فلسطين وحكاية ماجرى ..من خلال التغريبه الفلسطينيه

عمل رائع لمخرج فقدناه،كان يدرك ماذا يعمل دون طبل او شعارات

يتميز ذلك المسلسل عن غيره من الاعمال التي سبقت في طرح القضية  الفلسطينيه ،عبر صورها المختلفة،أنه يتعرض لها بطرح سردي،ومن خلال عرض يتتابع الى حد استعراض أحداثها عبر عقود من الزمن، وترجع فيه الفصول الى ماوراء(أحداث النكبة) عام 1948،وتجري الكاميرا  بمتابعة دقيقه لأحوال أسرة،وما تعرض له أبناؤها من محن وأهوال ،دون ان تحفل الحلقات،بشعارات صارخة،أو شهادات زاعقة توزع المسؤوليات وفق الهوى أوالغرض. من جهة أخرى تكمن أهمية هذا العمل، في انه يساهم في انعاش ذاكرة بعض العرب بقضيتهم الرئيسية،وسط زحام القضايا التي تعتصر العالم العربي الآن.انه ايضا يعمل على تثبيت الذاكرة للأجيال الحالية التي تتعرض ? دوما –  لعملية غسل الذاكرة التاريخية،ليس فقط من الوجدان العربي،وانما ايضا من الفكر السياسي

المخرج الفنان حاتم علي

والأنساني ،وذلك  بتشويه النضال الفلسطيني ،ان لم يكن بتمزيق حقوقهم المسلوبه، بدواعي انهم من باعوا أرضهم . ان المسلسل ليس هو غاية المراد ولا هو بالعمل المعجزة،ولكنه في الاول وفي الآخر عمل فني راق ،يسلط الضوء مباشرة على قضية شعب ، سلبت ارضه ،وتنشط قوى متعددة لطمس حقه ،ومايمكن ان يجره ذلك الى التكرار في سلب جديد للارض العربية. المسلسل يقوم باستعراض الحياة الاجتماعية الفلسطينيه بواقعها ،من خلال احتياجاتها الحياتيه ،و أيضا بأحلام شبابها ،من خلال اّمالهم المرتقبه،والطبقات ألأجتماعية التي تشكل مجتمعهم ،والتي تجاهد من أجل مواصلة الحياة ،وسط ظروف قاهرة ،واطماع شديدة الشراهة ،والأمر من ذلك أنها ايضا غير انسانية.!!

اشارت المسـلسـل

نقطة البداية ان المسلسل يستعرض قصة حياة اسرة فلسطينية تكافح من اجل ان تقيم أودها في ظل حكم الأنتداب البريطاني على فلسطين ،وهو احد نتائج الحرب العالمية الاولى ،ووفق اتفاقية سايكس ? بيكو التي عقدت بين فرنسا وبريطانيا عام 1916 ،لتقسيم الخلافة العثمانية بعد انكسارها في الحرب ،وقد فضحت الثورة الروسية هذه الاتفاقية ونشرت نصوصها في جريدة ( البرفدا). تم تعيين هربرت  صمويل البريطاني اليهودي الصهيوني مندوبا ساميا في فلسطين لكي يقوم بتنفيذ وعد بلفور وزير الخارجية البريطاني الذي صدر في 2 نوفمبر عام 1917، باعطاء وطن قومي لليهود في فلسطين.تلخص الأحداث التي مرت بها تلك الأسرة حقبة تاريخية شديدة الأهمية ،امتدت مابين سنوات الثلاثينات ،حتى سنوات الستينات،وعلى وجه التحديد حتى نكسة يونيو عام 1967  من القرن الماضي (القرن العشرون) وقد ذخر المسلسل بالأشارة الى الزعماء الذي قادوا حركة النضال الوطني في فلسطين حتى دخول الجيوش العربية الى ارضها ،وتبدأ بعدها مرحلة جديدة ،تتسع  لا شك للمزيد من الاعمال الفنية التي تعالجها ،وقد شهدنا بالفعل العديد من تلك المحاولات ،تتفاوت في مستواها الفني والسياسي .لم يضغط المسلسل على تفاصيل حركة هؤلاء القادة الكبار، ولكنه اشار لهم ربما حتى لا

