في حوار مع الشّاعر شريف الشّافعي: الكتاب الالكتروني لن يحل سريعا محل الكتاب الورقي

بيروت من ليندا نصّار

في إطار تجربته الإبداعيّة الشعريّة، يواصل الشاعر المصريّ شريف الشافعي العمل على قصيدة مغايرة عبر مساءلة الذّات حول قضايا الإنسان ونمط حياته، وصعوبة ظروفه، وعلاقته بالآخر وبالوجود من حوله، فيصبح الشّعر بالنّسبة إليه المتنفّس الوحيد وسط الصّراعات الّتي يواجهها في ظلّ مشاعر الفقدان والغربة. فالقصيدة هي الوحيدة الّتي تبقى مخلصة له وترافقه غير آبهة بسطوة الزّمن.

وسط هذا العالم يخلق الشّاعر في قصيدته روحا تتسرّب إلى كلّ إنسان يواجه المصير نفسه ويتماثل معه. الشّعر بالنّسبة إليه حقيقة وصدق، التّعبير الشّعريّ عندما يتفجّر يصبح عابرا لأية حدود من شأنها أن تكبح رغبة الإنسان وحريته لتحقيق ذاته، فالقصيدة معه فعل تحرّر على عدّة مستويات.

عن »مؤسسة بتانة للنشر والتوزيع« بالقاهرة، تصدر طبعة عربية جديدة من تجربة الشافعي »الأعمال الكاملة لإنسان آلي«، تضم في مجلد واحد كلا من: الجزء الأول »البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية«، والجزء الثاني »غازات ضاحكة«.

كما تصدر في الولايات المتحدة الأمريكية الطبعة الإنجليزية من »البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية« )إنسان آلي1( عن دار نشر »أنباوند كونتنت« في نيو جيرسي، ترجمة الدكتور عمرو الزواوي.

أما العمل الثالث، فهو بالإيطالية، إذ صدرت أنطولوجيا شعرية عالمية بعنوان »غرفة الشاعر«، عن دار نشر »إديزيوني إيفا« في إيطاليا للشاعر الإيطالي جوسيب نابوليتانو متضمنة قصائد من ديوان الشافعي »هواء جدير بالقراءة« طبعته الأولى 2014 عن دار »لارماتان« باريس باللغتين العربية والفرنسية، بترجمة الشاعرة المصرية منى لطيف.

وفي لمحة عنه، شريف الشافعي، شاعر مصريّ، صدرت له ثمانية دواوين وكتاب بحثيّ بعنوان »نجيب محفوظ: المكان الشعبيّ في رواياته بين الواقع والإبداع«، 2006، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية. وقد اختيرت تجربته »الأعمال الكاملة لإنسان آلي« للتدريس في جامعة »آيوا« الأمريكية، وفي »جامعة الكويت«، وذلك بوصفها »إضافة حيوية إلى قصيدة النثر العربية«، و»نقطة التقاء حميمة بين الإبداع الورقي، والإبداع الإلكتروني«. وسبق أن شارك الشافعي في ملتقيات ومهرجانات شعرية دولية عدة.

»الحصاد« تواصلت مع الشاعر شريف الشافعي وكان لها معه الحوار التالي:

»الحصاد«: في جولة حول كتاباتك، ثمّة ثلاثة أعمال مترجمة بالعربية والإنكليزيّة والإيطاليّة شهدها مطلع هذا العام. ما كان شعار هذه الأنطولوجيا؟ وما هي أبرز المواضيع المطروحة في دواوينك المترجمة؟

شريف الشافعي: سعدتُ للغاية بصدور الأنطولوجيا الإيطالية »غرفة الشاعر« في مستهل العام الجاري 2018، للشاعر الإيطالي جوسيب نابوليتانو، متضمنة قصائد من ديواني »هواء جدير بالقراءة«.

تحمل الأنطولوجيا شعارا هو »حوار الشعراء والقرّاء حول العالم«، وتتضمن مختارات من دواوين حديثة صادرة لشعراء من دول عدة، ترجمها نابوليتانو إلى الإيطالية عن لغاتها الأصلية، أو نقلا عن لغات أوروبية وسيطة. وكانت مشاركتي، وهي التجربة العربية الوحيدة في الأنطولوجيا.

