لعنة لبنان التي تتجدد

محمد علي فرحات

لا يكاد لبنان يشفى من الطائفية حتى يعود اليها، في مفترقات هامة سياسية أواقتصادية، فترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل هذه الأيام يترافق مع ارتفاع الحرارة الطائفية بقيادة متزعمين قادرين على تصوير فشلهم نجاحاً متجدداً: الطائفية تتغذى دائماً بنهب المال العام وبالولاءات العمياء لأنصارها.

هكذا اللبنانيون يعمرون بلدهم ويمارسون الحرية والانفتاح على الشرق والغرب فيصبح وطنهم منارة ثم يطفئونه ليدخل في عتمة القرون الوسطى المتجددة، وهم يتحاربون بالنيابة عن اسيادهم وراء الحدود ليعودوا الى رقم الصفر المبارك اللصيق بهذا الوطن العجيب. ومن العجائب والغرائب ان المتزعمين يعلنون عجزهم عن تشكيل حكومة جديدة كاملة الشرعية وعن انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل اسابيع قليلة من الاستحقاق الدستوري. وعلى رغم النقاشات المعلنة فلا احد يعرف حقاً سبب هذا العجز الذي يطغى على اخبار ترسيم الحدود البحرية والوعود ببدء التنقيب عن النفط والغاز في بحر لبنان، للحاق ولو بتأخر سنوات عن التنقيب الاسرائيلي الناجح.

والواقع ان الطائفية في لبنان سابقة على وجود الدولة. وثمة محطات للصراع الطائفي الذي يخفي مأزق الولاءات السياسية لدول كبرى في الاقليم وفي العالم، هذه المحطات تبدأ من نظام القائمقاميتين الطائفي الذي أعقب الحرب الأهلية الاولى في جبل لبنان عام  1840. والمحطات الطائفية هي:

  • نظام القائمقاميتين الذي بدأ عام 1843 واستمر حتى العام 1861 بتشجيع من الاوروبيين والمصريين، وقد نص على قائمقامية جنوب طريق الشام يحكمها درزي وقائمقامية ثانية شمال طريق الشام يحكمها ماروني. وتعود هذه الفكرة الى مندوب النمسا بين ممثلي الدول التي ابتدعت هذا النظام بموافقة السلطة العثمانية المتراخية.
  • نظام المتصرفية الذي اقر في العام 1861 إثر تجدد الحرب الطائفية، خصوصاً في القائمقامية الدرزية، فقد عقد مؤتمر لممثلي دول أوروبية لاعادة تنظيم الحكم في جبل لبنان واعتباره كياناً ذا وضع خاص داخل الدولة العثمانية. وجرى التوقيع على الاتفاق في اسطنبول، بمشاركة ممثلي فرنسا (راعية الموارنة) وروسيا (راعية الارثوذوكس) والنمسا (راعية الكاثوليك) ، وانكلترا (راعية الدروز)، وتولى العثمانيون رعاية الطائفتين السنية والشيعية. وكان للمتصرفية مجلس ادارة يمثل الطوائف ومتصرف اشترط فيه ان يكون مسيحياً غير لبناني ومن التابعة العثمانية. اثر ذلك مر لبنان الصغير في حال استقرار، ولكن، تضاعفت الهجرة خصوصاً الى مصر واميركا.
  • الحرب العالمية الاولى: الغى العثمانيون نظام المتصرفية وأعدموا المتعاملين مع الدول الاوروبية وعمت المجاعة واصبح لبنان بلداً طارداً للقادرين من سكانه.

وبعد نهاية الحرب وزوال السلطنة العثمانية اخضع لبنان للانتداب الفرنسي وتم اعلان لبنان الكبير سنة 1920 بتوسيع مساحة جبل لبنان الى الحدود الحالية، وتكريس الطائفية في الحكم، مع مساحة موسعة للسنة والشيعة بدل تمثيلهم الضيّق في نظام المتصرفية.

  • واعلن الاستقلال عام 1943 بلا معركة، نتيجة انقسام فرنسا عام 1940 بين ديغول الذي لجأ الى بريطانية والجنرال بريطانيا الذي ترأس فرنسا وكان يدعو الى هدنة مع الالمان الذين غزوا بلده.

في ذلك الوضع القلق للانتداب الفرنسي سهل الانكليز بشخص الجنرال ادوارد سبيرز الموجود في بيروت عملية الاستقلال التي سبقها عملية اعتقال دعاة الاستقلال الذين ما لبثوا أن اطلق سراحهم لتعلن دولة الاستقلال عام 1943.

  • ثورة اشهر الصيف عام 1958 نتيجة الوحدة المصرية السورية بقيادة جمال عبد الناصر، وتخللها نزول المارينز الاميركي على شاطئ بيروت، ثم انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية. وقد التقى شهاب عبد الناصر عند نقطة الحدود السورية، واتفقا على مراعاة السياسة الناصرية اقليمياً وترك الداخل اللبناني لحكم الرئيس واستخبارات الجيش.
  • 1975: مطحنة القتل والخراب تتغذى بالمصالح الخارجية وبأحلام تتحول الى كوابيس، كما بصراع متحرك يتعانق فيه القاتل والقتيل ويتعاونان لقتل طرف ثالث. هنا تضيق مساحة الحياة والوعي وتتسع مساحات الخراب. وابرز ابطال هذه المرحلة الدموية المديدة هم على التوالي (وبالتداخل أحياناً): الطائفيون اللبنانيون الصرحاء والمقنعون، اسرائيل التي احتلت حوالي نصف لبنان على مرحلتين، منظمة التحرير الفلسطينتية والفصائل المعارضة لها التي سيطرت على الشارع وعلى معظم القرار السياسي، الاحزاب المسماة يسارية وتلك المسماة يمينية وكانت مطايا لقوى غير لبنانية، سورية الجارة الشقيقة التي مارست صراعها مع خصومها في الاقليم وفي العالم على حساب الأرض والشعب في لبنان. وتشبثت بنفوذ لها عابر للطوائف والأحزاب والشخصيات.

واستمرت هذه المرحلة المتشعبة والمعقدة  15 سنة حتى اتفاق الطائف (1990).

هذه الحروب الداخلية المعقدة والمتداخلة مع عوامل خارجية لا تنتهي الى سلام واضح، ففي مرحلة السلام الداخلي الشكلي حتى أيامنا الحاضرة تمكن معظم قيادات الحرب من السيطرة على الدولة، واضطر رجل المرحلة الجديد رفيق الحريري الى التعاون مع امراء الحرب هؤلاء ليلقى نهاية مأساوية أكدت ما يشبه اليأس من اقامة ادارة سياسية واقتصادية لبنانية، فقد تغلب الفساد وأصبح سمة لازمة لادارة الشأن العام، وصولاً الى انهيار الجهاز الاداري وافلاس الدولة مصحوباً بسرقة مليارات الودائع من المصارف بوقاحة مستمرة حتى الآن. وكانت الظاهرة السياسية والعسكرية البارزة ما بعد مؤتمر الطائف هي “حزب الله” الذي ساهم بشكل رئيسي في دفع الجيش الاسرائيلي المحتل الى الانسحاب، لكنه ساهم ايضاً في الاعتراف بفساد الدولة وصولاً الى تأكيد تطييف السياسة والدفع نحو استعادة الصراع الطائفي كذريعة لاطماع متسلطين وقوى خارجية أيضاً.

ويأتي ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل ليسمح للبنان باستخراج نفط وغاز من بحره، بما يمد سلطة الفساد بحياة متجددة ويبقي الدولة رهينة المتسلطين.