التخطيط الاستراتيجي والآمن القومي في عالم متداخل ومتغير

أ.د. مازن الرمضاني*

في عالم صار أكثر تداخلا وتعقيدا، بل واشد خطورة’ يضحى الاستعداد المسبق للتعامل مع المعطيات المتغيرة، سلبا أو إيجابا، لهذا العالم تأمينا للمستقبل المنشود، أولوية ذات أهمية قصوى. لذا قيل: أن من لا يجعل المستقبل مرجعيته لا يكون المستقبل له. ومنذ الاخذ بالتفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته العملية، أي دراسات المستقبلات، في منتصف القرن الماضي والدعوة إلى التفكير بالمستقبل واستشراف مشاهدة الممكنة و/أو المحتملة و/أو المرغوب فيها، في انتشار شمل العالم تقريبا.

وعلى الرغم من تأثير المعطيات الراهنة لواقع التردي العربي في دفعنا، نحن العرب، إلى ترك تطورنا التاريخي يمضي من دون أن يكون لنا دور فاعل في تحديد مخرجاته ومن ثم بناء المستقبل الذي نريد، إلا إن حتى سلبيات هذا الواقع لا تبرر البقاء خارج صناعة تاريخنا الوطني والقومي على وفق رؤيتنا وارادتنا. لذا، ومن أجل ألا نستمر من الخاسرين، يُعد الآخذ بالتخطيط الاستراتيجي كمرجعية اساسية لكيفية اداء الدولة العربية لوظائفها، الداخلية والخارجية، هو السبيل لبناء المستقبل المنشود ابتداءً من الحاضر. ومن بينها وظيفة تأمين الآمن القومي.

فأما عن التخطيط الإستراتيجي فهو عموما، ينطوي في عالم مثل عالم اليوم على أهمية خاصة. ويتفق الرأي على أنه يٌعد أحد أبرز المستلزمات الأساسية لكل بناء حضاري ينحاز إلى المستقبل. وغني عن البيان أن الاستعداد للمستقبل هو الذي يؤمن البقاء والاستمرار. فالأهداف المنشودة لا تتحقق بالتمني وإنما بالعمل الواعي لأهدافه ولقدرته على تأمين التوازن بين ما يعد منشودا في الحاضر وكذلك في المستقبل. لذا قيل أن عدم الآخذ بالتخطيط يفضي إلى أن يصير التفاعل مع معطيات الحياة عشوائيا، وعلى نحو يتماهى مع صيغة الإدارة عبر إطفاء الحرائق، كما قيل.

ولتحديد مفهوم التخطيط عموما، ذهبت الآراء باتجاهات متعددة. وبغض النظر عن تلك التي أدركته بدالة مجردة كالقول مثلا أنه: ” أسلوب للتفكير المنظم”, تلتقي العديد من غيرها على بعده المستقبلي. فمثلا قيل أنه:” ما يجب عمله اليوم لتحقيق ثمة شيء منشود في المستقبل”, أو هو” التفكير في المستقبل والاستعداد له.”, أو هو” التدبر الذي يرمي إلى مواجهة المستقبل بخطط منظمة سلفا لتحقيق أهداف محددة منشودة.”

ونحن نتفق مع مثل هذه الآراء. لذا نرى في التخطيط الاستراتيجي خصوصا نمط من التفكير العقلاني والابداعي الذي يرمي إلى تطويع المستقبل من خلال الاستعداد المسبق خدمة لهدف منشود عبر أدوات تنفيذية كفؤة. وبهذا المعنى، فإنه يعبر عن فكرة تقترن بسؤال مركب، هو: ماذا نريد ان يتحقق في أحد أزمنة المستقبل، وما السبل العلمية لذلك؟ وهو، فضلا عن ذلك، يتميز بثمة خصائص ينفرد بها، ومثالها الآتي: فهو، أولا، أسلوب للتفكير العلمي يتطلع إلى ترجمة اهداف منشودة خلال زمان محدد.  لذا يعد وسيلة وليس غاية بحد ذاته. وثانيا، أنه يرتبط بعملية اتخاذ القرار ارتباطا وثيقا. ففي الوقت الذي تنحصر مهمة التخطيط في بلورة سياسات مناسبة تحقيقا لأهداف محددة، تنصب مهمة اتخاذ القرار على اختيار أفضل البدائل من بين العديد منها. ومن هنا يضحى الثاني مكملا للأول.