»هواء جدير بالقراءة« هو ديوان الحيرة والتساؤلات، فأقول فيه مثلا: »رصاصتان صديقتان/ تفرّقتا فجأة/ اخترقتْ إحداهما جثة/ واستقرّت الأخرى فيها/ هل أوجعَ الجثةَ هذا الفراقُ؟«. يضم الديوان واحدا وسبعين مقطعا مكثفا، تندرج كلها تحت عنوان وحيد، هو ذاته عنوان الكتاب. في تلك التربة، أواصل البحث عن موضع أرضي، أو فضائي، يصلح لقدم، بل وعن قدم تصلح للوصول إلى موضع من دون أن يبددها الفقد، حيث تشابكت ألغاز الحياة وغدت لعبة غير مقبولة، وتجمدت الآمال كسحابات معلقة، لم تمطر منذ زمن.

حاول التعبير الشعري في النص أن ينشغل بمحاولة أن تكون اللغة هي ذاتها »ماهية« ما تقوله، وليست رصدا أو وصفا لما تتناوله الكلمات. بمعنى، أن تتعرى لغة قصيدة النثر من صور الزينة، بما فيها الإيقاع الظاهري، وحليّ المجاز، مستندة إلى الاختزال الشديد، والتجريد،

غلاف احد كتب شريف الشافعي
غلاف احد كتب شريف الشافعي

والشعرية الخام، والتصالح التام مع الذات، لتفصح عن الحالة البريئة )كما هي(، وليس بالحكي عنها: »قولوا ما تتمنون/ عن البرد/ سأصفه بكلمة واحدة/ ترتجف«.

ومثلما أن القراءة تليق بهواء أصلي لم يتم تصنيعه ولا تدويره »فقط في طبعته الأولى/ الهواء جديرٌ بالقراءة«، فإن غيابا جزئيّا أو تامّا قد يكون حماية من عالم يتلون كثيرا، ويتبدل من حال إلى حال. الحياة وقتئذ هي التلاشي، والتمزق هو التحقق، والغياب هو الكمال.

في مثل هذه الأجواء، ربما: »ترتجُّ الأرضُ بشدةٍ«، فلا يشعر أحد بشيءٍ، و»ينقبضُ قلبُ طفلٍ«، فيقال: »زلزال«. أما الموت، فإنه لا يعني شيئا، إلا إذا كان موتا للفكرة: »لا خوفَ من الموت كفكرة/ الخوف من موتِ الفكرة«.

وإذا كان كثيرون يرون أن انقشاع الظلام على نحو ما، ليس له من معنى غير حلول ضوء ما، بشكل من الأشكال، فإن »هواء جدير بالقراءة« يطرح في أحد مقاطعه أن الظلام قد لا يرثه إلا ظلام، حتى إن لم يكن بلون السواد: »البهجة الكبرى/ بصرفِ العفاريتِ اللعينةِ من المنزل/ لا يجب أن تنسينا/ أن ألف دجّالٍ على الأقلّ/ صارت معهم مفاتيحُ كلِّ الغرف«.

ينقسم نص »إنسان آلي1«، إلى مائتي محاولة للبحث عن نيرمانا، حيث تظهر نيرمانا، بتيماتها المتعددة، في جميع المقاطع، جنبا إلى جنب مع الأنا المتحدثة بلسان الإنسان الآلي. وقد تم ترقيم محاولات البحث من 1 إلى 200 كعناوين للمقاطع، وإلى جوار كل رقم صورة لمفتاح البحث الإلكتروني الشهير )SEARCH(، الذي يتم النقر عليه عند إجراء بحث إلكتروني على الإنترنت من خلال محرك ياهوو أو جوجل.

في »البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية«، على حد ما يرى الشاعر شوقي أبي شقرا، »لا ركون أبدا إلى نقطة في الفضاء، وإنما تسبق الذات المتحدثة نفسها، تسبق الاحتمالات والحنايا وتقترب رويدا رويدا من الشأن العام، وتطل من الفردي، من المفرد، على عالم من الكثرة«.

