الدولة المحكومة بعشرات الرؤوس

الدكتور نسيم الخوري

طغت تشظّيات دستورية طائفية لها علاقة مُعلنة ومضمرة بإصلاحات سياسية وسيادية كبرى على الحياة اللبنانية فجمّدتها، وأورثت تغييرات بنيوية ملحّة باتت يستلزم المزيد من الإصلاحات الجديدة التي تُلحّ عليها الدول والمنظّمات المتدفقة على لبنان الصغير المُتعب. لنعترف بأنّ الدولة مشلولة داخلياً وستبقى كما كانت رهينة الخارج وفي كلّ الخارج في عالمٍ مشغول ومحكوم بدوره بالتشظيات الكبرى في كلّ الإتجاهات من مفاهيم العظمة الدولية إلى مفهوم الدول البسيطة.

قبل توضيب حقائبه للخروج من قصر بعبدا، أفصح الرئيس ميشال عون ( 20 أيلول سبتمبر 2022)، أمام سفراء الإتحاد الأوروبي بأنّه “من الصعب إدارة الدولة بثلاثة رؤوس”. وفي تقديري أنّ الرجل قد قلّص عدد الرؤوس الذي تجاوز عندي العشرات في محاضرةٍ لي تعود إلى ال1989 في كليّة الإعلام التي كنت مديرها، مستنداً إلى كوارث المناقشات الطائفية في الطائف والعديد من الوثائق والقصص عبر النائب فريد جبران (والد زوجتي) الذي كان مشاركاَ في مدينة الطائف بسحب الدستور الجديد من الرحم السعودي والدولي، بصفته نائباً وأحد مؤسسي الحزب التقدمي الإشتراكي مع كمال جنبلاط. لقد بنيت ونصوصي في الدستور الجديد، إلى مجموعة واسعة من المقابلات المُثيرة التي أجراها طالباتي وطلابي في كليّة الإعلام مع مُعظم نواب الطائف الذين ما أن وصلوا إلى بيروت حتّى انقلبوا على الطائف في مقابلاتهم السريّة، بل بصفتها وثائق تاريخية أكاديمية لم تُعدّ للنشر ولم ننشرها حتّى الآن لكونها تفضح الكلام بين المباح والمستور. استرسل فيها معظمهم بأسرار ووقائع، خشي الرئيس حسين الحسيني من نشرها، وهي محفوظة بمكتبتي بعنوان: “مات الطائف قبل أن يولد”. إنّها وثيقة ثمينة من 300 صفحة لطالما أعرضها اليوم للنشر.

نصّ دستور الطائف على فصل السلطات وتوازنها وتعاونها، وفشل أهل الجمهورية الثانية في فهم أساليب الحكم التي أرساها مونتسكيو أساساً في ممارسة الديمقراطية عبر ترسيخ التناغم بين الأفعال الثلاثة: فصل، تعاون، توازن.

كان الخلاف بيّناً مثلاً، حول مشاركة البرلمان ورئيسه رئيسي الجمهورية والحكومة في تشكيل الوزارات لأنّ الأحزاب الطائفية تتشبّث بالجمع بين النيابة والوزارة بما أدخل التشابكات بين السلطتين التشريعية والإجرائية فبطل دور الرقابة البرلمانية وأجهزة الرقابة المنوطة برئيس الوزراء.

كيف سيكلّف، إذن، رئيس الجمهورية رئيس الوزراء ليشكّلا الحكومة معاً إذا كانا على رأس حزبين قويين ولكلّ زعيم آخر حزب أقدر منهما بل من الرؤساء الثلاثة على التعطيل؟ وما هي مهل التكليف والتأليف التي أهملها الدستور؟

كيف يعمل رئيس الحكومة وكلّ وزير ممثل لرئيس حزبه معتبراً نفسه أقوى من رئيس حكومته؟ يقع التعطيل فوراً وتُشلّ الدولة حول طاولة مجلس الوزراء ليصبح مجلس رؤوساء وأحزاب أو تقاسم نفوذ وسرقات على حساب الشعب؟

من يحكم لبنان؟

عشرات الرؤوس داخل لبنان وخارجه أي سلاطين التنافر والتحاصص متحصنون ومتمتّعون بقصورهم المشعشة الدافئة في جمهورية العتمة الباردة. أمّا بقايا الشعب ففي أنفاق القهر والمرض والطحن والجوع والموت والهجرة والبحث  عن كوّة مضيئة تُخرجهم من العبث الهائل بالحاضر نخو ملامح المستقبل.

