مقاربة بناء المشاهد ودراسات المستقبلات

ا.د مازن الرمضاني*

يَعود الاصل اللغوي لكلمة مشهد  أو سيناريو الانكليزية إلى اللغة اللاتينية ، وبمعنى يتماهى والسرد المكتوب لقصة محددة. وتاثرا بهذا المعنى استخدمها الايطاليون في نهاية القرن التاسع عشر بدلالة العمل المسرحي المكتوب ومستلزمات اخراجه. وقد استمرالاخذ بهذه الدالة الى زمان ممتد إلى الحاضرليشمل ايضا الاداء السينمائي وغيره.

وفضلا عن ذلك اضحت كلمة المشهد شائعة الإستخدام على صُعد ادوات الإتصال الجماهيري وكذلك الحياة اليومية وسواهما وان بإستخدام لا يتماهى، في كثير من الاحيان مع دالتها في دراسات المستقبلات.

وقد بدأ الاخذ بمفهوم المشهد في هذه الدراسات منذ خمسينيات القرن الماضي. ويتكرر القول ان المستقبلي الأمريكي، هيرمان كاهن، كان اول من ادخل هذا المفهوم الى الدراسات الأمريكية ذات الابعاد العسكرية- الإستراتيجية.

بيد ان المفهوم لم يأخذ بالإنتشار الا بعد ابتكار المستقبلي الفرنسي، غوستاف برجيه في عام 1964 لمفهوم  المستقبل المنظور الذي يفيد ان المستقبل لا يقبل الإنغلاق على مشهد واحد وانما ينفتح على العديد من المشاهد البديلة، وان الإنسان هو الذي يختار منها ما يراه مؤاتيا لتحقيق ما يصبو اليه.وقد اصبح هذا المفهوم احدى الركائز الاساسية للمدرسة الفرنسية في المستقبل.

وتُعد مقاربة بناء المشاهد بمثابة التطبيق العملي لمفهوم المستقبل المنظور اعلاه. ومن هنا جاءت عناوين الدراسات التي تعبر عنه وهي تحمل كلمة المستقبلات بدالة الجمع وليس المستقبل بدالة المفرد.

ومنذ بداية توظيفها في دراسات المستقبلات وهذه المقاربة تجد انتشارا متسارعا  بين مستقبليين يتوزعون عالميا وعلى شتى حقول المعرفة، فضلا عن استخدامها، ولاغراض متعددة من قبل مؤسسات رسمية واخرى خاصة: مالية وتجارية وكذلك من قبل منظمات حكومية وغير حكومية  وشركات متعدية الجنسية.وتُعد شركة شل من بين الشركات النفطية الاقدم في توظيف هذه المقاربة وتطويرها.

يؤكد المستقبلي الأمريكي، بيتر بيشوب، ان مقاربة وجراء كثافة توظيفها بناء لمشاهد اضحت بمثابة القلب لدراسات المستقبلات وكذلك التي تُميز دراسات المستقبليين المحترفين عن سواهم. او انها صارت كما يؤكد المستقبلي الأمريكي ويندل بِل بمثابة القاسم المشترك بين العديد من دراسات المستقبلات الامرالذي سهل  إقتران هذه الدراسات بنوع من الوحدة المنهجية.

وعندنا يعود الانتشار العالمي لمقاربة بناء المشاهد الى تأثير مجموعة الخصائص التي تتميزبها ومنها، مثلا دالتها وغاياتها وانواعها.

فأما عن دالتها فهذه المقاربة وان تتعدد الروى بشأن معناها بيّد ان هذا الواقع لا يلغي ان ّجل الرأي يأخذ، على الرغم من الصياغات اللغوية المختلفة بمضمون متماثل تقريبا يفيد ان هذه المقاربة معنية بتقديم وصف لكيفية تبلور مشاهد المستقبل، وبضمنه المسار الذي تأخذه.

فمثلا يؤكد هيرمان كاهن إن المشهد هو عبارة عن  »قصة تصف المستقبل. اما ميشيل غودي فهو يرى إنه يعبر عن  وصف لحالة مستقبلية او لمسار حوادث مستقبلية تتحرك من وضعية اولية )سواء كانت في الماضي او الحاضر(  الى وضعية مستقبلية«. ولا تختلف المستقبلية الايطالية، ماسيني، عن سواها. فهي الاخرى تدرك المشهد بدالة  »… تلك المتواليات او العمليات لاحداث تنبع من الحاضر وتفضي الى بناء المستقبل«.

ولا تختلف رؤى عربية في شأن دالة هذه المقاربة عن سواها. فمثلا، يرى، علي الدين هلال، ان المشهد هو:  »…ادراك ذهني وفكري لمجموعة من الحالات المتوقعة او الممكنة لمسيرة ظاهرة ما )وانه يتأسس( على مجموعة من التنبؤات المشروطة )قوامها( ماذا يمكن ان يحدث لو ان ثمة شروط )مسبقة( قد تحققت«. اما عند إبراهيم العيسوي، فالمشهد هو:  »… وصف لوضع مستقبلي ممكن، او محتمل، او مرغوب فيه )يتناول( ملامح المسار او المسارات التي يمكن ان تؤدي )إلى هذا الوضع(… انطلاقا من الوضع الراهن او من وضع ابتدائي مفترض«.