في الجزء الأول من »الأعمال الكاملة لإنسان آلي«، يتحدث »الروبوت« فاضحا سيئات عصره الغارق في التسليع والميكنة والتقنية، وباحثا بها عن ذاته الإنسانية المفقودة، النابضة بحرارة رغم كل شيء تحت جليد الحياة الرقمية، بل إن تلك الذات على ضعفها وتلاشيها لا تزال تحلم بإمكانية استردادها لفردانيتها وخصوصيتها، وتمردها على آليات السوق وإيديولوجيا التنميط.

في »غازات ضاحكة«، المكتوب بلسان الروبوت المتمرد ذاته، تستدعي التجربة الغاز المعروف بالغاز المضحك أو غاز الضحك )أكسيد النيتروز(

يتحرر الآلي في »غازات ضاحكة« من سطوة نيرمانا )أيقونة الجزء الأول: البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية(، منخرطا في )حالات إنسانية( متتالية ومتشابكة في آن، ينشد فيها البدائية والدهشة والصدق، ويتطور الإبصار الكشفي لديه مع تتالي المقاطع إلى رؤية كلية شاملة، وفلسفة شفيفة تغلف النص.

»الحصاد«: غالبا ما يعيش الشّاعر صراعا قاسيا مع اللّغة، إلى أي مدى أسعفتك اللّغة والعمل على جماليّة القصيدة في تشكيل المعنى؟ وكيف تثبت القصيدة نفسها؟

شريف الشافعي: الأمل كله، والعسل أيضا، في ما تقوله وتستثيره الكلمات، كل الكلمات بلا استثناء، ولو في السياق الطبيعي للكلام. الانتحار بعينه هو الاتكاء المفرط على مجازات وإيقاعات وسياقات بيانية مهارية تدَّعي أنها خارج السياق المتاح للآخرين. اللغة إجراء من الإجراءات، مطيّة مجانية تبتسم بدفء لمن لا يلوي عنقها، ويقاس نجاحها باتخاذها أقصر الطرق للوصول.

لا أزعم أن اللغة يمكن تبسيطها إلى درجة أن تكون مجرد أداة توصيل، لكن التفجير الشعري الذي أرجوه أبعد بكثير من تحويل البنية اللغوية للقصيدة، فهو مرهون أكثر بالمادة الفعالة الخام، بأن تتمكن القصيدة من أن تُثبت أنها فاكهة الموسم المجلوّة وسط المعلبات المرصوصة، وذلك بشعريتها الغضَّة، ومذاقها الحيوي المختلف، لا بجمالياتها الرصينة الدارجة، أو حتى المنحرفة عن الأنساق المنحوتة.

»الحصاد«: مشاعر كثيرة وشمت تجربتك وإذا توقّفنا عند مرحلة الطّفولة، ما الذي يمكن أن تقوله عنها بعد أن حملت إليك إحساس الفقد والغياب والغربة؟ وأين الأحلام والآمال من كلّ ذلك؟

شريف الشافعي: أرجوحة الطفولة هي التي تحيلني مباشرة إلى ديواني الأخير »رسائل يحملها الدخان«، ففي أحد مقاطعه: »يا قلبها: ابقَ صغيرا، عندما تكبُرُ هي في قلبي«. ليست فقط حبال الذاكرة التي تربط الشاعر بطفولته، فهو يظل يمارس تلك الطفولة على مدار حياته، وحين ترميه القصيدة الطازجة بوردة، لا يملك صدره سوى أن يصير حديقة أطفال. غاية طموحي أن تكون كلمة واحدة من كلماتي قادرة على تنبيه وردة نائمة، أو إيقاظ أخرى مستيقظة: »أن أوقظَ وردة، خيرٌ من أنامَ في بستانٍ«.

عشت الطفولة »طفلا«، وهذا يكفي لوصف تلك المرحلة بكل ما فيها من براءة وانطلاق وتساؤل، غير أن علامتين كبيرتين تبقيان هما الأبرز، ظهرتا في الطفولة، ولم أفهمهما إلا في سنوات لاحقة. الأولى هي »الغربة«، حيث أمضيت جزءا من طفولتي خارج الوطن. والثانية هي »الموت«، الذي اختص الأحباء »أمي وجدودي«، وظلت أحلامي وقتها برجوعهم واقعا لا أستطيع الفكاك من أسره، حتى نضجت أمام عيني »شجرة الفقد«.

