فيروز… قوة لبنان الناعمة

محمد علي فرحات

فيروز، ابرز الوجوه الحية للابداع اللبناني، تبدو هذه الأيام مثل شاهد على حرب سياسية وثقافية أخطر من حرب المسلحين، فما من مجادلة حامية بين شخصين أو مجموعتين الاّ وتتحول الى تأليه أو تجديف بلبنان نفسه وصولاً الى طرح مبدأ وجوده، في سياق صراعات داخلية صغيرة تخفي وراءها صراعات اقليمية ودولية.

كان لبنان دائماً ملتقى الأفكار ومكان حوارها أو صراعها، لكنه يتحول بين فترة وفترة الى ميدان حروب شبه أهلية، يندرج فيها ضعفاء الحس الوطني وفاقدو الايمان بحتمية اللقاء السلمي بين الانسان والانسان.

ونلاحظ في مناطق لبنانية عدة جهوداً ميليشياوية لمحو الذاكرة الجماعية واحتقار احتفالات العمل في الريف والمدينة، حيث الايقاع المشترك للمواطنين المنتجين اياً كانت اصولهم أو معتقداتهم الدينية. كأن المتشددين الذين يتم شحنهم بأفكار متطرفة وبمساعدات مالية يعتبرون حياتهم اليومية مجرد معطى خارجي لا علاقة له بالمكان الواحد الجامع. وهنا نرى الطائفيين الجدد يفضلون علاقتهم مع الطوائف التي تشبههم خارج الحدود على علاقتهم الطبيعية مع اللبنانيين من الطوائف الأخرى المختلفة. وهكذا يحاول المتشددون هؤلاء تأسيس بدايات لانشقاق أهلي. ويتعزز هذا الوضع الاجتماعي المأساوي مع الانهيار الاقتصادي والمالي الناتج عن فساد الفئات الحاكمة وعن دفع من قوى خارجية ذات أطماع.

ما علاقة كل هذا بفيروز؟

هذه العلاقة موجودة بالاستناد الى أن الأفراد والمؤسسات الفنية الكبرى تكتسب شخصيتها من التعبير عن وجدان مجتمعها لتصبح جزءاً من الانتماء الوطني العابر للأفراد والجماعات والابداعات الفنية، ففيروز في صورتها المتكاملة مع ابداع الاخوين رحباني ومع استعادات التراث الغنائي الباقي في لبنان والعالم العربي ليست مجرد مغنية تظهر في الصورة ثم تنطوي، انها بتكوين عملها الفني القائم على جماعة مبدعة وتراث حي وموهبة مميزة، تشكل معلماً قادراً على البقاء، في معظمه على الاقل، ويمتد حضوره الى أجيال لاحقة في منطقتنا العربية ولدى افراد في العالم يهتمون بفنون الشرق.

هذه الصورة المتفائلة لا يحجبها الواقع اليومي لانحدار الذوق العام وبروز طبقة لا علاقة لها بالفنون سوى علاقة الاسم المعلن: ايقاعات مستعارة وموسيقى هجينة وكلام فج وأصوات تصنعها التكنولوجيا. نحن هذه الأيام نشهد تراجعاً في الفنون كلها يترافق مع التراجع الحضاري والعجز عن استنهاض حيوية المجتمع وقدراته الدفينة على العطاء. صورة متفائلة لفيروز على رغم تجاوزها ال٨٥ من العمر. فهي الحارسة الرئيسية لتراثها على الأقل، وهو نتاج تكامل صوتها مع موسيقى وكلمات الأخوين رحباني، زوجها عاصي وشقيقه منصور، اضافة الى اسماء شعراء وموسيقيين جرى ضمهم الى هذا التكامل واندمجوا فيه، فعلى صعيد الشعراء هناك سعيد عقل وجبران خليل جبران والياس ابو شبكة وجوزف حرب وميشال طراد وطلال حيدر وعبدالله غانم والأخطل الصغير بشارة الخوري، وهارون هاشم رشيد ونزار قباني وايليا ابو ماضي وأبو سلمى. وعلى صعيد الموسيقيين: فيلمون وهبي وزياد الرحباني وزكي ناصيف ومحمد عبد الوهاب ونجيب حنكش ومحمد محسن، فضلاً عن أعمال لسيد درويش وموشحات اندلسية وقدود حلبية وتراتيل دينية وفولكلور حيّ لبناني ومشرقي.

