كتاب كهوف السلطة – تجربتي في وزارة الداخلية

 للدكتور والوزير السابق  »بشارة مرهج«.

نسرين الرجب – لبنان.

يقول الشاعر خليل حاوي في مقطع من قصيدته الخالدة  »الجسر«:  » من كهوف الشرق/ من مستنقع الشرق/ إلى الشرق الجديد/ أضلعي امتدت لهُم جسرا وطيد«

إنّ دهاليز عالم السياسة ليست بالهيّنة على من يأتونها محملّين بنوايا الإصلاح وشعارات حيّ على الفلاح في وطن تغلب عليه المصالح الفئويّة والارتهان للخارج، واليوم ونحن في مرحلة تدّعي السلطة الحاكمة في لبنان، ولعلّ في ادّعائها بعض الصدق، القضاء على الفساد، يمثّل كتاب الوزير السابق نموذجا يوضّح المنهج السياسيّ كما قرأه وشاهده في أروقة الحكم، ما خفيَ وما تمّ تضليله، في أحايين كثيرة، منذ قرار تنصيبه وزيرا للداخليّة1992 حتّى قرار تنحِيته من منصبه 1994.

 الكتاب الصادر عن دار سائر المشرق في طبعة أولى 2019، يقع في 483 صفحة موزعة على خمسة عشر فصلا، هو كتاب سياسيّ بالدرجة الأولى، يروي فيه بإتقان تجربته في العمل النضاليّ وفي وزارة الداخليّة وعلاقاته بعالم السياسة والسياسيين.

وهو القادم من قلب المظاهرات والالتزام القوميّ، لم يكن للريح، دوما، أن تجري بأمر سفينته، لقد سعى وناضل وجاهد فرفض التجاوب مع الكثير من القرارات الغير صائبة والتي كانت تأتيه من أوساط سياسيّة نافذة، ولكن عدم التوافق في الجسم الحكومي، غالبّا، ما أدّى إلى أزمات ومنها حادثة جسر المطار 1993.

يقول:  »أنا لا أسرد في هذا الكتاب الأحداث التي عشتها أو تفاعلت معها، وإنّما بالأحرى، أقرؤها من زاويتي، وأعيد تسجيلها كما عاينتها.. مضيفا إليها أحيانا أرائي التي أخطأت وأصابت«

فعلى قاعدة  »وما أُبرئُ النفس« يمضي الوزير السابق في معاينته للكثير من المحطات السياسيّة التي عايشها وخاضها في مراحل حياته المختلفة، حتّى كونه وزيرا للداخلية في انتخابات 1992 في عهد الرئيس الهراوي، وأبرز القضايا والقرارات السياسيّة التي كان لها تأثير واضح في سير أمور الحكم. فهو لا ينزه نفسه عن الخطأ ولكن يضع الأمور في نصابها، ففي حديثه عن مرسوم التجنيس رقم 5247/375، أقرّ بمسؤوليته عن بعض المخالفات التي سمحت بإعطاء الجنسيّة لغير مستحقيها:  »أعترف بمسؤوليتي عن الأخطاء اتي حصلت، ثمة مسؤوليّة على من تحمل المسؤوليّة بعدي في ما يعود للمتابعة والتدقيق النهائي وخصوصا فيص مرحلة تسجيل الوقوعات في سجلات الأحوال الشخصيّة.. «.

