولارات وقتل الأبرياء وتشريد السكان وترويع الشعوب، ورغم كل ما قيل وما تم إثباته بالبرهان فقد فلت بوش من العقاب فلم يحاسبه أحدا في الولايات المتحدة الأمريكية التي خسرت أكثر من 5000 قتيل والآف الجرحى والمعاقين والمصابين بالأمراض النفسية والمزمنة، كما لم تقام عليه الدعاوى من العراق أو من الدول التي تضررت من الحروب فالكل صامتون وكأنهم راضون كامل الرضا لما حصل في العراق، والأكثر من هذا إن الولايات المتحدة الأمريكية التي قامت باحتلال العراق لم تنجز فروضها بخصوص ما دمرته وما خلفته من خراب في البشر والبنى التحتية والنفوس والعقول والقلوب، فبموجب القوانين والمواثيق الدولية فان عليها إعادة اعمار البلاد وتحملها كامل تكاليف اثار الاحتلال وإعادة الوضع إلى أفضل مما كان عليه قبل الاحتلال.

ما زال العراقيون يعيشون تبعات قرار الرئيس بوش باحتلال العراق بعد أن نصبّت إدارته وبترتيب من لوبي اليمين المتطرف قادة أحزاب الإسلام السياسي الشيعي على خلفية فكرة متطرفة زائفة تقول  »بأن الحكم يجب أن يكون للشيعة في العراق بعد حكم السنة لألف واربعمائة سنة« علماً بأن حصاد سبعة عشر عاماً من الحكم الجديد أثبتت بأن شيعة العراق هم المتضررون من هذا الحكم.

شعب العراق وليست حكومات وأحزاب وسياسيي عهد الاحتلالين الأمريكي والإيراني لا يحمل ودّاً لرؤساء أمريكا وغير مكترث بمن فاز ومن خسر سواء أكان ترامب أم بايدن، كلاهما لم يقدما خلال مسؤولياتهما كرئيس وكنائب للرئيس لهذا الشعب المبتلى بحكام جهلة وفاسدين ما يعينه على استرداد سيادة بلده واعادة حقوقه المنهوبة وهي معروفة بالأسماء في سجلات واشنطن.

هناك انطباع غير دقيق يشير إلى أن فوز بايدن سيعيد الاستدارة نحو طهران التي راهنت كثيراً على هزيمة ترامب وبالتالي ستتراجع آمال العراقيين باحتمال تقليص أو إنهاء المليشيات الولائية داخل العراق. هذا التصور الخاطئ لا يضع أهمية للمستجدات السياسية في المنطقة والعالم والتي كشفت للسياسيين الأمريكيين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي وبينهم جو بايدن بأن طهران تمادت كثيراً خلال السنوات القليلة الماضية في إضرارها بالمصالح الأمريكية في المنطقة وتغوّلت ميليشياتها بالنفوذ داخل العراق، واستثمرت الأموال التي أطلقها الرئيس أوباما لمزيد من التخريب في المنطقة.

جو بايدن لا يحمل تاريخاً إيجابياً في التعاطي مع الشأن العراقي فقد ساند الحرب على العراق عام 2003 وحين تولى منصب نائب الرئيس أوباما اندفع كثيراً في دعم شيعة السلطة وأيّد سياساتهم الطائفية والمليشياوية خصوصاً دعمه لنوري المالكي في معظم قراراته ضد العرب السنة ما بين 2006  ـ 2014 لكنه وفريقه ومؤسسات الدولة الأمريكية في البنتاغون والمخابرات والخارجية لا بدّ أن يعيدوا جميع الحسابات الخاصة بالتعاطي مع منظومة الحكم العراقي وملفاته.

الملف الأكثر جدلاً هو مشروع بايدن في تقسيم العراق فدرالياً إلى ثلاث أقاليم شيعية وسنية وكردية وهو المشروع الذي صوّت عليه الكونغرس الأمريكي بالأغلبية في سبتمبر 2007

وتنص خطته على تقسيم العراق إلى ثلاث دول كردية وسنية وشيعية. المشروع لقي بعض الاعتراضات في واشنطن وواجه في حينه هجوما من قبل مجموعة دراسة العراق برئاسة وزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر الذي اعتبر تقسيم العراق خطا أحمر لا يمكن تجاوزه، وبخاصة أن ذلك من شأنه خلق ما أطلق عليه فوضى إقليمية جديدة، ستعطي طهران فرصة ذهبية للسيطرة على الإقليم الشيعي الجديد، كما ستثير حفيظة تركيا التي تخشى من قيام دولة كردية على حدودها الجنوبية.