وللتذكير،أخرج ناموس إتّفاق الطائف العقد التاريخية بين المكونات اللبنانية عندما أقرّ المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في البرلمان والحكومة والفئة الأولى من الموظّفين. لطالما فاخر الشهيد رفيق الحريري بإنجاز وقف العدّ الطائفي في إحتساب اللبنانيين للإنتقال إلى التنوع والإنصهار الوطني الشاق. أرضى الأمر المسلمين السنة فأخرجهم من عقد الغبن والإحباط إلى توزيع السلطات التي إنتقلت كلّها الى طاولة مجلس الوزراء مجتمعاً تتحدّد فوقها تلك السلطات وتتبلور بالممارسة، لكن المسألة بقيت خاضعة لشخصية رئيس الحكومة إذ إستطاع عبرها الحريري بقدراته وملاءته الشخصية والدولية إستقطاب شرائح الطوائف الأخرى في “تيّار المستقبل” كما في تمثيل العديد من اللبنانيين من الطوائف الأخرى.

ماذا الذي تغيّر ؟

قويت مشاعر الغبن والإحباط المسيحي والشيعي همساً ثمّ جهراً وممارسةً فتحوّل الوطن منبر الخطب والتصريحات والممارسات الطائفيّة الفجّة في حنين مسيحي لاستعادة سلطات الماضي الموروث في حكم لبنان وطموح شيعي مستحيل يتنامى ويقوى في صورة توازنات الحكم في لبنان. أقول المستحيل لأنّ نبراتٍ مقلقة راحت تلوّح بالخروج من المناصفة إلى المثالثة بعدما اختلّ التوازن المذهبي نتيجة ذريّة الإنجاب مقابل تدفّق شرائح الشابات والشباب الفاقدين الأمل بالمستقبل على أبواب السفارات التي شرّعت أبوابها نحو الخارج.

هكذا إنغرزت فتائل الإلتهاب التاريخي الطائفي إذن إلى التربة البشرية الحافلة بالصراعات وتحالفات المصالح بين “ميليشيات” الأمس أحزاب اليوم لتقبض على لبنان في الحرب وفي السلم وحتى في ثروات الغاز والنفط مؤخّراً مرسّخةً الثنائيات الطائفية المتنافسة والمتحالفة والمتصارعة والمتحاصصة في آن مثل الثنائية السياسية المارونية الممثلة بالتيار الوطني الحر والقوّات اللبنانية والثنائية الدرزية إلى الثنائية الشيعية الممثّلة بحزب الله وحركة أمل يتطلّعان إلى لبنان المثلّث الأضلاع.

لا دستور يطبق إذن في لبنان لأنّ الأحزاب الطائفية تجذّرت في الدولة بل هي الدولة والمنتمون إليها لا يتجاوزون ال15 بالمئة من المواطنين وأقلّ من ذلك إذ لطالما تمثّلت أحزاب في البرلمان أو الحكومة برئيسها وعدد محازبيه لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين.

من يحكم لبنان اليوم؟

أمراء الحروب والطوائف والمحاصصة.

لا يحكمه رئيس الجمهورية ولا رئيس مجلس النواب ولا رئيس مجلس الوزراء بل الرؤساء الثلاثة مجتمعين ومتناكفين ومتحاصصين وتشاركهم الأحزاب الممسكة بتفاصيل الجمهورية المخلّعة الأبواب. يجتمعون في مقاعد السلطات الديمقراطية الإسمية ويتباعدون مع مناصريهم في ممارسات ترعب المواطنين وتشلّ الإقتصاد والقدرات المالية والنقدية والمستقبل الذي بات يحتلّ الألسنة والشاشات تشبيهاً بسقوط  فنزويلاّ. لا اللبنانيين إستلّوا العبر وبلغواالمعايير الوطنية في الحكم ولا العرب إستلّوا العبر بدورهم من الحروب المستوردة المتنقلة من دار لدار في لبنانهم الحبيب حيث لا مستقبل خارج أطر الحوار والتآلف والتفاهم والتوحد وعياً لعصر الإنحطاط في الحاضر وبحثاً عن الصور القاتمة للمستقبل.

* كاتب لبناني وأستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه.

*عضو الهيئة العليا للإشراف على الإنتخابات في لبنان