وعلى الرغم من تماهي أنماط التخطيط مع بعضها الآخر، إلا أن التخطيط الإستراتيجي يبقى مختلفا عنها. ويتجسد هذا الاختلاف في بعده الزماني. إذ يمتد أمده أما إلى زمان المستقبل المتوسط، أي عقدان من الآن، و/أو إلى خمسين عاما من الآن. ومرد هذا الامتداد الزماني اقترانه بالسعي إلى أحداث تغيير جوهري في الواقع الذي يتعامل معه. وغني عن البيان أن تحقيق مثل هذا التغيير يحتاج إلى زمان أطول في العموم من زمان المستقبل المباشر: عامان من الآن، وكذلك من زمان المستقبل القريب: خمسة أعوام من الآن. وعل الرغم من هذا التباين بين أزمنة المستقبل، إلا أنه لا يلغي دور ازمنة المستقبل المباشر والقريب في تهيئة بعض مستلزمات بناء المستقبل المتوسط وكذلك البعيد. ولنتذكر أن بناء المستقبل المنشود لا يتحقق إلا على وفق مراحل زمانية متعاقبة ونجاحات متراكمة.

والتخطيط الاستراتيجي، كأداة لتطويع المستقبل ابتداء من الحاضر، ينبني على ركيزتين أساسيتين ومتفاعلتين، هما الاستشراف والاستعداد.

 فأما عن الاستشراف، فهو يقترن بذلك الجهد العلمي الرامي إلى الكشف عن المشاهد الممكنة و/أو المحتملة للمستقبل انطلاقا من معطيات الواقع وبعيدا عن تأثير المتغيرات الذاتية. وغني عن البيان أن دقة الاستشراف تعد شرطا مهما لنجاح عملية التخطيط. ولا يلغي هذا الشرط احتمال اقتران الاستشراف بقدر من الخطأ. ولنتذكر أن استشراف مستقبلات الظواهر الاجتماعية يختلف عن استشراف مستقبلات الظواهر الطبيعية. هذا لآن الثانية أقل تأثرا بعملية التغيير من الأولى. ومع ذلك، أن يتوافر المرء على صورة للمستقبل، حتى وأن كانت ناقصة مرحليا، أفضل من ألا يتوافر على أية صورة أصلا. فالصورة غير المتكاملة تتكامل مع مرور الزمان تدريجيا.

واما عن الاستعداد، فهو يفيد أن توافر المخطط الإستراتيجي على قدرة صياغة الأهداف المنشودة لا يعد، مع أهميته، كافيا بحد ذاته. فهذه القدرة لكي تضحى فاعلة ومؤثرة، فلابد أن تدعمها ثمة متغيرات داعمة. وعندنا تكمن أبرز هذه في الآتي:

  1. توافر الموارد البشرية والمالية الكافية، التي تتيح ترجمة الأهداف المنشودة إلى واقع ملموس.
  2. الموازنة الدقيقة بين الطموح والقدرات المتاحة سبيلا لتأمين تخطيط استراتيجي ناجح. وبهذا الصدد، لنتذكر أن الهدف، الذي يبدو جراء تأثير معطيات الزمان والمكان صعب الإنجاز، لا يبقى كذلك في كل زمان. فالإرادة، التي تنطلق من رؤية استراتيجية واعية، وقدرات داعمة، وتستخدم أدوات متجددة، تكون قادرة على تحقيق ما تصبو إليه. ولنتذكر أيضا أن الارتقاء الحضاري كان على الدوام حصيلة للإرادة الإنسانية. والتجربة الإنسانية تؤكد أن الإنسان صاحب الرؤية الحضارية والإرادة هو الذي ارتقى بالمكان إلى مستوى الزمان الحضاري، وهو كذلك الذي ارتقى بالزمان إلى مستوى المكان الحضاري. لذا يبقى الإنسان الحضاري هو الحلقة التي تربط بين الزمان والمكان ولا سواه.

وأما عن الآمن القومي، فقد أضحى متفقا عليه، أنه لم يُعد يدرك، كما كان سابقا، من منظور عسكري بحت، بمعنى قدرة الدولة على صد أي هجوم عسكري خارجي تتعرض له، وإنما صار، ومنذ ما قبل نهاية الحرب الباردة, يُعبر عن رؤية مجتمعية شاملة: وتنموية. وقد أضحت هذه الرؤية منتشرة عالميا. وقد ساعد على ذلك خصائص عالم ما بعد انتهاء الحرب الباردة. فمخرجات هذه الخصائص أدت إلى ربط تأمين الآمن القومي بتأمين مدخلاته/ مستلزماته/ الأساسية أولا. ومنها مثلا الآمن الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي…الخ.

وغني عن القول، أن الشعور بالآمن يأخذ بالتأكل عندما لا يصار إلى تأمين مدخلاته/مستلزماته/ الأساسية. وإدراكا منها لجدوى تأمين هذه المدخلات أولا، ذهبت العديد من الدول في عالمي الشمال والجنوب، إلى إلغاء ذلك التمييز السابق بين السياسات العليا، التي جعلت الآمن العسكري محورها، وبين السياسات الدنيا، التي عدت القضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية جوهرها. ومن هنا أضحى المفهوم المجتمعي للآمن القومي مفهوما عالميا.

