كم هي الساعة يا دولة الرئيس؟

الدكتور نسيم الخوري

عادت وتعود معضلات توزيع السلطات وتقاسمها وآليات تنفيذها المعقّدة بين ما يُعرف بالرؤساء الثلاثة في لبنان. سلاسل من التجاذبات والتقاذف والعداء والمقاطعة و”الروكبة” المُزمنة. أنقل ببساطة كليّة، توصيفاً للّواء غازي كنعان الذي أمسك بلبنان، إذ قال أمام زوّاره بعد ملاقاته الرئيس إلياس الهراوي في إحدى زياراته الى دمشق عند حدود البلدين: “أتعرفون كيف “يكربج” محرّك السيارة فتتجمد بأرضها؟ هكذا هو لبنان. مصيبته في توزيع السلطات وتعاونها وتوازنها كما ورد في دستور الطائف.

كلام يعود لزمن “الترويكا” المعروفة ب”جمهورية الرؤساء الثلاثة” أي الجمهورية والحكومة والبرلمان. كانت سوريا مشغولة وقادرة جدّاً على إصلاح أيّ عطلٍ في محرّكات السلطات وبالأساليب المختلفة حتّى ولو اقتضى الأمر بتغيير محرّك العربة اللبنانيّة الذي استمرّ من العام 1989 حتّى ال 2005 بإستشهاد رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان.

بقي دستور الطائف رهينة اتفاق المحاور الثلاثة الأساسية : المارونية والسنية والشيعية، وهذا ما حوّله إلى مثلث متساوي الأضلاع سرعان ما يتشوّه عند التنازع في التطبيق ليصير مربعاً يوماً، أو مكعّباً أو دائرة مشوّهة كليّاً يتحاصر داخلها زعماء السياسة والطوائف فيوزعون النواب والوزراء والمديرين والمسؤولين أحياناً وكأنّهم جوائز ترضية وسترة. لم يبق لشكل الحكم والنصوص وضوح أو ملامح، وبدت الأحكام الدستورية محكومة بالماضي أو مستحيلة التنفيذ . وإذا كان لكل اتفاق في الدنيا روح ونص، فالنص لم يتوضح لا في مناقشات الطائف المحجوبة، ولا في الممارسة. أما الروح الوطنية فغائبة وكأنّ المصيبة أن الدستور فرضته “العصا الدولية” بعد سلاسل الحروب الطائفية المُنهكة. اعتبره الرئيس سليم الحص كما “دستور الإيمان عند المسيحيين، تكون معه أو ضده”.

كيف أيضاً وأيضاً؟

بقيت السلطات خلال ستة قرون محصورةً بالمسيحيين في لبنان وتحديداً بمركزية السلطات المارونية المُحْكَمة.كلّها مقيمة في قبضة رئيس الجمهورية. وبعيداً من الإستطراد بوصف آلية توزيع السلطات طائفيّاً، نورد هذه السالفة التي تُروى عن أحد رؤساء الحكومات، وهو مثل غيره من السنّة كان يصعب وصولهم إلى جنّة السلطة من دون الحظوة ورضى رئيس الجمهورية:

سأل رئيس الجمهورية الماروني، خلال إحدى الولائم الرسمية، رئيس حكومته (الهاء ضرورية) قائلاً: كم الساعة الآن يا دولة الرئيس؟ فقال: كما تُريد فخامة الرئيس. تبسّم الحاضرون دبلوماسيّاً بالإجابة  التي حصلت في بلدٍ ديمقراطي يعتدّ أهلوه  بديمقراطيتهم، مع العلم أن علاقات رموز السلطة حتّى في البلدان الديكتاتورية والملكية قد لا تصل الى هذا الحدّ.

كان لبنان محكوماً قطعاً بالكثير من الجمر والمرارات المُتفاقمة تحت رماد الخرائب والمشاعرالمزمنة: الشعور بالغبن من قبل السنة والشعور بالحرمان من قبل الشيعة وبعض المذاهب الأخرى، مقابل الشعور بنشوة السلطة وزهوها لدى الموارنة .