وهو المتحمّس للتغيير منذ ريعان شبابه ومشاركاته الأولى في المناقشات السياسيّة الدائرة بين الطلّاب  »وفي كل الحالات كنت أجدني متحمسا للثورة والتغيير«، والمظاهرات الداعمة للقضايا العربيّة المحقة كالحق في المقاومة، مقاومة العدو ومقاومة ظلم الحكّام :«وسرعان ما وجدت نفسي جزءا من الجوّ التقدميّ العربيّ«، وأشار إلى الكثير من الوقائع المفصليَة التي عايشها وكان لها الدور في تنميّة وعيه القوميّ العروبيّ ومنها سقوط حكم الانفصال في سوريا، وثورة 14 رمضان وسقوط عبد الكريم قاسم،  » أصبح حزب البعث بالتعاون مع حلفائه يحكم قطرين عربييين متجاورين.. « ثم تحدث عن انشقاق الصف البعثي  »انهيار الائتلاف القومي في بغداد وسوريا« وبالتالي ضياع الأمل من قيام دولة وحدة عربية، وتحدّث عن الثورة الفلسطينية، النشاطات التقاطعيّة الداعمة، المظاهرات، هزيمة 1967، تحليل أسباب الهزيمة، القيام بمظاهرات ضد السياسة الأميركية الداعمة للوجود الإسرائيلي في المنطقة، الإشارة إلى مرحلة المعارك 1969 المعارك بين المقاومة الفلسطينية والقوات الإسرائليّة، أيلول الأسود 1971 تصميم النظام الأردنيّ علىى تصفيّة المقاومة، وعن الانتقال إلى الأردن للمشاركة في الفرق الداعمة للمقاومة الفلسطينيّة سياسيّا وميدانيّا حتى قرار وقف إطلاق النار.

 حرص على ذكر الكثير من الأحداث والمواقف السياسيّة التي غيّرت وجه المنطقة العربيّة، وأسست لحالة التشرذُم عندما جرى تصفيَة المقاومة الفلسطينيّة في الأردن، وتراخي الحُكّام العرب عن تحمّل مسؤولياتهم في دعم حق الفلسطينيين في العودة إلى بلادهم، وكانت السياسة الأميركية الداعمة لقيام دولة إسرائيل الغاشمة هي الأساس في إبرام الإتفاقيات المخزيّة واللامنصفة ومنها اتفاقية أوسلو 1993.

 وعن سياسته الساعيّة لللإصلاح منذ استلامه منصب وزارة للداخلية في 31 تشرين الأول 1992:  »كنت شديد الوضوح مع الموظفين (إداريين وعسكريين) بضرورة التعامل مع المواطنين على قدم المساواة كي يشعروا بأنهم أبناء بلد واحد له دولة متقدمة.. «

ومن المواضيع التي طرحها في كتابه وهي كثيرة وعلى أهميّة موضوع العلاقات بين لبنان وسوريا وقد تناوله بحرص شديد في الفصل الحادي عشر، تحدّث فيه عن المصلحة المشتركة من هذه العلاقة وعن ضرورة إقامتها على أثث ثابتة وقويّة،  »ما يمكنّهما من الصمود في وجه التدخلات والاعتداء الخارجيّة«، وعن دور سوريا في إخراج لبنان من آتون الحرب الأهلية وامتداداتها الاقليميّة وفي إشاعة الأمن، وعن التوترات الأمنيّة والسياسيّة المعرقلة  »لا تكون محاسبتها –أي سوريا- فقط على أخطائها، أو أخطاء بعض ممثليها في لبنان الذين ركبتهم شهوة المال والسلطة، المحاسبة تكون عاممة ومتوازنة.. «

وتحدث عن  »ضرورة إطلاق مبادرات لبنانيّة إيجابيّة لوضع هذه العلاقات في إطارها السليم.. «

تعامله مع المطبات والمواقف الحرجة أو الأزمات الأمنية المحرجة والتي استطاع حلّها بدبلوماسيّة أحيانا وأخفق في أحايين أخرى، رفض بعض القرارات الجائرة والتي كانت تتطلّب توقيعه فيرفض، أو كانت تحدث حوله فيغضب:  »كنت أتمزّق من السذاجة التي طغت على المواقف الللبنانية الملتحقة بالسياسة الأميركية«.

