قراءة في ديوان “كلمة أكبر من بيت” للشاعر اللبناني عباس بيضون

القصيدة قطعة نثرية بصرية

بيروت من ليندا نصار

إنّ الحديث عن تجربة عباس بيضون الشعرية هو حديث عن فلسفة مغايرة في الكتابة، ولعل ربط الفضاء بالموت في نصوصه يجعلها فرادة في تشكّل الهوية الشعرية لهذا يجد القارئ نفسه أمام عالم من الصور المنحوتة لتناقضاتنا الصارخة ونحن نواجه الحياة بقلق مضاعف. كأننا أمام سردية تواجه المجهول بالاستكانة إلى الذات وانشطاراتها بما يحيل ذلك من تمزق يسعى عباس إلى تصوير على نحو شعري محض. وعلى هذا الأساس يكتب الفضاء الذي يستعيده عبر الذاكرة من مواقع مختلفة تسعى لترميم هذه النتوءات التي تستحيل على النسيان أو تحويلها إلى مجرد “ديكور” بلا روح ولا حياة. وهذا ليس بغريب على شاعر لماح يضيء عتمة الكتابة بروحه التي تسائل الوجود انطلاقًا من خاصية الإقامة بين الشعري والسردي كأنه بذك يروّض حكاية صور تلك القرية التي صاحبته وهو يسعى إلى أن يعمّق تشابكاتها مع التاريخ والحاضر والآتي. لهذا نجد الشاعر غير معنيّ بتطور أحادي للكتابة فكلما شعر بتعب

عباس بيضون

الحياة تحولت معه القصيدة إلى قطعة نثرية بصرية بقدر ما تدهشك تدخلك في حوار مع اللانهائي كأنها ترسم احتمالات الحياة في داخلنا وتتفاعل في الوقت نفسه مع الفاجعة التي تهدد كينونة الإنسان وهو محاصر بتفاصيل اليوم الشائكة، فالأشياء في قصائد عباس بيضون تصبح أكثر هشاشة من الإنسان نفسه. هل هو تجريد فني أم الحاجة إلى أن تبقى الحياة لصيقة بالشعر أوليس الشعر في النهاية فكرة لنقول ما لا يقال باقتصاد لغوي شديد كأنه تأويل لهذا النقص الذي هو صلاة لنهاية الصقيع وهو موت يأخذ مقاساتنا بل هو ميتافيزيق الثعلب…

 في ديوانه الأحدث الصادر عن دار هاشيت/ نوفل، بتصميم غلاف داليا ضاهر، يكتب عباس بيضون قصيدة “ثرثرة”  وكأنّه في مواجهة نوع آخر من الكلام، أو يمكن تسميتها “أحاديث فلسفية مكثّفة”. ينتبه القارئ إلى نوع من الإصغاء إلى العمق، بل هو تأمّل يتمّ بحركة أحاديّة تشتغل فيها الحواس من خلال حالات التفكّر والتذكّر، فتمرّ في ذهنه أحداث تطبع في الذاكرة، وأعظمها انفجار بيروت في 4 آب 2020 الذي حطّم المدينة واخترق ثقافتها: كتبها وموسيقاها…

 ويأخذنا صاحب “الحياة تحت الصفر” لنصغي معه إلى صوت الجسد الذي تسرّبت إليه مناخات الوحدة، جسد أفلت الزّمن من يديه وأطلق له العنان، لتختلط في داخله الذكريات بالنسيان، تحت راية احتمالات الحياة بل أكثر من ذلك وهو الشكّ في حدوثها.

لنترك هذا الجسد يتابع/ الثرثرة المستمرة في داخله/ بدون أن يسمعها/ لنتركها تتكدس في نفسها (…) لأن هذا الجسد وحيد مع نفسه/ وبدون حكاية/ لقد نسي تاريخه ويتساءل/ إن كان له أصلًا تاريخ/ إن كانت الحياة التي يجرها حدثت فعلًا/ لحظات نسيت بداياتها/ إنها في الخارج ولا عدد لها أو اسم/ فقط زمن حر يجري كالدم/ ويستمر يدمدم في الداخل.

وفي نبذة عن الديوان:

“ثمّ يحدث الانفجار. من غرفته المطلّة على الغياب، ينظر الشاعر إلى الزمن، يراقب تفشّي الصمت وتبخّر الوجوه. ما بقي هو ذكرى نسيان وليس نسيانًا كاملًا، عمرٌ يأتي ويذهب تاركًا خلفه خيطًا يفضي إلى البيت. في الطريق يتحدّث الصوت مع صاحبه فيسمع مطرًا يتعاقب. يرتاح العُمر على السرير، حيث تستعدّ الكلمة للتحليق. ثمّة وقت للنوم، وثمّة وقت للاختفاء. تطفو القصائد فوق الوقت، تنهض مِن بين ركام الدقائق المُستَعملة. تنظر الكلمة إلى البيت وتسأل: أين تبدأ الوحدة؟ متى ينتهي الوقت من الانتهاء؟ من سيملأ الفراغ الكبير؟”

كذلك يجد القارئ نفسه أمام سأم من نوع آخر، لعله سأم الانتظار ومشاكسة الوقت الذي يدعو إلى الشعور بالفراغ

غلاف كلمة أكبر من بيت

والوحدة. هكذا نجد الشاعر يدخل في خلوة مع نفسه يقرأ أناه يفصّل جسدًا آخر لجسده من خلال الكتابة والإبداع باحثًا في الأسئلة الكبرى وفي علاقة الوجود بالإنسان وارتباطه بالزمان.