ونرى، أن الآمن القومي، بمعناه المجتمعي، يقترن بأبعاد متعددة، أبرزها الآتي مثلا:

أولا، ارتباطه بالاستقرار والارتقاء الداخلي عبر علاقة طردية موجبة. وبهذا الصدد، تفيد تجارب دولية عبر الزمان أن الآمن عندما يتحقق، فأنه يفضي بالضرورة إلى الاستقرار الداخلي بكافة مستوياته. وهذا بدوره يسهل تحقيق الارتقاء الحضاري خصوصا عندما تتوافر مستلزماته المادية والمعنوية.

ثانيا، أن الحالة الآمنية السائدة في زمان محدد تحددها نوعية مخرجات السياسات المعتمدة فضلا عن مدى توافقها وتكاملها ومن ثم فاعليتها. لذا تقوم بين الآمن القومي وهذه السياسات علاقة سببية. ولنتذكر أن الآمن القومي، الذي تدعمه مثلا سياسات عسكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية فاعلة ومؤثرة، هو غيره الذي لا تدعمه مثل هذه السياسات. فمثل هذا الآمن يكون عادة قابلا للاختراق. لذا قيل: أن الدول لا تسقط من الخارج إلا بعد أن تكون قد سقطت أولا من الداخل. وتؤكد هذا القول أمثلة دولية عديدة ذات انتشار عالمي.

ثالثا، أن انتفاء التهديد في زمان لا يعني انتفائه في كل زمان، سيما وأن صيغ التهديد تتميز بطبيعتها المتغيرة، شكلا وموضوعا. لذا تصبح مسألة إعادة تعريف تهديدات الآمن القومي على قدر عال من الأهمية. ومما يستدعي ذلك أن الآمن القومي، كفكرة وفعل، لا ينصرف إلى تأمين الحاضر فحسب، وإنما كذلك إلى المستقبل بالضرورة. وغني عن البيان أن ضمان الآمن القومي في الحاضر والمستقبل هو مطلب لا ينال بالتمني وإنما بالاستعداد المسبق، الذي يعد التخطيط الإستراتيجي أحد أهم اركانه الأساسية. ومن هنا تنبع العلاقة الوطيدة بين التخطيط الإستراتيجي والآمن القومي.

إن هذه العلاقة تعبر عن اتجاهين: فهي، أولا، قد تكون طردية موجبة، بمعنى أن التخطيط الاستراتيجي عندما يكون محكما، فأنه بؤدي إلى زيادة القدرة على ضمان الآمن القومي. بيد أنها قد تكون، ثانيا، عكسية سالبة، وبدالة أن انتفاء التخطيط الدقيق يفضي إلى مخرجات تؤدي إلى تكريس الشعور بانتفاء الآمن. وغني عن البيان أن كل من هذين الاتجاهين ينطوي على تأثير مختلف. فبينما يضفي الآول الفاعلية والتأثير على حركة الدولة، يسحب الثاني هذه الفاعلية عنها.

لذا ينطوي التأمل في كيفية الربط بين التخطيط الإستراتيجي والآمن القومي ربطا طرديا على قيمة عليا، سيما وأن حصيلة هذا التأمل يفضي، على الأرجح, إلى صنع سياسة للآمن القومي تكون قادرة على التكيف الإيجابي مع معطيات عالم سريع التغيير. ومثل هذه السياسة تتطلب تأمين التفاعل الجاد بين صناع القرار وأصحاب المعرفة النظرية. ومما يستدعي ذلك تميز البيئة التنظيمية/ الحكومية، التي تتم صناعة سياسة الآمن القومي بداخلها، بقدر عال من التعقيد. وينجم هذا التعقيد جراء عملية المنافسة بين الهياكل الرسمية المشاركة في صناعة هذه السياسة على تسويق أفكار ترى أنها الأصلح للتعامل مع تحديات الآمن القومي.

وتفيد تجارب ثمة دول إلى أنها عمدت إلى احتواء المخرجات السلبية للتنافس البيروقراطي بين الهياكل الرسمية ذات العلاقة بالآمن القومي من خلال تشكيل هيئة عليا تتولى عملية التنسيق بين الرؤى المتضاربة لهذه الهياكل سبيلا لاكتشاف القواسم المشتركة بينها، وتجنبا لتبني سياسة قد تؤدي إلى الفشل.

