ولادة جديدة لجبران “هذا الرجل من لبنان” ووثائق عنه جديدة (1 من3)

رؤوف قبيسي:

لا يملك الناظر في كتاب باربره يونغ “هذا الرجل من لبنان”، عن جبران خليل جبران، مُصاغاً بالعربية بجهود هنري زغيب، إلا أن يرفع القبعة لهذه الشاعرة الأميركية، ولهذا الشاعر اللبناني. وفي حين ان يونغ، نالت عن كتابها ما تستحق من التقدير، بدءاً من عام 1945 الذي شهد الطبعة الأولى من كتابها في الولايات المتحدة، تقتضي الأمانة حالياً الثناء على هنري زغيب، وعلى “مركز التراث اللبناني” في “الجامعة اللبنانية الأميركية”، التي رعت إصدار صدارالكتاب بحلته العربية الأنيقة. غالباً ما يحتاج القارئ العربي، وهو يطالع كتاباً ضعيف الترجمة، أن يعود إلى اللغة الأصلية التي كتب فيها، لفهم مرامي الكاتب ومعانيه حق الفهم، لكن في حال كتاب برباره يونغ هذا، لا يحتاج هذا القارئ إلى أدنى جهد لفهم نص بهيّ مشرق، أنفق عليه صاحبه الكثير من الجهد والتعب. ليس ذلك بمستغرب على اي حال، فلغة الكتاب نثر مكحل بنفحة شعرية، والصياغة العربية جاءت قريبة من ذلك، ما يعفي قراء العربية، من اقتناء الكتاب بلغته الأصلية، ويعطي من ليس مُلماً بالإنكليزية منهم، فرصة جديدة للدخول إلى عالم جبران الشاعر والفنان والإنسان، فرصة ما كانت تتحقق، لو أن المترجم نفسه لم يكن شاعراً، لأن المسالة ليست معرفة لغة وإن بلغت درجة عالية من الإتقان، بقدر ما هي مسألة فهم شاعر لفضاء شاعر آخر، ما يجعل الطبعة العربية من الكتاب عملاً فريداً من نوعه، ويجعلنا نقول من غير تردد، إن هنري زغيب اصاب وأجاد، وأتحف المكتبة العربية بسفر نفيس مفيد لقراء جبران ومحبيه عموماً، وللعاملين منهم في حقل الدراسات الجبرانية بنوع خاص.

الكتاب ثلاثة اقسام من 600 صفحة، الأول في نحو 275 صفحة، هو نص يونغ عن جبران كما عرفته خلال سنوات سبع، هي الأخيرة من حياته. صفحات كثيرة من هذا القسم الأول هي من صنع هنري زغيب نفسه، وتشتمل على عشرات الحواشي التي تشرح هوية الأشخاص والأماكن التي ذكرتها يونغ، وتركتها من غير تفسير أو إشارة، بحكم أن القراء الأميركيين يعرفونها ولا سبب يدعو لشرحها، لكنها بقيت مجهولة لدى الكثيرين من القراء العرب، فجاء هنري زغيب وفك رموزها إن صح التعبير، ولك ان تدرك ايها القارئ الكريم كم من الجهد أنفق الشاعر في هذا السبيل. هذا لجهة النص واللغة والترجمة، يبقى المثير والشائق في هذا الكتاب الأنيق شكلا ومضمونا، ما تضمنه القسم الثاني من رسائل ووثائق لبنانية وأميركية جديدة، عن وجوه جدد من رجال ونساء، كانت لهم أدوار في حياة جبران، ولم نكن نعرف عنهم الا النزر اليسير، أو لا شيء على الإطلاق في كل ما كُتب عن جبران في العربية حتى الآن، ما يعزز قول زغيب “إن جبران لم يمت وما زال يولد كل يوم”، وانسجاماً مع قول جبران انفسه: “سبع مرات ولدت، وسبع مرات مت، وها أنا الآن أعيش من جديد”، كما جاء في مؤلفه “يسوع ابن الإنسان”. أهمية هذه الوثائق أنها تضيء جوانب مظلمة من حياة جبران، وما اكتنفها من خيالات وأحلام ومناجاة وظلال، ونزعات أرضية وروحية رسمتها له الأقدار، من يوم ولد في بلدة بشري شمالي لبنان، سنة 1883، إلى مهجره الأميركي الذي شهد آخر فصل من ملحمة حياته “الأرضية” في العاشر من نيسان سنة 1931.

في حضرة إلهية

لا يُعتبر نص برباره يونغ عن جبران تأريخاً، هو نظرات فردية في شخص جبران وصلت بالشاعرة إلى حد ان وضعته في مرتبة القديسين، مثل قولها إنها كانت تشعر معه أنها في “حضرة إلهية”، وقولها في مكان آخر “إن إسهام جبران الساطع في الأدب والفن العالميين يتوسع حتى ليؤدي إلى شفاء الأمم”، وفي الصفحة 161 تقول “ولد جبران رسولاً من الله ليعيد صياغة فهم البشر جوهر الحياة”. تذهب إلى ابعد من ذلك بالقول: “إن جميع التجارب والاختبارات التي عاشتها مع جبران جعلتها توقن أن هذا الرجل من نسيج إلهي”. لا تكتفي يونغ بخلع مسوح “القداسة” على جبران، كما لو أن ذلك رأيها وحدها ونظراتها وحدها فحسب، تسحبه أيضاً على المغتربين اللبنانيين والسوريين في أميركا وتقول: “كان جبران مختارا من الله بنظر مواطنين شبان من بني جنسه، ولدوا في الغرب، لأهل جاءوا من أرض أم”.

