تقديس المكان من 1/1/1 إلى 1/1/2023

الدكتور نسيم الخوري

أبحث عن معاني تقديس المكان أعني فلسطين الضائعة بل المتجرجرة فوق ألسنة الأمم، مع وعيي بأن الأمكنة تختصّ بكلّ مجموعة في الأرض تختار حيّزاً مقدّساً لها وله مناظره ومقاماته وطقوسه منذ الصخرة التي استخدمها يعقوب وسادة،والتي يزعم اليهود أنّ الملك سليمان شيّد فوقها بعد دافيد الهيكل الأوّل أي في المكان الذي حدّده له أبوه على جبل الموريّا وحاول إبراهيم التضحية فيه بإبنه إسحاق.هذا المكان العالمي الذي قد يخبّيء حرباً عالمية ثالثة تنمو في العقل المتوحّش المعاصر، يذكّرني بكلام الله عندما قال لموسى: “لا تقترب من هنا. إخلع نعليك لأنّ المكان أرض مقدّسة” وقد استقرّ الكلام في التاريخ نواحًا أمام الجدار الذي يرتدي فيه اليهود ويتبعهم زعماء العالم وقادته القلنسوة فيتأوهون دفاعاً عن المكان السياسي العالمي المقدّس ويقصدون  به “إسرائيل”.

نعم، أبحث كيف يرتسم هذا المكان، عندما نقول أو نكتب أو نتطلّع إلى أخبار فلسطين في كلّ لحظة، سواء في أذهاننا أو تحت حبرنا بعد 22 قرناً على برودة رماد المذود؟

أبحث في تاريخ المسيحيين والعالم عن معاني هذا الرماد لفلسطين وللفلسطينيين بعد 2022 سنة من الاحتفالات السنوية بمولد الناصري بعيداً في “بيت لحم” وتراني أتخيّل مؤمناً رافقته نجمة الصبح ليغمس سبابته برماد المذود المبلّل بزيت القدس ليرسم 1/1/1  بداية التاريخ الميلادي.

يسكنني سؤال أبداً حول ميلاد الناصري وقد ولدت في ال1948 مع نكبة فلسطين، حول تمتمة العجائز وصلواتهم بمسابحهم الطويلة، وفي زوايا البيوت معظم أطفال الدنيا ينتظرون قافزاً من فوهات المواقد بالهدايا المزركشة لكنّ المدخنة باردة منذ قرون وتبقى فلسطين رهينة التكرار بدولةٍ أو دولتين فوق شفاه الأمم الصفراء المشققة.عندما يقع الصغار في النعاس، يدخل “البابا” بثيابه ولحيته الحمراء ليضع الهدايا الملفوفة خلسةً تحت الأشجار المصطنعة ويمضي. لا يتجاوز حصاد هذا التاريخ البشري سوى تراكم إحتفالات وإبتهالات على الشاشات وصور متكررة لطفل ضاع ومعه تضيع دولة إسمها فلسطين بانتظار أن تولد لا في مذودٍ ولا في بيت لحم في أرض الزيتون.

من هناك انتظارات ولادة المكان الذي قُضم ونُكّل بأهله بالمعاني كلّها ليختفي معنى رهج المولود الأوّل، وتتحوّل فلسطين التي كانت الموقد إلى نشيد عربي عام، ويتحوّل الفلسطينيون المشرّدون مجدداً في المخيمات وأرض العرب والكون الى نصب أشجارهم في الدمعة والجرح والمخيمات وهي ليست أمكنتهم. ويتحوّل العجز والتوحش المُزمن الى الخطابة والنفاق والإنقسام حول إستضافاتهم أو إعادتهم بعلك صوف الشروط والقوانين والوعود لتشريدهم في الأرض.هم يسبقون الحبر والفكر والأعياد المتراكمة خروجاً من مكانهم أساساً فتنتشر وتدخل بيوت الدنيا عيداً له صفات تستوجب عيداً عالميّاً في الأعياد البشرية ينهي قضية تاريخ الجراح من فلسطين وفيها.