تستغرق تلك التفاصيل استمرارية السرد لرحلة تلك الأسرة في اشكاليات تلك الفترة القلقة  سواء في عملية الهجرة الداخلية ومايلاحقها من تغريب أوالذوبان في حركة الصراع من اجل استمرار الحياة ذاتها في خضم مخاطر جمة، فصوت الرصاص،لاينقطع،وعمليات الأجتياح للمدن والقرى تتصاعد،وما حدث في ( دير ياسين) مفزع وقاهر،ورغم كل الماّسي والشقاء والأحزان التي غمرت واقعهم ،فقد كانت المقاومة تتواصل رغم الافتقار للسلاح،أوللأمان. ظهر البطل (عز الدين القسام ) في لقطه واحده ،تشير الى دوره، واندلاع ثورة 1936 نتيجة اعدامه،وتمت الأشارة الى ( فوزي القاوقجي) قائد جيش الانقاذ الذي قاد عدة معارك ،واستقال بعد توقيع معاهدة 1949. كذلك تمت الاشارة الى قائد عظيم من قادة المقاومة(عبدالقادر الحسيني) وقد قاد العديد من المعارك حتى استشهد في معركة (القسطل). هذه الاشارات حتى وان كانت سريعة وعابرة الا انها عميقة الدلاله في استمرار النضال ،وتعميق فكرة المقاومه، وتلك معاني من المهم ابرازها  عبر الأعمال الفنية ،وذلك لما تتمتع به تلك الاعمال من جماهيرية واسعه ،وتراها الأجيال التي لم تعاصر تلك الاحداث ،بجانب الأسر العربية بكافة اعمارها،وحتى الأطفال الصغار،فتلتصق تلك الاشارات العابرة في الذاكرة، لكي تشكل مخزونا نضاليا يمكنه أن يصبح زادا لأجيال تتواصل بالمعرفة ،فالمعركة كانت،ومازالت،ولابد ان تتواصل في الحركه.

وقائع المسلسل

تدور وقائع المسلسل حول اسرة (اليونس)،وهي أسرة فقيرة تعيش في احدى القرى الفلسطينية وتتكون العائلة من الأب (أبو أحمد) ويقوم بالدور الفنان(خالد تاجا) وزوجته (أم أحمد)وتؤديه الفنانه( جولييت عواد) وألأولاد الأكبر( أحمد أوأبو صالح) وقد قام به الفنان (جمال سليمان)وعلي ويؤديه الفنان (تيم حسن) وحسن ويؤديه الفنان (باسل خياط ) ومسعود ويؤديه الفنان (رامي حنا) و خضرة وتؤديه الفنانه (نادين سلامه). ترتكز قصة المسلسل بشكل عام حول تلك العائلة “اليونس” الفقيرة التي تعيش في الريف الفلسطيني ثم تتحدد بشكل أكبر حول شخصية “علي” التي أداها  تيم حسن وهو الراوي في المسلسل ،وتبدأ ألأحداث بشكلٍ رجعي، حيث جاءت وفاة “أبو صالح” وعودة ألأبن للعائلة “علي” من أمريكا بعد أن نال شهادة الدكتوراه، ثم يقف ذلك ذلك الأخ “علي” أمام جثمان “أبو صالح”، ويشرع في شخصية الراوي ليقوم بسرد جوانب المأساة محدثاً نفسه بمرارة عن بطولة “أبو صالح” وخوفه على الذاكرة الفلسطينية،من ان يعتريها النسيان لدور حركة المقاومة وابطالها ، ثم يتبع ذلك المشهد شارة المسلسل، حيث  تبدأ حكاية هذه الأسرة في قرية فلسطينيه لم يحدد اسمها عام 1933،اي أثناء الانتداب البريطاني ،وتكشف الأحداث عن معاناة تلك الأسرة من خلال الظروف الصعبة ،وجوهرها  الظلم والأستغلال  الذي طال حتى في الدراسة وتلقي العلم لأبنائها. تتطور حركة