ماذا قدّم الطائف من جديد؟

حلّ اتفاق الطائف “نظرياً” ولفترةٍ بسيطة، مركزية السلطة الرئاسية وجعلها موزعة، لكنها بقيت متشظية، فوق طاولة مجلس الوزراء مجتمعاً وهو المجلس الذي كان بُنتظر منه خلق مناخات التوافق الكامل إن لم نقل الإجماع بين الأطراف والطوائف والأحزاب المتمثلة فيه كافة قبل اتّخاذ أي قرار وزاري. بصراحة صار كلّ وزيرٍ رئيساً، بحيث تمّ تكبيل رئيس مجلس الوزراء السني وآليات تطبيق سلطته الجديدة في مجلس الوزراء مجتمعاً، أوّلاً، من وزراء الموارنة المسكونين بسلطاتهم دالمألوفة قبل الطائف، وكيفية حلّ عقدة الغبن السنية التاريخية ثانياً، وتقدّم الشيعة القوي ثالثاً، نحو المشاركة الفعلية بمقاليد السلطات ولو فاضت.

كان يدّعي رئيس الحكومة بأنه الحاكم، ويدّعي الوزراء باحترامهم لحكمه لكن صورياً. كان يسهل ردم الفجوات والنزاعات بين الأطراف نفسها خلال حكومات الرئيسين رفيق وسعد الدين الحريري لأسباب:

1- الملاءة والثروات الهائلة والعلاقات الدوليّة التي ليّنت مفاصل الطامعين بالسلطة الذين دوّروا ألسنتهم ومواقفهم في مراكز السلطة والتمثيل، الأمر الذي جعل الوزارء والنواب أشبه بموظفين عاديين دفعت كلّ لبناني الى الطموح بالوزارة والنيابة وحتى الرئاسة.

2- لأن سوريا بنفوذها في لبنان المكفول دوليّاً، كانت تضمن وتنجح بحلّ العقد بعدما صار لبنان وطناً بثلاثة رؤوس متعدد السلطات. كانت النخب السياسية ووسائل الإعلام ينتقدون بقسوة تشظي الرئاسات وحكم البيت الواحد عبر ثلاثة رؤوس.

2- ميشال عون زعيم أكبر كتلة مسيحية، كان ومازال يعتدّ بقوله المعهود عندما كان في قصر بعبدا قبل مغادرته إلى فرنسا، بأنه يقطع يده ولا يوقّع على اتفاق الطائف، لكنّه تقدّم في تطبيق الدستور متصدّراً طاولة السلطة التاريخية مسنوداً الى حزب الله بالمضمون لا بالشكل ولا بالأسلوب، لكنه بدا متعثّراً مع برلمانات نبيه برّي الذي يشرّع أبوابه الدبلوماسيّة في كلّ الاتجاهات طمعاً باللحمة ودرءاً للمخاطر المحفورة في جسد لبنان اليوم الذي يُنذر بالشؤم.

4- كان وما زال رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، “الموناليزي الملامح”، الذي لا يجعلك اليوم تفصل بين عبسته وابتسامته، يشعر بالغبن والقهرفي ممارسة السلطة من حيث كونه رئيساً لمجلس الوزراء الذي قد لا يرضي طائفته الكبيرة، ومع أنّه قد يوازي بمقدراته المالية الرئيس رفيق الحريري وكلّ من هو من طيننه ، فإنّه لم ينزع وفرة الدمغة الوفيرة والبحبوحة التي أرساها الحريري عبر تضاعيف السلطات المتعددة المذاهب، وخصوصاً أن المعارضة منظمة وشرسة في إدارة الفراغ، لذا اعتاد فرقاء الحكم والسلاطين من كلّ الأصناف والأنواع والمذاهب اعتماد نهج المدرسة التي أرساها الحريريون في حكم لبنان لكنهم أخفقوا بتحقيقها حتّى كتابة هذا النص.

5- كان يتدخل السوري لتزييت العربة، وبعده تدخلت الدوحة وقد نأت بنفسها مشغولة بتألق المونديال فوق أرضها. لم يبق أمامنا سوى إعادة نصب طاولة الحوار لمحاصرة الفراغ فقط:

لماذا؟ بهدف وضع قانون ينظّم عمل مجلس الوزراء أوّلاً، وإلاّ؟

إلاّ، نحن ذاهبون إلى مخاطر كبرى تتجاوز الفراغ أو البحث عن دستورٍ جديد أو التفجير، خصوصاً وأنّ الجميع يغوص مجدداً بالطائفية والمذهبية والهجرة حتّى الأعناق.