بهاء إيعالي والبورتريهات الهاربة من صخب العالم

في حوار مع الشاعر والمترجم اللبناني بهاء إيعالي

بهاء إيعالي للحصاد: ” الشاعر قد يستطيع التخفيف من حزنه لكنّه لا يستطيع تخفيف حزن هذا العالم ولن يستطيع.”

“إنّ الأقلّية من القرّاء من يركّز على اسم المترجم في اقتنائه لكتابٍ ما. فيما يمكن اعتبار المترجم على أنّه الجندي المجهول في خضمّ المشهد الثقافي اليوم.”

بيروت من ليندا نصار

يمثّل الشاعر  اللبناني بهاء إيعالي صوتًا فريدًا من الأصوات الشعرية المبدعة في المشهد الثقافي اللبناني. فقد أثبت نفسه من خلال كتاباته الإبداعية من شعر ونثر بالإضافة إلى عمله الصحافي ومثابرته على ترجمة الآداب العالمية. يعيد بهاء إيعالي طرح ما يدور في الحياة ويعبّر عن تجربة الإنسان من خلال رؤيته الخاصة للأمور،  فيتجه أحيانًا إلى تجميل القبح وأحيانًا أخرى إلى تقبيح الجمال على حدّ قوله. وهو الذي يعتبر أنّ الفكرة تتحكّم بكتاباته وليست

بورتريهات لوجهٍ يجوّعه التجهّم.

حالات معيّنة يمرّ بها، وهذه الأفكار قد تنبع من الذات لتخرج ما يجول فيها، كما وأنه قد يلتقطها من العالم المحيط به لتتجسّد على شكل قصائد.

له في الشعر أربعة دواوين أحدثها  “بورتريهات لوجهٍ يجوّعه التجهّم” (رواشن للنشر – دبي 2022)

 وفي الترجمة أكثر من سبعة إصدارات. وقد ترجمت قصائده إلى الإنكليزيّة والبرتغاليّة والإسبانيّة والصينيّة والأوزبكيّة.

الحصاد التقت الشاعر بهاء إيعالي في بيروت وكان لها معه الحوار الآتي:

الحصاد: متى وكيف بدأت مسارك الكتابيّ؟ وما الذي دفعك إلى اختيار هذا المنحى؟ وما هي علاقتك بالشعر؟

بهاء إيعالي: لربّما قد يكون من الأجمل بالنسبة لي أن أُسأل عن بداية مساري في القراءة قبل الكتابة، فالكتابة ما هي إلا وليدة القراءة ولا يمكن أن تتواجد كتابة جيّدة من دون قراءة، وقراءة جيّدة أيضاً، وبالتالي فإنّ تطوّر مساري الكتابي ما هو إلا انعكاسٌ لتطوّر قراءاتي، ولا زلت أذكر أوّل كتابٍ قرأته بصورةٍ جديّة، ألا وهو مجموعة توفيق يوسف عوّاد القصصيّة “الصبي الأعرج”، وهنا يعود بي الزمن إلى نحو 15 عاماً إن لم يكن أكثر.

قد تكون بدايتي مع الكتابة وكذلك علاقتي بها مرتبطة بالسبب الذي دفعني لاختيارها، فقبل بدء محاولاتي الكتابيّة كنتُ لاعب كرة قدمٍ ناشئٍ في أحد أندية الهوا في مدينتي طرابلس، ولطالما حلمت بأن أصبح لاعباً محترفاً وربّما كنتُ قريباً في فترةٍ من الفترات، غير أنّ إصابة بكسرٍ في يدي اليسرى أبعدني عن هذه اللعبة لوقتٍ طويلٍ نسبيّاً (فلا يوجد استشفاءٌ حقيقيّ في أندية الهواة) وبالتالي حرمني من مواصلة حلمي. غير أنّ هذه الإصابة فتحت لي الباب نحو حلمٍ لم أتوقّعه، فطيلة وقت إصابتي انشغلت بالقراءة، ومن القراءة بدأت بتدوين بعض ما يجول ببالي على شكلِ نصوصٍ حرّة ومفتوحة، قبل أن أبدأ بكتابتي للشعر من بوابة القصيدة الفراهيديّة الكلاسيكيّة ومن بعدها الانتقال إلى النص الشعريّ الحديث إن لم أرد تسمية ما أكتبه بقصيدة النثر.

