لندن في تسعينات القرن العشرين: نقولا زيادة في ليلة عيد ميلاده الخامس والثمانين

»التاريخ نسغ الحياة المتدفق تحت جسر الحاضر«

بيروت – جادالحاج

في الشتات تأخذ زيارة شاعر نحبه حجماً وأبعاداً قد تبدو مبالغة لو قلنا انها تشبه العيد. غير ان من عرف الشاعر اللبناني طلال حيدر أدرك وربما تخيل الفوران البهيج الذي احدثه هنا في لندن، أكثر مدن العالم انطواء، حيث نعمل ونعيش متزلجين على القشرة، تمسكنا عن السقوط في الإكتئاب وحدها ذاكرة مرت عليها صنوف الحرائق وما فقدت، مع ذلك، الوانها البكر في خيالنا.

 مذ كنا نساهره في الوطن، عرفناه شاعر إلفة وعاشق ليل، يتوهج كرأس حربة، قناص جمال وذواقة إصغاء وقول. مناخه العلو والفسحة الرحبة، فكأن فطرته مجبولة بتربة سهل البقاع السابح كسماء بين أحضان الجبال. آخر مرة في بيروت، منذ أربع سنوات، مشينا حد الشاطئ وكان طلال مضطرباً، تارة ينظر إلى الشمس القانية المسرعة بالافول، وطوراً إلى أنياب الرصيف المحطمة تزدرد خطواتنا. وكانت بعلبك في كلامه تنأى عنه وعنا كأنها تلحفت بضباب أسود وبعيد، وفي حرقة مريرة قال إنه ربما يموت ولا يرى مدينة الشمس مرة اخرى. لكنه أيضاً قال:

توفي نقولا زيادة سنة 2006 قبل اقل من عام واحد على بلوغه المئة

»حيثما نام أبنائي على وسادة الغربة هناك بلادي«.

 جاء طلال من ايطاليا حيث يدرس ابناؤه، للاحتفال مع الرابطة الثقافية للشرق الاوسط بتكريم البروفيسور المؤرخ نقولا زيادة.

يتصور من طالع نقولا زيادة في المدرسة أو الجامعة انه اليوم شيخ جليل لعله يضع يداً مرتعدة خلف أذنه حثاً لسمع ضئيل، أو يعمص جاهداً من وراء نظارتين سميكتين بسبب بصر شحيح. في الواقع، ومع انه جاوز الثمانين، نقولا زيادة لماح، حاضر الذهن والبديهة، رفيق النخب والنكتة، بل كأن الأزمنة التي عايشها وتلك التي سبر أغوارها في بحوثه وكتاباته صبغت بالشيب هامته وما اسقطت شعره من ناموس شبابه.

رحب جورج زعني، مؤسس الرابطة ورئيسها، بنقولا زيادة قائلاً: نكرّمه الليلة بتواضع ونحاول أن نفيه بعض ما له علينا من فضل (…) والتاريخ ليس مقبرة بل هو نسغ الحياة المتدفق تحت جسر الحاضر، يربط ضفة الماضي بحياة المستقبل… ضياء عزاوي، برهافته الفارسة، رسم بطاقة المناسبة التي احتوت بين دفتيها كلمة ألقاها طلال، ثم قال:كل عام وانت انت ايها الصديق. نحتفل هنا في لندن عند جورج الزعني برؤيوي يتنقل بين ازمنة كلما تهددت توحدت، لكنه شاهد على الصيرورة في ديمومة الزمان، فالتاريخ ساحة من الروح لا يسعها إلا الزمان، والزمان الذي سيغيب كالزمان الذي غاب. لو ان المستقبل حاضر في الآن لكان ماضياً لأنه يكون قد حدث. المستقبل هو نحن في طريقنا إلى الآتي الذي لم يأت بعد. هذا هو الفارق بين القدر والتاريخ. القدر يستحضرنا كيفما شاء اما المستقبل التاريخي فنحن الذين نتدخل في استحضاره بان نستشرفه بإضاءة الماضي بالوعي، وخلط طلال في كلمته اعمالاً وأقوالاً وقعها المحتفى به عبر قرابة نصف قرن من الكتابة والعمل الأكاديمي خالصاً إلى القول: »بدأتها الحياة يتيماً مع امك ابنة عبدالله، بليرة ذهبية واحدة أنبتت سبع سنابل من الذهب، في كل سنبلة وطن معلق ورمح من الضوء يثقب خاصرة التاريخ!«.

والقى الزميل محمد علي فرحات كلمة هادئة تناولت انطباعه الشخصي حول محور السهرة قال:’لم يحضر نقولا زيادة في ثقافتنا حضوراً صاخباً، وكان دائماً ذلك المؤرخ الذي يقرأ ما كان وما يحصل الآن برودة العالم وعاطفة المحب، لا يهمل بلداً عربياً لأنه فقير او ضعيف، ولا يحابي بلداً عربياً آخر لأنه غني او يمتلك جيوشاً جرارة. ولذلك قرأنا في كتبه الأحداث في مستوياتها الحضارية المختلفة ولم يضللنا أبداً في طرق وعرة، ولم يحاول اقناعنا ببطولات مضخمة تنسب الأحداث إليها. وهو لذلك يعتبر صديقاً لقرائه اكثر مما هو باهر او قائد يد على الحقيقة.