أستيقظ صباحًا/ لم أطق أن أبقى وقتًا أطول في الخلف/ حيث وقعت/ حيث رمتني ساعة ما/ فرشتني وساوس وترابًا فحسب/ لم تكن هذه ليلتي/ خرجت من حياة أخرى…

وتساؤلات كثيرة تهيمن على القصيدة نفسها: لم أعرف ما الذي نقلني إلى هنا/ ما الذي جعل النهار يقفل عليّ/ ما الذي ألقاني تحت بصر الصباح…

كنت أعرف أن ليس هناك مزيد من السأم/ أن الملل يحتاج سرير/ وهذا الخارج، هذا اللاأحد/ وحده الآن يهمد/ متظاهرًا بالنوم في سريري.

يفتح عباس بيضون نصوصه على إمكانات جديدة للتأويل بحيث تحمل مفرداته الاستعارات والإشارات والرمزيات الحيّة التي تتوالد من معناها الأول فيخلق العالم الشعري بموازاة العالم الحقيقي، أو من عالم يكاد يكون متّحدًا بالعالم الحقيقي الذي يعيشه ويستمدّ منه صورًا تدعو إلى تأويلات الكون بمواده وعناصره، حيث ينفتح الشعر على الفنون الأخرى وتتشكّل هنا حياة أخرى مليئة بالتفاصيل.

في قصيدة “شخصان”، لا يحتاج الألم إلا ليوم واحد لينفّذ مهمته في حياة الإنسان… يوم واحد يحتمل التأخّر في الوصول، يوم واحد وألم واحد. في الطريق شخصان يواصلان المسار نفسه في سباق العمر المحكوم بالألم، وعمليّة تسلّم وتسليم بهدف الوصول إلى الجهة الأخرى من الزمان، وكأننا أمام مراحل يومية محصورة بين الدخول في الصباح والدخول في المساء كفعل متكرّر يؤدي إلى التقدّم في السنّ. من هنا تتشكل حياة كاملة لعباس بيضون في إطار يوم واحد وكأنه يتجزّأ في قصيدته إلى وحدات، وكأننا أمام ذرات كيميائية تشكل قصائد على نحو مغاير، وكل ذرة تحتوي على تفاصيل لحظات يسير بموازاتها الجسد في تمثلاته المختلفة. هذا اليوم الذي ينطلق منه هو مسيرة عمر بعالمين يتجهان بحركة صاعدة: عالم سفلي وآخر علوي، لشخصين يواصلان الصعود والتقدّم في الزمن. الشخص الأول هنا سيسسلم الثاني ورقة الاستمرار للصعود إلى الأعلى، لعلنا هنا أمام ورقة القصيدة وكأن الشاعر يريد أن يواصل الصعود إلى حياة أخرى مختلفة عن هذه الحياة. وتبقى الكتابة الملاذ الآمن للشعراء والشاعر يسكن في قصائده التي تعدّ الغاية الأولى له ويرسم فيها حياة أخرى.

من هنا يعيش هذان الشخصان أسلوبًا واحدًا في الحياة وبالرغم من نزعة الوحدة والسأم، نجدهما يخضعان للمصير نفسه، فالشخص الأول أنجز دوره ليترك ظلال خطاه للثاني، فمن يمثّل هذان الشخصان؟

الألم الذي يخرج من جسدي يشقق النهار/ الذي يلمع على زجاج النافذة/ لكنه يوم، يوم فقط.

شخص واحد على عصاه/ سيتأخر يومًا كاملًا على أن يصل/ شخص آخر يرتجف على الطريق/ يصنع من كل دقيقة خطوة/ يتركها لمن وراءه.

ألم واحد يجرح النهار/ في منزل صغير وتحت شجرة واحدة/عصا، عصا فقط/ تستمر في الصعود/ وأنا واقف هنا وسط القصيدة/ أعرف أن حربا تقع في الناحية الاخرى/ ولا اسمع، مع ذلك، صراخا/ لا بد ان ابي لا يزال على عصاه/ يواصل الصعود الى المساء

هكذا يواصل صاحب هذا الديوان إصراره على الحياة ومواجهتها من خلال الشعر وهو يربط الحياة بالفنّ. وللشاعر كلمة نأخذها من أحد حواراته لمجلة نزوى حول هذه العلاقة إذ يقول: “إننا لا نستطيع في لحظة واحدة أن نميّز هذه العلاقة الشائكة تمامًا بين الفن والحياة. لا بدّ من أنّ الفنّ جزء من الحياة وهو موجود فيها وهو بعض شيء من نتائجها وشيء من مكوّناتها مع ذلك يظلّ بين الفن والحياة هذه الصلة الشائكة، نظل نفكر بالطريقة التي تتجلى فيها فنًّا وتستطيع الحياة فيها أن تغدو فنًّا. إنّ الحياة لا تصبح فنًّا بمجرّد أن تعرض نفسها وعناصرها وموادها، إذ لا بدّ من أنّ الفنّ هو نوع آخر من الحياة وهو حياة أخرى ولا بدّ أنّ الحياة في الفنّ تصبح شيئًا آخر لكن مع ذلك تبقى حياة…”