كل ما في الطفولة يشدني إليها، وكل ما أستطيع أن أحياه منها أحياه الآن، لكن هناك ما يغيب بالتأكيد إلى غير رجعة. وهذا »الغائب« من الطفولة، هو الذي حذرتُ طفلتي من أن تختبئ فيه، لأنها لو اختبأت فيه، فلن أجدها هي الأخرى. أقول في مقطع من »رسائل يجملها الدخان«: »أين تختبئين يا طفلتي؟؟ اختبئي في أي مكان/ سأجدكِ/ إلا أن تختبئي في طفولتي«.

»الحصاد«: لماذا يكتب شريف الشّافعي الشّعر؟ حدّثنا عن لحظة كتابة القصيدة وما الّذي يستهويك في الشّعر؟

شريف الشافعي: أكتب، ببساطة، وفي المقام الأول، كي أجد شعرا أستمتع بقراءته، وأرضى عنه تماما. وكل من قرأت لهم من الشعراء، وغيرهم، أثّروا فيّ بالإيجاب، حتى ولو بتفادي ما لم أستسغه في كتاباتهم. الشعري الوامض، الذي أطالعه وأحبه من المنتج الثقافي ومن حركة الحياة العادية، أكبر وأوسع بكثير مما تحفظه ذاكرة الشعر ودواوينه.

أما القصيدة، فهي تلك الوحيدة في هذا العالم التي لا تخون المواعيد أبدا، لأنها، ببساطة، المواعيد كلها. زمن القصيدة ممتد عندي على مدار اليوم كله، والعمر كله، وهو أشمل بكثير من زمن التدوين النهائي على الورق. إن الإمساك بالقلم، وخط حروف القصيدة، مرحلة متقدمة جدّا من مراحل الإبداع المتتالية.

النص يبرق كفكرة أولية ضاغطة، في لحظة كشف روحي وعقلي استثنائية، ويظل يكبر وينمو ويتشكل داخليّا دقائق أو ساعات أو أياما أو شهورا أو سنوات، مستغرقا الوقت كله بلا مبالغة، في اليقظة، والمنام، والغيبوبة. وحين ينسكب النص من المخيلة والذهن على بياض الورق، فإنه ينسكب طبيعيّا مكتملا، رافضا مشرط الجراح، وأجهزة الشفط، والطلق الصناعي، وحضَّانات اكتمال النموّ.

الشعر عندي ليس اهتماما، بمعنى الاحتشاد والانشغال والقصدية. الشعر عملية حيوية، عادية جدّا، لكنها لازمة للوجود، شأن التنفس والهضم. الشعر هو »التمثيل الضوئي« الذي فُطرت عليه روحي، وتمارسه ليل نهار، بكلوروفيلها الخاص جدّا، ولا تستلزم آلية عملها طاقة الشمس كأوراق النباتات.

الميكانيزم معقد بالتأكيد، هذا أمر مسلّم به، لكنني لا أقف كثيرا عنده، طالما أن العملية تحدث من تلقاء ذاتها )عملية تحويل طاقة الحياة إلى طاقة شعرية(، وطالما أن المنتج غزير وافر بفضل الله، والأهم أنه منتج جديد، مرغوب فيه، لا يشبه غيره، قادر على أن يترجم بأمانة شفرتي الوراثية، ويعكس مكابدات صديقي الإنسان في كل مكان، ويرسم صورة بانورامية لهذا العصر الآلي الرقمي الأجوف، بتركيز شديد.

أنا لا أبسّط الأمور أكثر من اللازم، ولا ألغي التخطيط والذهنية ومقومات الاحتراف ولوازم الثقافة والمعرفة التي تنبني عليها أية تجربة شعرية طموح، لكنني أراهن في الأساس على نفاسة المعدن بصورته النقية، على »الشعرية الخام« إذا جاز التعبير. إن الذي وجدتُه في الشعر هو »الشعر نفسه«، كما تمنيتُ أنا أن يكون، أي بالصورة التي تستهويني، ومن ثم فإنني أشرك القراء معي ببساطة وحميمية في ملامسة هذا الجوهر، الذي أراه مختلفا نادرا، من وجهة نظري أنا على الأقل.