اما عندنا، فالمشهد هو اجتهاد علمي مشروط ينطلق من زمان محدد ويعمد الى توظيف العلم والخيال سبيلا لوصف كيفية تبلورالمشاهد البديلة لمستقبل موضوع الإهتمام اعتمادا على حقائق الماضي ومتغيرات الحاضر المرئية والمحتملة. وبهذا المعنى يعبر كل مشهد عن خريطة افتراضية للطريق تصف احتمالات التطور المستقبلي للحاضر ومساره.

واما عن غايتها، فمقاربة بناء المشاهد تتميز في انها مقاربة هادفة، بمعنى انها تسعى الى تحقيق غاية محددة. وحول مضمونها لا تختلف الأراء في العموم. فمثلا ترى، ماسيني، انها  »… تكمن في استشراف كافة او اغلب المشاهد البديلة للمستقبل«. اما ادوارد كورنيش فهو يؤكد انها تتمحور حول  »…صياغة المستقبل وتشكيله«.

وفي ضوء اعلاه، نرى ان الغاية النهائية لهذه المقاربة لا تكمن في مجرد استشراف مشاهد المستقبل، مع اهميته، وانما ايضا في توظيف هذا الإستشراف سبيلا لصناعة المستقبل ولاسيما المرغوب فيه. ومن هنا تنبع جدواها العملية.

واما عن انواعها، بمعنى اطرها المعرفية، فالرؤى متعددة. وتكفي الإشارة الى نوعين منها والاكثر انتشارا. فأما عن الاولى، فهي تلك التي تأخذ بثنائية الإطار. فمثلا ترى ماسيني، ان تطبيقاتها تشير الى ان انها تتوزع على مستويين. فهي اما مقاربات اتجاهية /استكشافية تسعى الى استشراف مشاهد المستقبل المحتمل و/او الممكن انطلاقا من الاتجاهات والمعطيات التي يتميز بها زمان الحاضر واما هي مقاربات معيارية /استهدافية تجعل من استشراف المستقبل المرغوب فيه جوهرها الاساس انطلاقا من اهداف محددة مسبقا ومرغوب فيها.

وتتبنى المستقبلية الالمانية حنا كوزوف، الأخذ بفكرة ثنائية الشيء ونقيضه. لذا قالت ان مقاربات بناء المشاهد هي اما اتجاهية /معيارية، أو إنها كمية /كيفية.

وبجانب هذا التصنيف الثنائي، تنتشر ايضا رؤية ثلاثية. فمثلا تطرح المستقبلية السويدية، لينا بورجسون  رؤية انطلقت من ثلاثة اسئلة: ما الذي سيحدث؟ وما الذي يمكن ان يحدث ؟ وكيف يمكن تحقيق شىء مرغوب فيه مستقبلا؟. وتبعا لهذه التساؤلات عمدت الى تصنيف مضامين مقاربة بناء المشاهد ثلاثيا الى مضامين تنبؤية وإتجاهية ومعيارية، ورات ان كل منها ينصرف الى الإجابة على احد التساؤلات، التي طرحتها وبالتتابع.

ونرى ان تصنيف مقاربات بناء المشاهد ثنائيا الى اتجاهية ومعيارية، او ما شابه ذلك، يُعد الاكثر تماهيا وانماط التفكير العلمي في المستقبل، سيما وان تأثير هذه الانماط كان حاسما في تحديد مضامين جل المقاربات المنهجية المستخدمة في استشراف المستقبلات. ومن هنا نحن نتبناه أيضا.

وفي ضوء دالتها وغايتها وانواعها، نرى ان تطبيق مقاربة بناء المشاهد، وبكفاءة عالية، يتطلب كسواها، توافر ثلاثة شروط اساسية مسبقا: اولهما معرفة دقيقة بحقائق ماضي البيئة التي تحتضن موضوع الإستشراف فضلا عن معطيات حاضرها. وثانيهما معرفة دقيقة بكيفية توظيف الإليات )الإجراءات( المنهجية التي تستخدمها هذه المقاربة. وثالثهما القدرة على تشخيص جل تلك المتغيرات المؤثرة وبضمنها غير المرئية قي وقته، التي تفضي، عندما تصبح مرئية،  الى احداث تحول مهم في مسار تطور الحاضر بإتجاه المستقبل.

ولبيان كيفية توظيف مقاربة بناء المشاهد عمليا نرى جدوى الإنطلاق من مجموعتين من الخطوات الاساسية: شكلية واجرائية.