أما عن سؤالك حيال علاقتي بالشعر فيمكنني القول إنّها علاقة صديقين لدودين أو خصمين متوادّين، وهو ما يعرف شعبيّاً بــ “غرامٌ وانتقام. فمحبّتي للشعر شبيهة بما يعرف باسم متلازمة ستوكهولم، أي الوقوع في حبّ الجاني، فللحظةٍ أشعر أنّ الشعر اختطفني من عالمي الخاص كلاعب كرة قدم ومتابعٍ لها، وهنا أمرّر بين حينٍ وآخر تحايلاً عليه لأهرب منه دون أن أستطيع ذلك، وما عملي في الصحافة والترجمة سوى إحدى هذه التحايلات التي ألجأ إليها حينما أشعر بثقل كاهله عليّ. لكن أأتخلّى عنه؟ الشعر قدّم لي أشياء جميلة أثناء اختطافه لي، أشياء كثيرة لا يسعني ذكرها، وبالتالي أحببته بحقّ ولا زلت أقرأ بعضاً منه بين حينٍ وآخر، ولا أدخل مكتبة دون أن يكون كتاباً شعريّاً على الأقلّ ضمن مشترياتي. هكذا ببساطة.”

الحصاد: إنّ المتتبّع لنصوصك في مجموعتك الأحدث “بورتريهات لوجه يحكمه التجهّم”، يتنبّه إلى نزعة الحزن وخيبة الأمل في هذا العالم، حيث تضمّنت قصائدك نوعًا من السخرية ممّا يحدث، عبر استخدام مفردات وعبارات من وحي الحياة. كيف ينقذ الشاعر نفسه من هذه المشاعر التي يمكن لها أن تسيطر على مجموعةٍ شعريّةٍ بأكملها؟ وماذا تقول عن أجواء هذه المجموعة؟

بهاء إيعالي “لعلّ أبلغ ما قاله الأسلاف هو “شرّ البليّة ما يضحك”، ولعلّ نصوص مجموعتي هذه قد تكون أشبه بشيءٍ من السخرية، ليس حيال ما يحدث فحسب بل حيال كلّ ما تراه العين من مشاهد ثابتةٍ ومتحرّكة، وبالتالي فإنّ ما هو ضامرٌ في هذه البورتريهات الـ 11 هو صورٌ مختلفةٌ لهذا العالم وصورٌ مختلفةٌ لي أيضاً، أوليس وجهُ كلّ امرئٍ هو أحد وجوه هذا الكون؟ لربّما ما جاء في هذه المجموعة ليس إلا نذراً يسيراً من كلّ ذلك.

طبعاً قد يراودك هذا السؤال: لماذا “بورتريهاتٌ لوجهٍ يجوّعه التجهّم” وليس “وجوهٌ يجوّعها التجهّم”؟ ربّما لأنّني بتّ أرى العالم بوجهٍ واحدٍ فقط ليس أكثر، وهو الوجه الكالح والمحتضر الذي لا يختلف عن وجهي إطلاقاً، فمثلاً هذا الوجه هو نفسه لدى أولئك الذين ملأوا ساحة التمثال في طرابلس إبّان ثورة 17 تشرين في قصيدة “تريبوليس – سورٌ تأكله الأصوات”، هو نفسه لدى الهارب من صخب العالم وانهياراته المتتالية والمتنبّئ بضمور العالم خلال جائحة كورونا في قصيدتي “عزلةٌ لطريقٍ مليئةٍ بالهروب” و “عزلةٌ لعابرٍ مليءٍ بالمَقاتل”، وهو نفسه لدى الصبيّ الجامح الذي يسعى لإعادة تشكيل عالمه في قصيدة “عقارب فاقعة الفراغ”… باختصار، وهو الوجه نفسه الذي يحمل كل هذه البورتريهات الـ 11، وثمّة بورتريهات جديدة قد تظهر في مجموعةٍ أخرى تحملُ العنوان نفسه أو تتّخذ صيغةً أخرى، من يدري؟

أمّا كيف ينقذ الشاعر نفسه من هذه المشاعر؟ ربّما لا أعرف كيف يستطيع ذلك ولن أعرف في القريب العاجل، فالشاعر ليس كشّاف أدغالٍ يجيد التعامل مع التيه بقدر ما هو إنسانٌ ألفى نفسه داخل متاهة هذه المشاعر أو ربّما اختارها بنفسه. ربّما غيري يعرف كيف ينقذ نفسه، لكنني عن نفسي لا أعرف ذلك.”