الأحداث، مع توالي الحلقات ،فنشاهد تغير حال الاسرة ،مع تطور شخصية البطل (أبوصالح) وتقلده زمام القيادة لأحد فصائل المقاومة، في الزخم الذي أضافته ثورة 1936،وتشهد مرحلة من العدل والمساواة،مع باقي المجتمع المحيط ،وتتزوج (خضرة) من مناضل اّخروهو ( العبد) الذي يفتقد وجود السلاح في المعركه ،وتقدم الزوجة على بيع حلي زفافها ،وذلك لشراء البندقية الأحدث والأدق لزوجها ،حتى يتمكن من أداء رسالته في المقاومه بشكل أكثر اقداما واقتحاما ،وأيضا أمانا ،بقلب ونفس راضية .لكن المقاومة ايضا لها تضحيات على شكل اّخر،وبمستوى أفدح ،فنشهد استشهاد الزوج في أحد ألمعارك،وتعود خضرة لتعيش مع الأهل ولايبقى من الزوج سوى البندقيه ،التي تحرص عليها خضرة ،لتهديها للأبن ليواصل معركة الوطن وألأب معا .تشتد حركة الصراع بين الغزو الصهيوني وكفيله الاستعماري ،وحركة المقاومه التي تتطلع الى السند العربي ممثلا في دخول الجيوش العربية ،وهي أزمة كانت لها فصولها وظروفها،وايضا تداعياتها. تحت سطوة المجتمع والتقاليد تضطر خضرة للزواج مرة أخرى،كما يتزوج ابو صالح ،واخيه مسعود ،ويتعرض حسن لتجربة انسانيه ،هي في دلالاتها أثر مما تفرضه الظروف القاهرة ,ثم تتلاحق الأحداث مع قيام الأحتلال المزدوج البريطاني والصهيوني بعمليات التطهير العرقي لفلسطين،وانعكاس ذلك بتفاقم المشكلات المحيطة والمحبطه

للفلسطينيين ،وتبلغ النهايات المأساوية مداها في نهاية الثورة ،وينتهي الأمربالنتائج المروعة التي شهدتها الساحة الفلسطينية، وتصبح المخيمات بديلا للمدن والقرى ،ومكانا للسكن والمأوى عوضا عن المنازل أو البيوت. مع جيل الآباء والأحفاد تنطلق مرحلة اخرى من احداث المسلسل عبرعائلة ( اليونس) بعد ان استقر بهم الحال في مخيم اللاجئين ،فنرى ( ابو صالح ) وقد أصبح صاحب دكان صغير في المخيم ،وعلي أصبح أستاذا جامعيا بعد ان حصل على درجة الدكتوراه ،في الوقت الذي استشهد فيه حسن ،وأوصى ان تكون بندقية ( العبد) التي استعارها من شقيقته أرملة (العبد ) أن يتم تسليمها الى ولدهما ( رشيد) الذي يعيش في كنف خاله ( أبوصالح) .مع حرب عام ( 1967) تبدأ موجة هجرة جديده ،ويرفض ( ابو صالح ) أن يلتحق بهذه الموجه، تحت اعتبار ان المكوث في الأرض في حد ذاته نوعا من الجهاد ،وهو يفتح الباب بذلك الى النهاية التي شاء المخرج ان تظل مفتوحة أمام أجيال لاحقه،وذلك من خلال المشهد الأخير،فنرى(رشيد) أبن ( العبد) و( خضرة) حاملا

 ( بندقية ) والده ، يتقدم على الطريق ،ويسير بها ايذانا بمواصلة المقاومة لأسترداد الأرض السليبه.

المسلسل انتجته شركة سوريا الدولية للأنتاج الفني ،وجرى تصويره بالكامل في سوريا عام 2004

كتله وليد سيف وأخرجه الراحل الفنان  المبدع حاتم علي.