 وقد خصّص صفحات للحديث عن بعض الشخصيات السياسيّة المهمة في المنطقة وعلاقته بها ومنها الرئيس الشهيد رفيق الحريري، تميّز أسلوب الكتابة بترابط الأفكار وحرص الكاتب على الإحاطة بالمسائل من جميع الجوانب التي تختص بها، وهو إذ تحدّث عن  »أبي عمار« الزعيم الفلسطينيّ الراحل المشارك في التوقيع مع نظيره الإسرائيلي على إتفاقيّة أوسلو المخزيّة تحت رعاية كلينتونيّة بائسة، أضاء على جانب عفويّ كما سمّاه من شخصيته وهو تجاوبه الحماسيّ مع أي اقتراح يأتيه من أعضاء حزبه من دون التفكير في الأبعاد الخلفيّة له، لولا وجود من يُرجعه عن عجالته ويشير إليه بعواقب الأمور، ومن ما ذكر الدكتور مرهج ؛ اقتراح البعض أداء التحيّة للضيف الفرنسي ميشال روكار الذي كان قادما إلى بيروت لزيارة مسؤولين لبنانيين والاجتماع مع رئيس منظّمة التحرير الفلسطينيّة:  »لكنني تدخلت وقلت من المستحسن استبعاد هذا الاقتراح لأن تنفيذه يمسّ بالسيادة اللبنانيّة من جهة، انتبه أبو عمار فورا للأمر وطلب صرف النظر عن الاقتراح«.

عن تردده -أي عرفات- قبل المشاركة في حرب الجبل في آذار 1976 :« وبعد لأي وجهد، شارك أبو عمار بقوات رمزية كي لا يخسر حليفه جنبلاط وسائر القوى الوطنية اللبنانيّة التي عقدت العزم على توجيه ضربة مؤثرة للكتائب والأحرار.. «

فهو ذكر عدّة مواقف توحي لقليلي الإطلاع والمعرفة بالتاريخ السياسيّ للمنطقة بالتعاطف مع زعيم يتحمس لفكرة ولا يحسب لأبعادها، إلا إذا أيقظه أحد ممن (يمونون) عليه، بعض من هذه القراءة للمشهد الفلسطيني برعاية زعيمه  »أبو عمار« لا يمكن فهم دواعي التبرير أو الأخذ بها من دون الإرتكاز إلى أسس موضوعيّة محايدة، فالوزير الوقور مرهج حريص على دبلوماسيته وعلى تفهم مواقف حتّى خصومه، وعلى تغليب المصلحة القوميّة على ما عداها.

 استخدم المؤلف في كتابه لغة سلسلة في إيصال المضامين على الرغم من كثافة المحتوى، وقويّة في الدلالة على مجريات الأحداث على الرغم من تشعبها، فهو يوجّه خطابه للقارئ مُراعيا اختلاف مستويات ودرجات التلقّي، فنجد بعض الشروحات في الهامش للأحداث العلائقيّة، وحرص على أدبيات التواصل والإخبار، فعلى الرغم من العداء البادي في السطور حول ما كان يُحاك حوله من مكائد في العهد الوزاريّ إلا أنّه لا يعتمد على الذاكرة فقط أو على مواقفه الشخصيّة تجاه الإشكاليّات التي اعترضت طريقه وحمّلته ما لا ذنب له فيه في أحايين كثيرة، كمثل  »حادثة المطار« بل استشهد بالعديد من المصادر والوثائق المكتوبة للتدليل على صوابيّة ما يسعى لطرحه وتفسيره، لأنّ الكاتب لا يدّعي امتلاك الحقيقة بل يمثّل رؤيته الخاصة المتصالحة مع مسار حياته وتوجهه العروبيّ القوميّ، لذا فلغته قويّة وموثّقة بالتواريخ والأدلّة.

هو كتاب يغني المكتبة العربيّة لاحتوائه على تجربة قيَّمة جديرة بالمعرفة والإطلاع والدراسة للمهتمين بالشأن السياسيّ والمعرفيّ بكلّ أبعاده وفهم التحوّلات التي عصفت بالمنطقة، والجهد الذي قد يُعانيه ويُعايِنَه النُزهاء عندما يدخلون كهوف السلطة ويسعون للإصلاح والثبات في وجه مغريات المناصب التي لا تدوم كما قال الوزير في أحد سطور كتابه.

العدد 93 – حزيران 2019