الحصاد:  تقول في إحدى قصائدك:” في الحرب/ في هاوية مطّاطية القعر/ نقفز إليها لئلا يتلاعب بنا مشهد القتلى/ نترك أحلامنا للطريق وممرّاتها المكتظّة بالهاربين/ فلحظة ترتطم بها القذيفة/ لا نموت/ إنّما المدينة تصبح نعشًا.” أمام مشاهد الحرب الشعوريّة أو الواقعيّة، وضياع الأحلام وحتميّة الموت الرمزيّ الذي يتجلّى في كلّ أشكاله، هل يستسلم الشعراء فيظلّون غارقين في اليأس، أو يمكن أن يكون هناك منفذ في الطريق، خصوصًا عندما تضيق المدينة فتتحوّل إلى نعش؟

بهاء إيعالي “يمكنني أن آخذ سؤالك هذا على أنّه صيغة جديدة لسؤال “هل يستطيع الشاعر أن يخفّف من حزن هذا العالم؟” الجواب لا، فالشاعر قد يستطيع التخفيف من حزنه لكنّه لا يستطيع تخفيف حزن هذا العالم ولن يستطيع، أو بأفضل الأحوال سيظلّ يحاول من دون أن ينجح، فهو كائن مستسلم لما حوله شاء أم أبى، ولو لم يرد الاستسلام لما كتب الشعر، بل لربّما أصبح مهندساً، أو مدرّساً، أو مزارعاً أو نجاراً أو غير ذلك ووجد حياته مليئة بالمواجهة لواقعه، لكنّه شاء الاستسلام لهذا الواقع والانتقام منه بالكتابة.”

الحصاد:  في مكان آخر من الديوان كتبت:” أنا صديق الخيبة/ ومرآتها الناصعة البياض/ أستيقظ معافى من الأمل/ حرًّا مني/ أحلم بمحيط لا فرح فيه/ لا حزن فيه/ لا شيء فيه… أنا الحيّ الميت/ ولموتي استمرار آخر/ لموتي حلم الحشرات ألّا تصطادها الضفادع…” تحضر هنا الثنائيّات الضدّية التي تتراوح بين الحياة والموت. كيف يتعامل الشاعر مع هذه الحالات التي سبّبتها خيبة معيّنة أو هي نوع من الفراغ الشعوري القاسي الناتج عن معاناة شخصية وخوف وقلق؟

بهاء إيعالي “المقطع هذا مأخوذٌ من قصيدة “عقارب فاقعة الفراغ”، والتي هي عبارة عن تجربةٍ تعود لبداياتي مع الشعر، فهذه القصيدة كتبت خلال عام 2015.

قد لا يختلف تعامل الشاعر مع الثنائيّات الضديّة في الشعر عن تعامل العامّة مع ثنائيّات الليل والنهار، الشمس والقمر، الحياة والموت، الفردوس والجحيم، فثمّة ما هو إيجابي وما هو سلبي، غير أنّ ما يختلف قليلاً لدى الشاعر هو عدم تسليمه المطلق بالسائد حيال هذه الثنائيّات وقطبيها السلبيّ والايجابي، وإن سلّم بذلك فحسب رؤيته الخاصّة لها، وإلّا فما هو الشاعر في حال لم يسع إلى بناء عالمه الخاص أو رؤيته الخاصّة لهذا العالم؟ حتماً هنا يسقطُ عنه هذا المسمّى.

وبالتالي فإنّ طريقة تعاملي مع هذه الثنائيّات هي محاولة لإعادة طرحها برؤيتي الخاصّة، فتارة أتّجه لتجميل القبح وتقبيح الجمال وطوراً العكس.”