مشروع تقسيم العراق لم يبدأ بإعلان بايدن، ففي عام 1980 نشر مقال كتبه عوديد ينون مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن بعنوان استراتيجية إسرائيلية دعا فيه إلي تقسيم الوطن العربي من موريتانيا حتي عُمان في أقصي الخليج العربي على أسس عرقية وطائفية يكون للعراق الأسبقية في التقسيم لأن العراق حسب قوله هو العدو الأكبر لإسرائيل لذا يجب تقسيمه إلي ثلاثة دول، دولة كردية في شمال العراق وأخري شيعية في الجنوب وثالثة سنية في الوسط. وفي ذلك المقال حث ينون حكومة بيغن علي دعم إيران خميني من أجل الإسراع بتقسيم العراق علي اعتبار أن الحرب بين العراق وإيران في ذلك الوقت ستكون نهايتها سقوط الدولة العراقية.

 بايدن لم يتراجع عن مشروعه التقسيمي فقد كتب مقالا في الواشنطن بوست بتاريخ 24-8-2014 حين كان نائبا للرئيس أوباما أكد دعم واشنطن لنظام فدرالي في العراق. لكن أوباما ونائبه لم ينفذا مشروع التقسيم الفدرالي في العراق.

منذ صدور دستور العراق عام 2005 الذي أقرّ الأقاليم الفدرالية بجهد من القيادة الكردية لحماية إقليم كردستان دستورياً، أصبح السياسيون الشيعة والسنة يتعاطون مع فكرة الأقاليم وفقاً لضغوط اللعبة الطائفية وشراكة الحكم ببغداد. فقد سبق للراحل عبد العزيز الحكيم رئيس المجلس الإسلامي الأعلى أن أعلن من النجف عام 2006 عن نيتهم قيام الإقليم الشيعي، لكنهم تراجعوا عن هذا المشروع بعد أن تأكدوا من حكمهم لكل العراق. العرب السنة الحلقة الأضعف فقد ظل سياسيوهم يتعاطون مع مشروع الأقاليم بغموض وتردد ممزوج بالخوف من ضياع المصالح خاصة بعد أن وجد غالبيتهم في النفاق للقتيل قاسم سليماني ومن بعده ولممثلي نظام خامنئي في العراق الطريق الأسهل للحصول على المكاسب، فلماذا يذهبون للطريق الوعرة إلا إذا ضاقت بهم السبل.

هناك من يعتقدون إن مشروع تقسيم العراق قد تراجع بسبب تراخي تل أبيب عن الحماسة لتنفيذه بعد سقوط الدولة العراقية عام 2003 وانهيار قوته العسكرية والاقتصادية وهيمنة أحزاب طائفية على الحكم، واحتمال التحاق العراق بركب التطبيع. وبالتالي فإن حاكم البيت الأبيض الجديد صاحب مشروع تقسيم العراق لن يضعه في برنامج إدارته.

متغيرات ظرف العراق الحالي هي تداعيات نفوذ المليشيات المسلحة الموالية لطهران. فإذا كان الرئيس ترامب قد استخدم وسائل الضغط على طهران ومليشياتها، وتعهد بدعم حكومة الكاظمي إذا ما نفذت سياسة حفظ الأمن الوطني العراقي وسيادته، وقد تكون هذه المليشيات وزعاماتها الحزبية الموالية لطهران تشعر الآن بارتياح، وقد تُصّعّد من قبضتها على مفاصل الحياة اليومية للعراقيين، ولكن بغض النظر عمن يحكم البيت الأبيض في واشنطن تبقى هذه قضية عراقية يتحمل مسؤولياتها العراقيون أنفسهم.

العدد 111 / كانون الاول 2020