عصر من الغناء

أم كلثوم في ذكرى رحيلها .. الرمز الخالد لوحدة الوجدان العربي

سر الرسالة التي تسلمتها،فأثارت مشاعرها وفضولها لمعرفة من ارسلها

 ستة واربعون عاما مضت على رحيل واحدة من ابرز أهل الطرب في القرن الماضي ،واحدى علاماته الفنية الغنائيه (ام كلثوم)،فهل انطفأنت جذوتها، ورحل عصرها ،واحتلت الساحة الفنية بمن يخلفها صيتا وجمهورا ومكانة وتأثيرأ .هل هي واحدة من سمات عصرانقضى ومضى ،وطواه النسيان،أم أن معدة الزمن لاتهضم من سنوات الأصالة الا الطحالب التي تنمو على الأسطح ،أما مايترسب في ألأعماق فانه باق وكامن، فالقيمة الفنيه،تتبلور في النهاية لتصبح قاعدة التراث الحي الذي لايندثر.انه

التراث الغني الفياض، الذي ننهل منه بارتواء ،ونتنسم من خلاله عبق الأصالة والتكوين . لقد اختلف 

العرب في الكثيرمن القضايا.. وصاروا شيعا وفرقا وأحزابا ومدارس ومذاهب متعددة ومتنوعة ،ولكنهم بارادة حرة ،واختيار مطلق لا يبارى،أجمعوا وبايعوا بأعلى درجات العشق والتقدير هذه المطربه حيث أسرهم الصوت، وفتنهم الأداء  ،فهي لديهم ( كوكب الشرق) وهي ( سيدة الغناء العربي) وهي عند المصريين كان توصيفها ب(الست) رمزا واحتفاء للمكانه أو من قبيل التدليل والدلع أطلقوا عليها اسم (ثومة).انها بلا منازع الأسطورة التي كانت تحرص على الأنصات اليها ،والأستماع لشدوها  أمة بأكملها حين يبدأ صوتها في الغناء. ربما كانت ايضا هي المطربة الوحيده التي كان يترقب الجميع موسمها الغنائي ،و يبدأ الأستعداد لسماعها مبكرا في الخميس الأول من كل شهر، وحيث تقدم ثلاث وصلات غنائيه وفي كل وصله كانت تقدم اغنية مختلفة ،وتحرص ان تتضمن احدى تلك الوصلات أغنية جديده تقدم لأول مرة ،وتنقضي السهرة بساعاتها الطوال،وجمهورها العريض في حالة من النشوة،وترديد الكلمات الأشهر لدى معجبيها (أعد .. أعد .. كمان ياست ).

فاطمه ابراهيم البلتاجي

انها الصبية الصغيرة التي اقتحمت عالم الغناء ،بموهبة حقيقية ،وبارادة حديدية ،وبعزيمة لا تلين . انها ( فاطمه ابراهيم البلتاجي ) وذلك هو الاسم الحقيقي لتلك المطربة العملاقه . ولدت في يوم 18 ديسمبر عام 1898 في قرية ( طماي الزاهيرة) مركز السنبلاوين محافظة الدقهلية في مصر. شبت ضمن جوقه صغيره تلو التواشيح , تتكون من الأب،والأخ خالد، وهي ذات الأعوام الثمانية ،بعد ان لاحظ والدها في صوتها قوة ونغم ترتاح له الأذن. ثم كان لقاؤها مع المعلم الأول لها الشيخ (ابو العلا محمد ) ،وعلى يديه عرفت النغم من خلال الموسيقى ،وليس مجرد