نقولا زيادة أجاب خطياً على السهرة والمناسبة فشكر جورج وزوجته سهام وقال ان طلال حيدر »يقتنص الكلمات ليصيرها شعراً وإن ضياء العزاوي فنان لا يصنف«.

أوف… أوووف، يابا… ايلي ضو نقر عوده واندلعت حنجرته الصافية في الأوف فاكتمل النقل بالزعرور كما يقول المثل القروي، اي ان املاح الغربة العتيدة تبددت نهائياً مع تحول نبع الحنين إلى نويهر رقراق ضفافه النهوند وصفصافه الأغنية البلدية. وايلي ضو مزيج عجيب من وديع الصافي ونصري شمس الدين. خجول. يفتش من دون لهاث ولا تبجح عن اسلوب له، وهو يؤدي اغنيات الكبار مستنفراً مشاركة الحاضرين، متنقلاً كالدوري بين لحن ولحن.

 قال نقولا زيادة انه نسي بعد عزف إيلي هل كان إيلي هو العود نفسه، ام ان العود تقمص حياته السابقة وأصبح ايلي!

 ولد نقولا زيادة في2 كانون الثاني (ديسمبر) 1907 في حي باب المصلّى ضمن منطقة الميدان في دمشق. أبواه فلسطينيان من الناصرة. والده موظف في قسم الهندسة في الإدارة العامة لسكة حديد الحجاز. عند بداية الحرب العالمية الأولى، وكان عمره 8 سنوات، تم تجنيد والده في الجيش العثماني، وأثناء مكوث الوالد في أحد مراكز تجميع الجنود بانتظار إرسالهم إلى جبهات القتال مرض ومات قبل أن يذهب إلى الجبهة.

 بعد وفاة والده عادت أسرته إلى الناصرة عام 1917 حيث يقطن خاله الذي تعهدهم بالرعاية، وما لبث أن قُتل في انفجار قنبلة ألقتها طائرة بريطانية، فاضطرت أمه للبحث عن عمل لاعالة الاسرة، ووجدت عملا في جنين. هناك، لم يلتحق نقولا بأي مدرسة لمدة سنتين لانعدام وجود المدارس إذ استولى الجيش الألماني على المدرسة الوحيدة في البلدة. لكن نقولا عوّض عن ذلك بالمطالعة والتثقيف الذاتي، فقرأ الكتب التي استعارها من جاره، مثل »تغريبة بني هلال« و»سيرة سيف بن ذي يزن« و»ألف ليلة وليلة« وعام 1919 تم افتتاح مدرسة حكومية في جنين فالتحق نقولا بها. وتم قبوله عام 1921 في دار المعلمين الابتدائية في القدس.

تخرج نقولا من دار المعلمين بعد ثلاث سنوات وعمل لمدة قصيرة في مدرسة الناصرة (وكان عمره حينئذ 16 عاما) ثم انتقل إلى مدرسة ترشيحا في قضاء عكا حيث عمل سنة واحدة التحق بعدها بمدرسة عكا. وعلى رغم ميله إلى الرياضيات تم تكليفه بتعليم التاريخ والجغرافيا ما افسح له في مجال التعرّف على بعثات التنقيب عن الآثار في عكا وبيسان؛ وحرص على زيارة المناطق الأثرية في فلسطين، وكان في بداية حياته يعتبر نفسه »مؤرخًا تحت التدريب«، فنشر عام 1930 مقالا في مجلة المقتطف عن معركة مجدو، وعام 1935 اختير لبعثة دراسة التاريخ القديم في جامعة لندن حيث قضى ما يقرب من 4 سنوات في أوروبا، منها حوالي 6 أشهر في جامعة ميونخ بألمانيا، حيث درس لغتين أوروبيتين بخلاف الإنجليزية، فاختار الألمانية والفرنسية القديمة، واستطاع وحصل على البكالوريوس عام 1939.

عاد نقولا إلى فلسطين في صيف 1939 قبل أن تبدأ الحرب العالمية الثانية بأسابيع، وخلال السنوات الثماني التالية لعودته درّس التاريخ القديم وتاريخ العرب في الكلية العربية (القدس)، وصدر أول كتاب له عام 1943 بعنوان »روّاد الشرق العربي في العصور الوسطى«، وحاول خلال تلك السنوات أن ينقل بعضا مما تعلمه في الغرب إلى طلابه من خلال محاضراته وكتبه.

 في عام 1947 سافر إلى جامعة لندن مرة ثانية للإعداد للدكتوراة، وكان اهتمامه قد انتقل من التاريخ الكلاسيكي إلى التاريخ الإسلامي. في تلك الفترة كتب عددا من المقالات في »المقتطف« و»الثقافة« وغيرهما. وقضى نقولا في لندن عامين أعد خلالهما رسالة الدكتوراة عن »سوريا في العصر المملوكي الأول« وفي سنة 1950 قدّم الرسالة ونال الدكتوراة.

 بعد احتلال فلسطين نزح نقولا إلى لبنان حيث التحق بالجامعة الأمريكية في بيروت فعيّن بداية أستاذا مساعدا ثم عيّن استاذا عام 1958، وظل يدرس فيها حتى عام 1973، وبعد بلوغه الخامسة والخمسين تقاعد من الجامعة الأميركية، وأشرف في جامعة القديس يوسف – بيروت، على رسائل الدكتوراه في التاريخ العربي، حتى العام 1992، كما درّس في الجامعة الأردنية بين1976و 1978 عاد بعدهما إلى بيروت، محاضراً ومشرفاً في الجامعة اللبنانية.