حـــوار مـع المخــرج

قبل أن يرحل هذا الفنان المبدع ( حاتم علي) اجريت معه الكثير من الحوارات ،ولكن مسلسل (التغريبه الفلسطينيه ) تحديدا حاز الكثير من الوقفات معه تضمنت عوامل الاختيار،وكذلك اسلوب المعالجه الذي اتبع،وكذلك بعض القضايا التي تمت الاشارة اليها . من ذلك مثلا اسم المسلسل ( التغريبه) وليس ( الشتات) فقال ما يمكن ان يفهم ويلتقطه العقل أن ( الشتات) تعبير يمكن ان يستخدم كتعبير في الجانب الأنساني ،وقضية فلسطين ليست مجرد ( شتات) يستحق الرأفة أو الرحمه ،ولكن ( التغريبه) هي غربة عن الوطن وعن الأرض وعن البيت ولذلك وجدنا تعبير التغريبه اكثر التصاقا بالقضية من تعبير الشتات الذي يعد أنه بلا رجعه،والمسلسل منذ البداية كان الأسم هو(الدرب الطويل) ولكن تم استبداله ،وكذلك  استبعنا كلمة ( التهجير) وليس ذلك تقليلا من هذا التعبير، ولكن وجدنا ان الأنسب هو ( التغريبه) . لم يتعرض المسلسل ايضا (لأيلول الأسود) أو (الخروج من لبنان) ،او (اتفاقيات اوسلو)،أو (الأنقسام الفلسطيني)، وهي في مجملها قضايا المت بالقضية الفلسطينية ،وقد أثرت ،وتأثرت بها من خلال التفاصيل .استطرد قائلا ان  القضية الفلسطينيه قضية مفتوحه،ولم ندخل فيها صراعات أو خلافات ايدولوجية ،و اّثرنا أن نتوقف عند (معركة 67 ) والقضية بذلك لم تنته ،ومازالت فصولها مفتوحه . لقد أردنا باختصار ( تحرير النص الابداعي من الأيدولوجيات). قال حاتم علي كذلك ،فيما يمكن فهمه لقد اردنا بذلك العمل نقل الدراما التاريخية من الصوت الخطابي الى المعالجة الدرامية التي تستند الى النص التاريخي بتداعياته السياسيه ،وليس الى التأثير العاطفي من خلال الكلمة الرومانسية أو التعبئه من خلال الصوت الجهوري . يردد حاتم علي عباره تؤكد على معنى الالتزام بالقضية الأم بالقول ( ان فلسطين هي قضيتنا جميعا ،وهي تستحق عن جدارة واستحقاق أن تتناولها الأعمال العربيه على تعدد مواقعها وجهاتها الأنتاجية . يعد المخرج الراحل حاتم علي رائدا للدراما التاريخية العربيه ?فقد قدم منها العديد من الروائع، ونذكر منها على سبيل المثال :

 1 – صقر قريش ويحكي سيرة عبدالرحمن الداخل مرورا بسقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية ،وفراره الى الأندلس ليعيد احياء الدولة الأموية مرة أخرى . 2 – .ربيع قرطبه ويحكي سيرة المنصور محمد بن ابي عامر وطموحه الذي صعد به من مجرد رجل فقير الى حاجب الخليفة وحاكم الاندلس الفعلي. 3 – ملوك الطوائف ويروي قصة عصر ملوكالطوائف في الاندلس مركزا على المعتمد بن عباد

وغير ذلك من المسلسلات والأفلام السينمائية. رحل حاتم علي الفنان السوري المبدع الذي ترك تراثا يشكل ثروة فنية هائلة من حيث النوعية ومن حيث الصناعة ايضا ،وهكذا يبقى الأبداع هو الفرس الذي يصهل بقوة واقتدار لكي ينبه ويعلم ،ويثري الحياة بالعذوبة والجمال والقيم الرفيعه.

أمين الغفاري

الدفاع عن الارض واجب مقدس

العدد 114 / اذار 2021