أم كلثوم في صورة نادره مع فيروز

التجويد ،ثم التقت بالمعلم الآخر في فن الكلمة ،وهو ( أحمد رامي) ،ومن خلالهما عرفت الأساتذة الكبار ( محمد القصبجي ) والشيخ ( زكريا أحمد ،وكل هؤلاء شكلوا الموهبة الطبيعيه في الشدو والغناء،والكلمة الراقية في النص والمعنى ،والغناء كأي حرفة أخرى ،ليس مجرد موهبة في الصوت ،وفي النبرة، ولكنه عقل وادارة لهذا الصوت ،وتوجيهه ،ودقة الأختيار ، في المعنى وفي الأداء. لمعت ام كلثوم ،وتوهجت ،وصاحب هذا الأنتشار،والتوهج التقدير أيضا والأحترام،وجابت أنحاء العالم العربي،تعرض فنا خاليا من الأبتذال بل يتميز بالكلمة الرفيعة سواء المنظومة شعرا ،أو في الدارجة من العامية الشعبية ،واستقبلت في كل بلد بحفاوة جماهيرية واسعه ،وكانت ايضا محل ترحيب واكبار سواء من الحكام أو شريحة المثقفين وأهل العلم والمعرفة، كما اعطتها دور النشر من صحف ومجلات و الكثير من الوان التقريظ والأشادة   كما عبر لها العديد من أصحاب القلم عن مدى اجلالهم لموهبتها وللفن الأصيل الذي تقدمه ،وتبعا  لذلك لم يكن غريبا ان يستقبل بريدها العشرات ان لم يكن المئات من الرسائل والخطابات التي تحمل تلك المشاعر الصافية من العواطف النبيله .

 المفاجأه البريديه

 لكن  في منتصف الأربعينات من القرن الماضي ،حدث أن وصلت اليها رسالة واحدة من ذلك الكم العريض من المقالات لكبار الكتاب ،وقصائد الشعراء الذين غمروها بالكتابات المفرطه بالاشادة بصوتها وبأدائها ،أثارت مشاعرها ،كأنها سهم أصاب بدقة صميم وجدانها . رسالة تابعت قراءتها بشغف ،وجرت عيناها  على سطورها بنهم ، ومع كل سطر يتزايد اهتمامها ،وتلتهب حواسها اعجابا

وانبهارا بمستوى التعبير،ورفاهة الكلمات ،والمعاني التي لم يتطرق اليها كاتب من قبل، عن هذا الصوت الآسر شديد الجاذبية على الاسماع بدرجة عالية من الطغيان .انتهت من القراءة،وبدأت في البحث عن الراسل الذي لم يكن سوى طالبه في كلية الآداب أسمها ( نعمات أحمد فؤاد ) التي أصبحت

 ( الدكتورة ) فيما بعد ،وقد ولدت في عام 1924 وتوفيت في أول أكتوبرعام 2016 . كانت أول فتاة مصريه ترتيبها ألأولى في امتحانات التوجيهية،أو مايعرف بالثانوية العامه حاليا،وشغلت عدة مناصب منها مديرة للفنون والآداب،ومديرة عامه للمجلس الأعلى للثقافة، كما قامت بالتدريس في جامعة الأزهر ،وجامعة طرابلس ، وجامعة حلوان. دعتها أم كلثوم لزيارتها وقالت لها ( لقد كتب لي وعني 

 كتاب وشعراء وخطباء ،ولكن كلاما كهذا الذي كتبتيه لم أسمعه أوأقرأه من قبل). فماذا كتبت تلك  الطالبه الجامعية ذاك الحين. اننا نقدم فيما يلي النص الكامل لتلك الرسالة التي انبهرت بها أم كلثوم.