يتراجع الفولكلور الأصيل في بلادنا وتتعرض الفنون الشعبية العفوية، وفي مقدمها الغناء، لعولمة دينية تلغي خصوصيات الشعوب ولعدمية ثقافية تهدف الى ضياع الشخصية الوطنية تمهيداً لاخضاعها لنفوذ أجنبي أو أكثر، لكن لبنان والعرب لا يزالون يرفضون هذا المسار الخاطىء، فهم منفتحون على الآخر وليسوا مجموعة جنود يلبون أوامر خارجية أحياء أو شهداء. وقد أدرك الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قوة لبنان الناعمة التي تشكل فيروز أحد رموزها الحية فعمد الى زيارتها في بيتها تحية منه وتقديراً لما تمثل، فيما اكتفى باستقبال القادة السياسيين اللبنانيين في سفارة بلاده للتباحث معهم في رؤية لخروج لبنان من أزماته المتلاحقة، خصوصاً بعد التفجير المروع لمرفأ بيروت .

هي قوة لبنان الناعمة لكنها ايضاً قوة الفن حين يجهد ليصبح قابلاً للاستمرار وديمومة الحضور، والفن الفيروزي-الرحباني هو في الاساس تعبير عن وجدان الانتماء الوطني واحترام التاريخ والسلام بين الجماعات المتنوعة، كما انه نص صوتي موسيقي متدفق من بيئة الأدب والثقافة المنفتحة على الانسانية كلها. هو حب الأرض والشجر والنبات المتواضع، يتجلى في لغة عامية مبدعة ومشذبة وراقية وفي لغة عربية فصحى محررة من التعقيد والتكرار المملّ. أما العمق الموسيقي فهو ايقاع قريب من السامعين يحفظ الذات ولا يغرقها في بحور الآخرين. وفي لفتة مبدعة الى الصمت كمنتهى للصوت وكخلفية حافظة له، قالت فيروز في لقاء صحافي في القاهرة: “أنا من أصدقاء الصمت. سألوني عن شعوري حين غنيت أمام أبو الهول فقلت: أبو الهول صاحبي من زمان وأنا من أقربائه. أحبه لأنه صامت”.

والفن الفيروزي-الرحباني يجمع بين الهواية والاحتراف. الهواية هنا تعني الشغف في حرارته الاولى والبراءة والصفاء، في حين أن الاحتراف يعني التمكن والمهنية وامتلاك المعارف وممارسة الخبرات في آن واحد،ففيروز الموهوبة بصوتها تدربت منذ اكتشفها الاخوان محمد وأحمد فليفل حين كانت تلميذة موهوبة في المرحلة المتوسطة عام ١٩٤٨. واعتنى بها موسيقيون ومغنون أساتذة في المجال مثل حليم الرومي، وأكمل عاصي الرحباني هذا التدريب حين التقاها ولحن لها قبل أن تصبح زوجته عام ١٩٥٥ ورفيقة عمره حياة وفناً.

يقول منصور الرحباني: ” منذ ان انضمت الينا فيروز بدأت متوجة بالمجد، فاضافة الى جمال صوتها وموهبتها الخارقة، هي ظاهرة لا تتكرر: صوتها مميز، وكل ما جاء في صوتها من خوارق وما برعت به من صقل وتجارب، جعل منها رمزاً من رموز عصرنا. تأثر بها الناس، حتى الشعراء، في لبنان والعالم العربي. لم تكن مجرد صوت فحسب بل سطعت بحضورها الآسر، وراح صوتها يخترق الحواجز العاطفية ويرسّب في لاوعي سامعه الأفكار التي يحملها”.

و نخشى أن نفقد صوت فيروز مع اختناق لبنان الوطن. لكن المعنى لا يزال قائماً. نسترجع أعمالها ونربطها بواقعنا اليومي. هي والرحبانيان لم يبيعوا أحلاماً كما يتهمهم كثيرون، ففي ذروة الخسارة تتراجع الفنون الكبرى ولكن لا تزول. هناك قاعدة اجتماعية وثقافية وسياسية للأغنية الفيروزية، وهي قاعدة متعددة وقد تبدو متناقضة أحياناً، تعبر عن عزلة لبنان كما عن انفتاحه، ونراها تعبر عن بلاد الشام والمدى العربي الأوسع، وهي حين تنحاز الى المظلوم تبدو أقرب الى نشيد يصبغه حنين الى السلام والاستقرار والوضوح.