يحار المرء في تفسير هذا الهيام الشديد الذي تبديه هذه الشاعرة الأميركية نحو جبران، إلى حد وضعه في مصاف القديسين والرُسل. لا علينا مع ذلك أن نرتكب المعصية، ونسّفه كلامها عن جبران، ونقول إنه هذر وأضغاث أحلام وطلاسم من مجاز وكنايات واستعارات. إن كونها شاعرة، وإيمانها بالخلود وعودة الروح، وبأن الموت ولادة أخرى، وهما إيمان جبران نفسه، جعلها ترى جبران من الداخل، وبعين مغايرة لعيون العامة من الناس، وترسم صوراً رمزية عنه كواحد من “الأنبياء” الساعين للحق والخير والعدل والجمال. من ثمّ، أليس ابن الفارض هو من أكّد لنا هذه الرسالة قبل مئات السنين بقوله: “كل من جاء منا بالحق قام بالرُسُلية”؟.

بعيداً عن هذا النسيج الرمزي، تكشف لنا يونغ، عن جوانب أخرى من شخصية جبران وتقول: “خلف هذا الجبران، الذي يكتب ويخاطب الكبار، يقف جبران آخر متحفظ منطو على ذاته”، وفي موقع أخر تشير إلى ما كان لديه من روح النكتة والدعابة. تذكر حادثة طبخ فيها حساء، وجاء بقصعة كبيرة، نثر فيها فُتاتا من الخبز اليابس المحمّص، ثم أخذ ملعقة ورسم في القصعة خطا وهمياً وقال لها بكل وقار: “هذا نصفك من الحساء، وهذا نصفي، فلنحتس دون أن ينال أحدنا من حصة الآخر”. تقول ايضا إنه كان أحياناً يتصرف كطفل يحلو له الرقص، “يضع يده حول خصره ويروح يدور في مكانه كراقصة محترفة تتغاوى على رؤوس أصابعها”.

الرحلة إلى لبنان

تُطلعنا يونغ عن رحلتها المثيرة إلى لبنان في تشرين الأول من العام 1939، والحرب العالمية على الأبواب، وكيف وجدت بيروت معتمة “تضج بأفواج الجنود الفرنسيين والسنغاليين”. استقبلتها جموع غفيرة، منهم رجال مرموقون كانوا أتراب جبران في المدرسة، جاءوا يسألوها عن جبران وحياته في أميركا. تذهب إلى بيت جبران في بلدة بشرّي وتزور المتحف الذي يضم رسومه وأغراضه. تزور “مدرسة الحكمة “وتقابل الأب يوحنا مارون الذي يرشدها إلى قاعة الدروس التي كان يجلس فيها جبران. تشاهد المنبر الذي كان يجلس عليه الخوري يوسف الحداد “الوحيد الذي استفاد جبران من تعليمه” كما أخبرها. تقابل رجال علم وأدب، منهم المؤرخ فؤاد أفرام البستاني، والأمير موريس شهاب، ورئيس الجامعة الأميركية بيارد دودج. تصف بشرّي بكلمات شعرية: ” كانت جوهرة جمال بسيط وصدق فطري. كنت انوي العيش جزءاً من السنة فيها والآخر في بيروت، لكن الحرب دهمتني”.

“وليم بليك القرن العشرين”                                              

الحق أن هنري زغيب، رغم افتنانه في نص يونغ المعسول وحبه جبران، لم يحل هذا بينه وبين أن يكون حيادياً وموضوعيا، ففي حين تقول يونغ إن الفنان الفرنسي رودان قال عن جبران “إنه وليم بليك القرن العشرين”، يُرجّح زغيب أن القول هو قول جبران، نسبه إلى رودان. في مكان آخر من الكتاب تقول يونغ أن جبران أخبرها أنه كان لدى أمه في بشري مربية.  يستكثر زغيب على أم جبران أن قد كانت لديها مربّية، بسبب ما كانت تعانيه العائلة من فقر وضنك، ويقول ان لا مرجع يذكر ذلك. يعتبر هذا كله، من “شطحات” جبران. ينفي أيضاَ ما ذكرته يونغ أن بعض المتعصبين احرقوا روايته “الأجنحة المتكسرة” في ساحة بيروت العامة، أو أن تكون الدولة اللبنانية أصدرت قرارا بنفيه، وأن الكنيسة المارونية اصدرت قرارا بتحريمه، دليله عن ذلك “أن مأتم جبران في بيروت وبوسطن جرى بجميع الطقوس الجنائزية الكنسية”. يخالف زغيب ايضاً قول يونغ، إن كاملة عبد السلام رحمة، أم جبران “كانت تتقن غير لغة”، ويقول إنها كانت أمية، وان شقيقته مريانا كانت أيضاً أمية. يحلو لزغيب أن يسمي هذا كله “شطحات” جبرانية، أو “أسطرة”، ويقول إن جبران كان يتقن هذه “الأسطرة” ليظهر شخصيته، مدركاً أن يوما سيأتي وتؤلف باربره يونغ، وماري هاسكل كتبا عنه، في سياق ما استحدثه من عبارة سماها “الهاجيوغرافيا”، أوعلم الكتابة التقديسية.

العدد 123 / كانون الاول 2021