 نص الرساله

أيها الصوت من السماء

كلما أصغيت اليك أمسكت بالقلم طامعة في تسجيل رفرفة نفسي الفرحة المرتاحة لنشيدك فأحجم لأن الجمال اذا بلغ الغاية من الكمال قد يفسده الوصف مهما تأنق وأفتتن وهيهات للشعاع ان تمسكه اليد او تحدق في شمسه العين ،ولكن هذه المرة أقدمت على الكتابة لأني لم أقو على الدمعة التي تألقت في عينيك المفداه،يغمطك قدرك من يزعمك تغنين فحسب.أنك في مقامك شادية،وشاعرة ،وخطيبه،وداعية الى الآمال الكبارايضا. أنك قطعة منا .أنك ذخر كبير من ثروتنا القومية. انك لظمأ هذا الشعب الصادي والمتاع الوحيد في حياتنا الكابية يعوضه عما يعانيه من ضنى وحرمان ،ولعل هذا السر في ان الكثيرين يجودون بمالهم القليل ليصلوا اليك مؤثرين نعيم الروح على غذاء الجسم الضارع المحتاج الى الغذاء ،ولكنه يؤثر فرحا داعي السماء.

 ايها الصوت من السماء

ان الشعب الذي يصغي اليك بحواسه كلها مكبوت ،وعندك يجد متنفسا تغنينه وتشجيه ،وتسرينه وتبكيه ،وهو سعيد سعيد بالشجن والغناء ،والسرور والبكاء على السواء، أنه ليس امام مغنية ،ولكنه يعتقد باحساسه انك قيثارة الله. فما هذه الالحان من الارض التي تتنكر للفن في زحمة المال والعلم .

 ايها الصوت من السماء

أننا نصغي اليك ،فاذا بنا أشف نفوسا وأرق احساسا وأطهر قلوبا وأعمق ايمانا ،حتى الغفاة يفيقون على سبحاتك كما يفيق وسنان على اّذان الفجر في هدأة السحر. لكأنك رقيا ساحر تحيل الغفوة صحوا ،والأثم طهرا فاذا العيون تدمع ،واذا القلوب تخشع حتى اذا فرغت من انشادك وقع الكل في بحران من الحماسة السكرى يهللون ويكبرون . منك يتعلم هذا الشعب المعاني التي يصوغها له الشعراء ،وعنك وحدك يفهم مرامي الالفاظ ،بل ان شعر الشاعر تسمو بلاغته على شفتيك بما تضيفينه عليه من ظلال والوان صوتك الغني الموهوب . أن قصيدة( النيل) ما كان يطمع ( شوقي) ان تسري في نفوسنا الى هذا العمق لولاك .ان ما فيها من فرحة ومهرجان وتسبيح من صنعك انت . حتى النغم يلحن الملحن لأصوات كثيرة فلا نحس بها لأنها لاتنفذ الى قلوبنا مواطن الاحساس.ولكن لحنه تؤدينه يقيمنا ويقعدنا ،ويبكينا ويسعدنا .هل هذا كله عمله هو ؟ كلا ان جانبا كبيرا من عملك أنت وبدعك أنت 

 ايها الصوت من السماء

لقد كانت الشهور العربيه حتى ظهورك بيننا تتيه باستهلالها مع بزوغ الهلال في السماء،فاذا بالشهور الاخرى تنافسها بسطوع بدر باهر السناء لألاء الضياء يسلسل النور لحنا يرقرقه ونغما يشيعه .نور يضيئ النفوس،وتسكن من خوف، وتستشعر الرضا،وتنعم بالغبطة وتسترح بالأمل .من لنا بشاعر عبقري يحدث الملأ عنك حديثا لامراء عندي انه سيتأمله طويلا وسيعتز به كثيرا لأنه يتصل بك فأنت مجلاة وأنت موحيتة  يحدث الملأ عن الشجى والرقة والاستعطاف في (يا للي بكاي شجاك) شاعر يحدث الناس عن التحدي العذب في (عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك) يحدث عن المعاني التي يحشدها صوتك ولا ادري كيف في (حتى الجفا محروم منه) يحدثهم عن تصوفك

أم كلثوم
من الصور النادرة التي تواجه فيها الكاميرا.