ويدفع ما تقدم إلى التساؤل: ما السبيل إلى الربط بين التخطيط الاستراتيجي والآمن القومي؟ إلى ذلك تتعدد المقاربات. وعلى وفق ثمة أراء أن أكثرها توظيفا اثنان: الأولى تتخذ من التهديد العسكري منطلقا لتحديد سبل مواجهته عسكريا. أما الثانية فهي تجعل من تجنب الصراع المسلح، ومن ثم تأمين السلام، غايتها النهائية. وعلى الرغم من تباين الغاية النهائية لكل من هاتين المقاربتين عن بعض، إلا أن هذا التباين لا يلغي ضرورة التحسب والاستعداد لأسوء الاحتمالات. فمعطيات عالم متغير, كعالم اليوم, تستدعي ذلك. ولنتذكر أن تهديدات الآمن القومي لم تعد تقتصر على التهديد العسكري، وإنما صارت كذلك تقترن بتحديات أخرى لا ينفع استخدام القوة العسكرية سبيلا للتعامل معها. ومثالها التهديد الثقافي، الذي يرمي إلى الغاء ثقافات ثمة شعوب لصالح ثقافة قوة دولية مؤثرة سبيلا لاستعمار مستقبل هذه الشعوب.

إن التعقيد، الذي صار موضوع الآمن القومي يقترن به، يستدعي من المخطط الاستراتيجي ورجل الآمن القومي أن يتوافرا على معرفة علمية بمقاربات استشراف المستقبلات. فهذه المقاربات، في حالة توظيفها بكفاءة، فأنها تتيح المناسبة لاستكشاف البدائل، بمعنى المشاهد، المتعددة للتعامل مع التحديات بأنواعها, وبضمنها الآمنية, وخصوصا مقاربة بناء المشاهد  (Scenario Building) .فهذه المقاربة, التي تتميز بقدرتها على تأمين الربط بين التخطيط الإستراتيجي والآمن القومي, تنبع من فكرة مركبة مفادها, أولا,  أن المستقبل لا يقترن بمشهد واحد محدد سلفا, كما يرى البعض خطأ, وإنما بمشاهد أما ممكنة, و/أو محتملة, و/أو مرغوب فيها. وثانيا، أن المجتمع، الذي يتطلع إلى بناء مشهد جديد لواقعه في الزمان الآتي عليه أن يسعى، ابتداء من الحاضر، إلى تهيئة متطلباته. والشيء ذاته، ينسحب على موضوع الآمن القومي. فهو وإن يعبر عن الحاجة إلى مشهد يفضي تبلوره إلى تأمين المصالح العليا للدولة، بيد أن هذه الحاجة تستدعي العمل من أجلها على وفق رؤية حضارية وإرادة صلبة ومنهج علمي. ولنتذكر أن الأهداف المنشودة لا تتحقق بالتمني.

ولا يتسع نطاق هذا المقال تناول تفاصيل كيفية توظيف مقاربة بناء المشاهد خدمة لآمن قومي مستدام. لذا سنعمد إلى اسقاط مضامينها الأساسية، ولو بإيجاز، عليه، وكالاتي:

1.تثبيت تحديات الآمن القومي، ولا سيما تلك التي تشير معطيات حاضر الواقع الداخلي والخارجي للدولة إلى أن الزمان الآتي، بمعنى المستقبل، قد يقترن بها.

  1. بناء أساس معرفي دقيق لاستشراف هذه التحديات، ومن ثم ترتيبها على مستويات مختلفة (عال، متوسط. منخفض) انطلاقا من معايير موضوعية. ومن بينها خصوصا معيار مدى جديتها وخطورتها وكذلك معيار مدى يقينيتها. فهذه التحديات قد تكون عالية الخطورة واليقين معا، أو قد تكون عالية الخطورة، ولكن منخفض اليقين، أو قد تكون أيضا ضعيفة الخطورة واليقين.
  2. التركيز على التحديات عالية الخطورة واليقين، مع عدم إغفال التحديات متوسطة الخطورة، فهذه قد تتحول، في حالة تبلور معطيات داعمة، إلى تحديات عالية الخطورة.
  3. على وفق حصيلة ما تقدم، يتم بلورة المشهد المنشود للآمن القومي ، وبضمنه تحديد استراتيجية تحقيقه تتضمن الأهداف المنشودة وأدوات إنجازها.
  4. إعادة تقويم مدى كفاءة أداء هذه الاستراتيجية دوريا سبيلا أما لتجنب مخرجات الفجوة الإستراتيجية المحتملة بين المنشود تحقيقه وبين الذي تحقق فعلا، أو لتبني غيرها في حالة فشلها في تحقيق المنشود.
  • إستاذ العلوم السياسية/ السياسة الدولية ودراسات المستقبلات