هذا مكان غلبت السياسة فيه مضامين القداسة. وأرى فروقات قاتلة بين النصوص والأمكنة أو الأشياء الثابتة على اعتبار أنّ القدّيس يمحو الأمكنة ولا مكان له سوى الأرض كلّها بينما المقدّس يسوّى ويرتّب ويظهر في الأمكنة كلّها التي يحددها البشر. ولد الناصري في مذود، وعمّت الكنائس الأرض والأذهان والسلوك بالمعنى الإجتماعي والسياسي وطموحات الشعوب والدول وتحوّلت متاحف وأمكنة تجارية وسياحية في الغرب. يحجّ الكاثوليك نحو مغارة “سانت لورد”، ويخرج البروتستانت من الأمكنة كلّها نحو المكان السياسي المحصور ب”مقبرة غيتسبرغ”، بما يرضي اليهود في العالم، ويخرج المحاربون القدامى نحو أقواس النصر وقبور الجنود المجهولين والشعلات التي لا تنطفيء في الدنيا منذ الحربين العالميتين اللتين أورثتا 23 مليون قتيل ويرتفع الصوت مجدداً من أوكرانيا وروسيا والعالم مثقلاً بالتهديدات بحروب نووية، في الوقت الذي سبق للروس أن تدفّقوا مع سقوط الشيوعية الى إيقاظ الكنائس والقبب الأرتوذكسية بعدما اشتاقت السياسة للإيمان بحثاَ عن تجدّد عظمة القياصرة.

صحيح أنّ الكعبة أو الحجر الأسود الملفوف بقماشٍ أسود مطرّز نزل على مكّة من السماء ويرتفع 15 متراً، ويطوف حوله الحجّاج المسلمون، ساعين بدورهم وجاهدين في الأرض بالمعانى الدينية والسياسية والقيمية لتسليم أمورهم لله فيبارك صحواتهم ويزهو أيّ مكانٍ في الأرض كلّها عند فلش السجادة والتوجّه نحو القبلة والركوع فالصلاة. لكن…هل يتذكّر مؤمنو العالم أنّ أنامل النساء القبطيات في مصر كنّ يطرزن الثوب الأسود لباساً للحجر الأسود، تذكيراً بعظمة الإرتقاء بين المسيحيّة والإسلام في تخليص فلسطين.

يتحاشر المؤمنون الوارثون لكلمات الله التوحيدية الثلاثة حول الأرض كلّها بالمعنى الديني لكنه الملطّخ  بالسياسي فيلمسون صخرةّ أو ضريحاَ ويمارسون طقوساً وأناشيد أو يقبّلون صوراً وأيقونات، لكنه تحاشر لم يتّخذ مداه الصادق في التلاحم الإجتماعي لطرد الظلم والقهر والغلبة والعدالة للفلسطينيين حيث الصمت الأبلغ أو الأجيال المكابرة على الحق والحرية بصفتهما الموسيقى الإنسانية الحاملة للمكسورين والمشرّدين في ديار العرب والعالم.

تتكاثر الأمكنة المشتتة التي تمطّ أعناقها نحو السماء لتصبح ناطحات سحاب وقبباً مذهّبة، أو قصوراً رئاسيّة أو بلدية في حضارة تنافس الأبراج والعمران بين الدول تمجّد بها السلطات المستوردة وتتأسّس على أوهامٍ معاصرة ، ليحضر الفرعون خائفاً على مجد الإهرامات، ويمكث الإمبراطور الصيني إبناً للسماء في قارة تزحف نحو الأرض، فيخرج القادة نحو الملوكيات، وكلّ هذا التشاوف الخاص يقودني نحو الأسطورة التي تُخبرنا بأنّ الشجرة الأولى كانت تظلّل التنين عند جذعها، بينما كانت عصفورة السعادة تضع بيضة الحياة فوق غصنها الأعلى. هذه البيضة المطلّة على الدنيا هي اليمامة التي تنوح واقفةً فوق قبب تُناطح السماء ولا نصل إليها إلاّ بالمصاعد الهائلة السرعة، وهي تذكّرني أيضاً بالنجمة التي تعلو فوق أشجار الميلاد في زوايا القصور الرئاسية وساحات المدن وخيام الفلسطينيين.

لقد أضاع العالم نجمته التي تذكره بعليائه، وعندما أدخل إنساناً في جلدي لا في الغابات الدولية الموحشة أجد طفلاً فلسطينياً يقاوم بحجر مقلاعٍ  أو بصاروخٍ أو من سجنٍ أو كهفٍ أو في إشتعال مذود لا رماد فيه.