الحصاد:  حضرتك شاعر يشتغل على قصائده بشكل مستمرّ كما نلاحظ علاقتك القوية بالكتابة. ماذا يعني لك الشعر؟ وما هي الحالات التي تشعر أنّها تتحكّم بكتاباتك؟ وهل هناك ما يسمى بلحظة الكتابة؟

بهاء إيعالي “لا أؤمن إطلاقاً بما يسمّى بلحظة الكتابة، بل هناك ما يسمّى بلحظة الفكرة، هذه الفكرة ربّما تكون نصّاً، ربّما تكون جملةً أو حتى كلمة واحدة، لكن لا ينبغي تركها كما هي إطلاقاً لأنّ ذلك يعيق الكاتب عن التطوّر والتحسّن، بل من المفروض الاشتغال عليها، ومن هنا جاء إيماني المطلق بعدم جودة الكتابة اليوميّة مهما بلغت عبقريّتها وعمقها، فهي كتابة ينقصها التأليف، ونقص التأليف يعني نقص في كلّ خصائص النص اللغويّة والجماليّة والفنيّة، وبالتالي لا يكون النص أمامي سوى نص عاديّ ليس أكثر، ومن المؤسف أنّ العديد من الشعراء وقعوا فيها ولم ينتبهوا إليها منذ البداية، فباتت لصيقة بهم ولم يقدروا على تطوير لغتهم.

من هنا يمكنني القول إنّ ما يتحكّم بكتابتي هو الأفكار وليس الحالات، هذه الأفكار إمّا ألتقطها من عالمي المحيط وإمّا تكون ذاتيّة نابعة من الداخل، هذه الفكرة تبدأ كما أخبرتك إمّا بنصّ، إمّا بفقرة، وإمّا بجملةٍ أو حتى بكلمةٍ واحدة، ومن بعدها تنطلق مرحلة التأليف إمّا بتوسيع دائرة الفكرة أو بتضييقها، فأصل أحياناً لأن أكتب نصّاً طويلاً واحداً كقصيدة “أغنياتٍ لقريةٍ مضبّبة” أو كنص “كونشيرتو لشفاهٍ ترفعها الريح”، أو لجملٍ قصيرةٍ سريعةٍ أشبه بالشذرات كالجزء الثاني من مجموعتي الأولى “الضوء آخر عصفورٍ في السماء” أو كشذرات “بيروت” المنشورة في القدس العربي.”

الحصاد: كيف يعيش بهاء إيعالي سؤال الكتابة؟ وما هي أهميّة الاشتغال على القصيدة في تطويرها وتحديثها؟

بهاء إيعالي “سبق لي أن شاركت بتحقيقٍ عن الشعراء الشباب نشر في جريدة المدن، وسؤال الكتابة لكاتبٍ في سنّي لا يختلف إطلاقاً عن هموم الشاعر الشاب، لكنّ المفارقة اليوم أنّ مسألة هموم الشعر لم تعد تعنيني كثيراً بقدر ما يعنيني الإرث الشعري الذي أستند عليه، فما من أدبٍ وإبداعٍ من دون إرثٍ ثقافي لغويّ تاريخي يستند إليه، والمؤسف أنّ كثيراً من أدباء العرب المعاصرين لا يعيرون للتراث قيمةً وهنا أعتبر أن أدبهم أدبٌ هجين. طبعاً لا أدعو الشعراء للتمسّك بالأشكال الكلاسيكيّة التراثيّة على الإطلاق فالأدب لا تحدّه الأشكال، بقدر ما أدعوهم للعودة إلى تراثهم كمرجعٍ لغويّ ثقافي يفيدهم بتطوير لغتهم الأدبيّة، فمثلاً في السرد لا أجد أنّ الحريري بمقاماته أقلّ شأناً من دوستويفسكي عالمياً، وفي الشعر لا أجد أن المعرّي أقلّ شأناً من إليوت، وطبعاً هذه أمثلة بسيطة حيال هذه المسألة والقائمة تطول.

قد تكون أهميّة الاشتغال على القصيدة وتطويرها وتحديثها مرتبطٌ بالتطور الثقافيّ والفكري عالميّاً وعربيّاً، ففي الثقافة الفرنسيّة حدث تطوّر عظيمٌ في الأدب ومدارسه وهو ما انعكس على تطوّر شكل القصيدة وجوهرها وكيفية النظر إليها.”

