فينزويلا: التنين الجريح يحتضر

جاد الحاج

اليوم يعود االمهاجرون اللبنانيون والسوريون من فنزويلا إلى بلادهم بخفي حنين. يروون حكايات قد تبدو سوريالية لمن لم يعرف حقيقة البلد ايام شافيز صالاسطورةش. لكن الذين شاهدوا وعايشوا وعانوا واقع السنوات الاخيرة قبيل رحيل شافيز يهزون رؤوسهم باسى وحزن عميقين، لأنهم ادركوا الا مفر من السقوط إلى هاوية الديكتاتورية المطلقة في نهاية المطاف.

 فينزويلا غنية بالنفط والمعادن والثروتين الزراعية والبحرية، ومع ذلك يجوعون، يقفون في طوابير خانقة للحصول على حصة مقننة من المواد الاولية، يخبئون بقايا المؤن في السراديب درءاً للآتي الاكثر قهراً وعوزاً وشحاً، واينما رحت ترى الغطس البشري في مجمعات القمامة، ترى الجوع والإهمال وغياب الادوية وترهل المشافي، وتشم رائحة النتن على ابواب المستوصفات صالثوريةش… هنيئاً للذين تمكنوا من تهريب بعض المال إلى الخارج، هنيئا لمن اشتروا ذهباً او فضة او حلى لن تفقد قيمتها الحقيقية في اسواق العالم الحرّ… والا فعملة البلاد لم تعد تساوي قشرة بصلة خارج حدودها.

سنة 2006، مباشرة بعد انتهاء العدوان الاسرائيلي على لبنان، القى شافيز خطابه الشهير في الامم المتحدة، وانتدبتني جريدة صالحياةش للقيام برحلة استطلاع إلى فينزويلا. حتئذ كنت مشتعلاً بالحماسة للرفيق هوغو الذي وقف صمعناش ضد العنت الصهيوني والمكابرة الاميركية، وكنت على اتم الاستعداد لكتابة اناشيد المديح له وتزويد القراء العرب بوصف مفصل، ساطع الوضوح للصورة الإشتراكية المثالية التي ترتع في مرابعها

صالشقيقةش فينزويلا… لكن صالحكي غير الشوفةش. رأيت الناس، كل الناس، يعيشون في بيوت محصنة بكاميرات المراقبة وابواب الحديد، والاسوار المكهربة، والحرس الدائم على مداخل المجمعات السكنية، حتى انني حملت رطل مفاتيح للشقة التي سكنتها في وسط كاراكس: مفتاح للمدخل الخارجي، ثانٍ للممر المؤدي إلى المصعد، ثالث للمصعد، رابع للممر المؤدي إلى باب الشقة، وخامس للباب المذكور… وكان عليّ ان اتوخى الحذر لدى دخولي وخروجي لئلا يكون اللص ظلي فيزج سكينه او مسدسه في خاصرتي ويسلبني… من هناك بدأت اكتشف حجم الجريمة المنظمة ومدى تورط الشرطة فيها، حجم الفساد الاداري، تمدده إلى قلب المؤسسة العسكرية، وابعاد التدهور الاقتصادي المنعكس طوابير طويلة امام ابواب التعاونيات، و فراغ الرفوف اينما دخلت إلى سوبرماركت. كتبت المراثي بدل الاهازيج بعد شهر من التجوال في المدن والقرى والارياف حتى ظنني بعض الزملاء عميلاً اميركياً!

مشهد فينزويلا اليوم يبرئني من تلك التهمة. قبضة الفولاذ خانقة، مميتة. نيكولاس مادورو يقاوم شعبه على طريقة بينوشيه، وكلما نزل المتظاهرون مطالبين بأقل من حقوقهم يلقون حتفهم في الشوارع بلا هوادة، التضخم الاقتصادي تجاوز سقف التوصيف، الامراض تتفشى والعلاجات مفقودة، والمجاعة الشاملة تتقدم مثل تسونامي بطيء، لكنه غامر.

نعم، شكلت فينزويلا ملاذاً لعدد كبير من السوريين واللبنانيين، خلال نصف قرن مضى، وكانت صمزراب ذهبش كما يقولون، غير ان سوء ادارتها، وتشتيت ثرواتها، وتعميق الهوة بدل ردمها، بين الغني والفقير، جعلها تنيناً مثخناً بالجراح المتقرحة، وليس في الأفق من ينقذه، لا ليس في الافق سوى الحرية.