»الحصاد«: كيف تتعامل مع الموجة الرّقميّة الحديثة وإلى أيّ مدى أثّرت في شعرك وهل شكّلت عائقا بالنّسبة إليك كشاعر؟ وما رأيك بالنّشر الإلكترونيّ للشّعر؟

شريف الشافعي: أن يكون الشاعر شاعرا معناه: أن ينبض، أن يحيا. ولماذا لا يحيا في ظل الموجة الرقمية، أو غيرها من الموجات؟! بل لماذا لا تتفجر »الشعرية« من الفأرة والكيبورد والتيار الكهربائي المتردد؟ ولماذا لا تحلق الروح في فضاء افتراضي، باحثة عما تفتقده في هذا العالم؟ وماذا ستجني الروح من خسارةٍ لو كسبتْ اغترابا إضافيّا فوق اغترابها المزمن؟!

هو عصر رقمي نعيشه، هذه حقيقة، ولا يمكن أن تغيب تأثيرات وانعكاسات هذه »الرقمية«، كنمط حياة، عما يكتبه الشاعر الحقيقي اليوم، وإلا فإنه يكتب عن عصر آخر، ويعيش حياة أخرى، فوق كوكب آخر!

النشر الإلكتروني للشعر مثلا، هو أحد، وليس كل، وجوه الاجتياح الرقمي للشاعر. والأهم بالتأكيد من اختيار الشاعر للرقمية كوعاء جديد للنشر، أن يكون ما في الوعاء جديدا معبرا عن معاناة الإنسان في العصر الرقمي الخانق.

تجربتي كلها تشتبك مع جوانيات الحياة الرقمية، هذا ما أثق به، والعدد الأكبر من القراء والأصدقاء المبدعين والنقاد قد اطلعوا على أعمالي من خلال نسختها الإلكترونية، لكن صدورها في طبعات ورقية أمر مهم بالنسبة إلي، لأن الوسيط الورقي لا يزال قادرا على تطوير نفسه وتطويعها لاستيعاب تشكلات فنية جديدة تتمثل روح الحياة الرقمية، وهذا ما أردتُ إثباته مثلا من خلال الغلاف والإخراج الطباعي المغايرين للمألوف في بعض الدواوين مثل »إنسان آلي«.

في تصوري أن الكتاب الإلكتروني لن يحل تماما محل الكتاب الورقي بالسرعة التي توقعها البعض، لكنه سيتجاور معه بالتأكيد لفترة قد تطول، والأهم من هذا التجاور، أن تأثير »الرقمية« كجوهر حياة سيتجه بقوة إلى الكتاب المطبوع نفسه، مضمونيّا وإخراجيّا، وأنا هنا بالطبع أتحدث عن الكتب الإبداعية على وجه التحديد.

أما عن أهمية الوعاء الإلكتروني، فمن المؤكد أن هذا الأسلوب من النشر هو الأنسب لشاعر مثلي يحيا في قرية كونية صغيرة، ويطمح ببساطة إلى أن يكون صوت نفسه، وصوت صديقه القارئ، صديقه الإنسان، في كل مكان، خصوصا أن هموم البشر الملحة صارت تتعلق أكثر بمصيرهم المشترك، بوجودهم ذاته، وليس بقضاياهم الإقليمية المتضائلة، حيث زادت الأمور توحشّا فيما يخص استلاب إنسانية الإنسان، ومحو إرادته الحرة ومبادرته وقدرته على اتخاذ القرار، وترسخ إعلاء شأن الأرقام والبرمجيات وقيم التسليع والقوانين المسنونة، التي تحكم حركة البشر، وبدا الإنسان مثل آلة مقهورة بالفعل، وبدت القوة القاهرة أيضا كماكينة عمياء، وصار الحديث عن الطاقة البديلة أضحوكة كبرى في عالمٍ نفدت طاقته الروحية.