الحصاد: أيّ شاعر من الشعراء تعتبره الأكثر تأثيرًا في تجربتك؟ وما هي المجموعة التي تعتبرها الأقرب إليك؟

بهاء إيعالي “لو أردت سؤالي عن الأكثر تأثيراً في تجربتي فسأجيبك بأنّ كرة القدم هي المؤثّر الأوّل والوحيد. كيف ذلك؟ كرة القدم عالمٌ واسعٌ وبهيّ، وحين أتابع مباريات الكرة أراقب تحرّكات اللاعبين وفنّياتهم وقدراتهم البدنيّة، وأحاول أن أقارن بينهم وبين الشعراء فأصل إلى نتيجةٍ كالتالي: لاعبون يتمتّعون بقدراتٍ بدنيّةٍ عاليةٍ من دون فنيّاتٍ كبيرة هم أشبه بشعراء يملكون لغةً قويّةٍ من دون جمالياتٍ كبيرةٍ في النص، ولاعبون يتمتّعون بفنّياتٍ مهاريّة دون قدراتٍ بدنيّةٍ كبيرةٍ هم أشبه بشعراء يملكون حسّاً جمالياً رائعاً دون لغةٍ قويّةٍ ومميّزة، والصنف الثالث منهم هم الذين يجمعون بين القدرات البدنيّة العالية والفنيّات المهاريّة الكبيرة وهم أشبه بالشعراء الذين يستطيعون الجمع بين القدرات اللغويّة الكبيرة والحس الجمالي الرائع،  لكن الفرق بين كرة القدم والشعر هو أنّ الصنف الثالث من اللاعبين عددهم كبير، فيما الصنف الثالث من الشعراء عددهم قليل.

من هذا المنطلق أفضّل أن أذكر بعض الشعراء الذين أحبّ قراءتهم أكثر من أن يكون لهم أثر على تجربتي، فعربيّاً أحبّ قراءة المعرّي والحلاج وزهير بن أبي سلمى وديك الجن ولسان الدين بن الخطيب والفرزدق وغيرهم من العصور العربيّة الكلاسيكيّة، وفي العصور الحديثة أحبّ سليم بركات وأدونيس ومحمود درويش وسركون بولص وعباس بيضون وبول شاؤول وكثيرين غيرهم؛ أمّا عالمياً ففي العصور الكلاسيكيّة فأحبّذ قراءة دانتي وشكسبير ورونسار وأوفيديوس وفيرجيل وغوته وبودلير وغيرهم، فيما أفضّل حداثيّاً ريتسوس وترانسترومر وكيارستمي وبونفوا وبوسكيه وغينسبرغ وغيرهم.”

الحصاد:  الترجمة تجربة جديدة طرأت على حياتك الأدبيّة، برأيك ما هو دور المترجم في المشهد الثقافي والعلمي اليوم؟

بهاء إيعالي “إنّ الأقلّية من القرّاء من يركّز على اسم المترجم في اقتنائه لكتابٍ ما. فيما يمكن اعتبار المترجم على أنّه الجندي المجهول في خضمّ هذا المشهد، فهو بنقله مادّةً إلى أيّ لغةٍ يمثّل أدوارًا عدّة: بدايةً دور القارئ الذي يحاول تخيّل مسار النص أمامه والشكل الذي يُفتَرض أن يقرأ به، ومن بعدها دور المحرّر وذلك بملاحظته لبعض ما يمكن اعتباره ثغراتٍ نصّيةً في حال وصل النص للعربية فيقوم بضبطه وترميمه، ومن ثمّ دور الناقل الثقافي بحيث يكون عقدة وصلٍ بين أدبين مختلفين عقب انهائه للترجمة ودفعها للنشر.

من الغريب أنّ كلّ ما يقوم به المترجم في عمله لا يأخذ حقّه المعنوي الكامل في إبراز دوره كاملاً، لكن أثارتني ذات مرّةٍ حادثة مقتل مترجم رواية “آياتٌ شيطانيّة” إلى اليابانية هيتوشي إيغاراشي لهذا السبب، فالفتوى القاضية بهدر دم سلمان رشدي لم تستثنِ مترجمي كتابه ومقتنيه حتّى، غير أنّه لم يحظ بحمايةٍ كتلك التي حظي بها رشدي وذلك لدوره الهامشي بنظر الجهات المسؤولة، غير أنّه كان بالنسبة إلى الرافضين للكتاب سواسيةً مع المؤلف، بذلك نال نصيبه من نقمة الناقمين؛ حتى بعد موته لم يعتبر إلّا “أحد مترجمي رشدي” وهذا ما ضاعف من هامشيّته.

إذاً المترجم باختصارٍ أشبه بكاتبٍ آخر للنص، وسأجنح أكثر وأقول إنّه الكاتب الحقيقي للنص في بعض الأحيان، لكنّه لا يتعدّى كونه ظلّاً للكاتب الأصلي، لا أحد ينتبه له ولا هم يحزنون، غير أنّه يتلقّى حرّ الشمس شأنه شأن المؤلف.”