الرفيع في(نهج البرده) يحدثهم عن ( ولد الهدى) بيتا بيتا وما اخلق الهمزية بحديث طويل ,يحدثهم عن اغاريدك الاولى التي حجبت عنا الآن ولكني مع ذلك أسمعها تملأ نفسي ،وكيف أنسى أو ينسى الناس تغريدك ( النيل جاري والليل ساري ) ورفعك الصوت مرنا قويا جارفا في أول ( جاري) وانتهاءك به ناديا رقراقا في الحرفين الاخيرين من الكلمة ( الراء والياء) وكأنك تمثلين النيل من منبعه حيث يتدفق قويا جارفا عند هضبة البحيرات ،وينتهي هادئا عذبا رقراقا عند الزمالك ،حيث يجري من تحتك طروبا بقربك فخورا بشدوك تتواثب موجاته نحو الشاطئ كأنها تسعى لتقبيل يديك . شاعر يحدث الناس عن ( أذكريني ) وما فيها من ألوان يحدثهم عن ( هلت ليالي القمر) ومافيها من همسات ،يحدثهم عن ( وهوى الغانيات مثل هوى الدنيا) وعن ( حمامة الايك من بالشجو طارحها) يحدثهم عن ليالي ألأرغول وعن ( الأمل) وعن ( الورد جميل ) الذي ينمقه صوتك وكأنه يخلع عليه ألوانه وينفحه العطر والشذى وقصارى القول يحدثهم عن السعادة : حسبنا من زماننا عذب نشيدك .. وحسبنا من دنيانا حلو تغريدك 

ايها الصوت من السماء لاحرمناك تترسل بيننا لحنا لحنا .

 وبعد رحيل أم كلثوم كتبت الدكتوره ( نعمات احمد فؤاد ) تقول :

 ايها الصوت من السماء

بعد هذا الخطاب لم اكتب اليك لأني اتصلت بك وأخذت أقرؤك بأذني وعيني ووجداني ..والآن طارت

( حمامة الأيك) ومن جديد سأكتب اليك.. (من أجل عينيك ) وستصلك رسائلي عبر الارض الى السماء ترفرف على جناحي ملك يصل هتفه من مصر، التي وصلت بين قلبينا بالأنتماء والولاء والغناء. فقد كانت وحدها ليلانا

نعمات احمد فؤاد
طالبه بكلية الآداب  –  جامعة فؤد الاول

معا..ونجوانا معا كلما ضمنا مجلس أو دار بيننا حديث. ياعقد الفل على صدر مصر ياست الكل بين سيدات مصر. صوتك اّية،واسمك راية،فالكلثوم هو الحرير يكون في اعلى العلم،وقد كنت لنا حريرا،ونميرا،وخيرا كثيرا ،وذخرا كبيرا. كنت لنا علما ومعلما ثم غدوت لنا التراث والرصيد، والتاريخ والنشيد ،والفخر والتمجيد . أنت أم كلثوم وستبقين أم كلثوم مابقيت مصر وجرى النيل

ختاما …

تلك كانت قصة الرسالة التي أثارت مشاعر ( أم كلثوم) ،فهي لم تكن بالقطع مجرد رسالة اعجاب كبير أوحب تجذر ،وانما في الأساس رسالة احترام وتقدير،وعرفان بأن هذا الصوت العريض الذي يصفه موسيقار الاجيال بأنه كان ( عاصمة للأصوات الغنائيه ) بما يشكله من مقامات ،كان صوت له رسالة في معاني الكلمات وتركيب الألحان ،فهو ليس مجرد صوت مؤدي ،وانما يضيف بتلوين النبرات زخما للمعاني ،وغنى للتعبير،انه كما قال الكثير من النقاد ( الصوت المعجزة) ،يضاف الى تلك القدرات سهر

 على المعرفة ،وحرص على تنمية الثقافة ، وشموخ في الأداء. انها بالقطع فنانة عصر سيظل يعطي ويغذي العديد من العصور.

                                                                                    أمين الغفاري

العدد 115 / نيسان 2021