الحصاد: هناك اليوم اتجاهٌ واضح نحو الرواية المترجمة، من الناشر والمترجم والقارئ على حدّ سواء. برأيك ما هي الأسباب التي تدفع نحو هذا الخيار؟ وكيف تنظر إلى حركة الترجمة إلى العربية في الوقت الراهن؟

بهاء إيعالي “لا أجدُ سبباً حيال هذا الاتّجاه سوى الرواية بحدّ ذاتها لا أكثر، ناهيك عن كل المهاترات الكلاميّة حيال تفوق الرواية في المبيعات ورغبة القراء بالرواية بشكلٍ دائمٍ إلخ… فالسرد منذ القدم هو مفتاح الشعوب لأبواب كثيرة، أكان لغاية التدوين أو للتسلية أو للحديث عن وقائع تاريخيّة، حتى الملاحم الشعريّة والأعمال المسرحيّة الخالدة التي كتبها اليونان واللاتين في فترة مجدهم الحضاري كانت الغاية منها سرديّة (إلياذة هوميروس أو تراجيديّات سوفوكليس مثلاً) وعربيّاً لا زلت أؤمن بأن مقولة “الشعر ديوان العرب” مقولةً خاطئة، فالشعر العربي التقليدي وبرغم جمالياته البديعة إلّا أنّه حافظ على هوامش سرديّةٍ روائيّةٍ في غالب الأحيان، والأمثلة كثيرةٌ منها لاميّة الشنفري ومعلّقة امرؤ القيس وكذلك قصائد أبي تمام، حتى أنّه لا ينبغي نسيان دور بعض المرويّات التاريخيّة (ربّما تصح تسمية بعضها روايات تاريخية) في حفظ الكثير من الشعر العربي الكلاسيكي، كتاريخ الرسل والملوك للطبري، أو كتاب الأغاني لأبو الفرج الأصبهاني، أو حتى تاريخ دمشق لابن عساكر.

أمّا اليوم فتطور السرد عالمياً حتى بات له أجناس أدبيّةٍ قائمةٍ بحدّ ذاتها، ألا وهي القصّة والرواية، وللسبب الآنف ذكره بات الطلب على الرواية أكبر من غيره عالمياً وليس عربياً، ومن هنا تتّجه الترجمة نحو خطٍّ روائيّ واضحٍ أكثر من باقي الخطوط الأخرى، وأخيراً أقول: في حال صدقت مقولة “الشعر ديوان العرب”، فالرواية ديوان العالم.”

الحصاد: كانت لك إسهامات سرديّة من خلال كتابتك القصّة القصيرة ونشرك بعضاً منها في الصحافة، هل يجد بهاء نفسه ذات يومٍ كاتباً سارداً في المجال القصصي أو الروائي كالعديد من الشعراء اليوم؟

بهاء إيعالي “لا أعلم صراحةً، صحيحٌ أنّني أميل إلى السرد حتى في كتاباتي الشعريّة لكنّني لغاية الآن لا أجد نفسي كاتباً روائيّاً أو قصصياً، ففي النهاية لن أدعي أنّني “كاتبٌ شاملٌ” كالأديب الفرنسي جان كوكتو بقدر ما سأقول إنّني أحاول في كلّ شيء، وحيث أجدُ صوتي سأميل سمعي إليه؛ كما أنّني لا أفكّر يوماً حتى وإن جربت في الرواية أن أتحوّل نحوها كإبراهيم نصر الله وسنان أنطون عربياً أو جيمس جويس وجورج أورويل وبول أوستر عالميّاً، فتسمية الشاعر أحبّها (أعود بذلك لما قلته في السؤال الأوّل)، وأجدها قادرةً على مزاوجة كلّ التسميات الأخرى إن لم أقل احتواءها.”

الحصاد: ما هو جديد بهاء إيعالي شعراً وترجمة؟

بهاء إيعالي “بدايةً أودّ القول بأنّني شرعت بقراءة أعمال كيليطو بأجزائها الخمسة التي صدرت طبعتها الثانية عن دار طوبقال في العام الفائت، وحالياً أشتغل على ترجمة روايتين وكتاب سيرة، أمّا شعراً فأكتب بين الحين والآخر نصّاً أو عبارةً أو حتى مقطوعة صغيرة، وكلّ شيءٍ في أوانه يأتي.”

العدد 126 / أذار 2022