فأما عن الخطوات الشكلية فهي تكمن في الاخذ بخطوتين فرعيتين اساسيتين ومتكاملتين:

فأما عن الخطوة الاولى، فهي تنصرف الى تشكيل فريق العمل من قبل الجهة الراعية لعملية الاستشراف. وغني عن القول ان كفاءة الإنجاز تتطلب تشكيل هذا الفريق من مستقبليين محترفيين ومن مختلف الاختصاصات ذات العلاقة المباشرة بموضوع الإستشراف.

وتتعدد اجراءات اختيار هذا الفريق. وبهذا الصدد، نرى ان تجربة مشروع مصر عام 2020  تنطوي علي فائدة مهمة. فهذه التجربة ذهبت الى توزيع فريق العمل الى ثلاثة مجاميع فرعية من المستقبليين وباختصاصات محددة: فأما عن المجموعة الاولى فهي التي تحتضن الخبراء الذين تتحدد مسؤولياتهم بإعداد وصياغة المشاهد الاولية. واما المجموعة الثانية فهي التي تعمد الى فحص المشاهد المقترحة وبضمنه كشف نقاط قوتها وضعفها سبيلا لاختيار عدد محدد منها. اما المجموعة الثالثة فهي التي تتولى مناقشة المشاهد المقترحة وإقرارالاكثر موضوعية  منها.

واما عن الخطوة الثانية فهي تشمل تحديد موضوع الإستشراف ومجاله الجغرافي، وافقه الزماني. وهي تدخل ضمن مسؤولية الجهه الراعية للإستشراف.

واما عن الخطوات الإجرائية، فتجدر الإشارة اولا الى ان عملية بناء المشاهد تستخدم إحدى ثلاث أدوات: كيفية وكمية وتفاعلية، فأما عن الاولى فهي تأخذ بالحدس وقدرات التصور والخيال والعصف الذهني مثلا. واما عن الثانية فهي تنطلق من الادوات الكمية عموما ومقاربة النمذجة خصوصا. واما عن الثالثة فهي تجمع بين هاتين المجموعتين من الادوات.

ويفيد الواقع التطبيقي لهذه الخطوات ان الراي يتباين بشأن عددها. ومع ذلك، نرى إنها تكمن في ستة مستويات متفاعلة وكالاتي:

فأما عن المستوى الاول فهو يقترن بتحديد الوضع الاولي )الإبتدائي( للمشاهد، وذلك من خلال اجراء مسح شامل لبيئة موضوع الإستشراف في أزمنة ماضيها وحاضرها، تمهيدا لإنجازخمسة اغراض مهمة،هي:

اولا، تحديد عموم تلك المتغيرات الداخلية والخارجية المؤثرة سلبا او ايجابا في مستقبل موضوع الإستشراف وكذلك تحديد الإتجاهات العامة.

ثانيا ـ تصنيف هذه المتغيرات على وفق معيار اهمية تأثيرها الموضوعي.

ثالثا ـ تحديد المتغيرات الاكثر تأثيرا.

رابعا ـ دراسة التفاعلات البينية لهذه المتغيرات وتحديد مخرجاتها.

خامسا ـ تحديد القوى الرسمية وغير الرسمية المؤثرة في تشكيل هذه المتغيرات سواء عبر الفعل او رد الفعل، فضلا عن درجة اليقين التي تتمتع به كان تكون قوى عالية التأثير ولكن منخفضة اليقين، اوتكون قوى عالية التأثيروكذلك عالية اليقين، او تكون قوى ضعيفة التأثير ولكن منخفظة اليقين.

واما عن المستوى الثاني فهو ينطلق من مخرجات اجراءات المسح الشامل البيئي للمتغيرات المؤثرة، لبلورة عدد من الإفتراضات، بشأن مشاهد مستقبل موضوع الإستشراف، يتأسس كل منها على سؤال محدد، هو: كيف سيكون مستقبل هذا الموضوع في الزمان )س(، لو ان معطيات الحاضر استمرت ممتدة الى المستقبل، اوانها استجابت لقانون التغيير، اوانها جمعت في الوقت ذاته بين مخرجات معطيات الإستمرارية والتغيير.

واما عن المستوى الثالث فهو يتأسس على وفق نوعية الإجابة على كل من الاسئلة اعلاه وينصرف الى اعداد صياغات اولية وبمضامين مختلفة لعدد من المشاهد البديلة ذات العلاقة المباشرة بمستقبل موضوع الإستشراف. ومرد تنوع وتعدد هذه المشاهد هو انها تتماهى فكرة التعدد والتنوع الكامنة في اصل الاشياء، وبضمنها المستقبل. ومن هنا لا تجد الصياغة الإحادية او الثنائية الحدية للمشاهد، إستجابة لدى العديد من المستقبليين المحترفين.

واما عن المستوى الرابع فهو يكمن في تقليص عدد هذه المشاهد الأولية عبر المقارنة بين مخرجاتها ومن ثَم اختيار تلك التي تتماهى وتلك الشروط التي تفضي الى تميزها بالابداع والإبتكار وبدرجة مصداقية عالية ولاسيما شروطا لمعقولية والثبات سهولة الفهم، الوضوح، واخيرا الشفافية.

 وتبعا لمضمون هذا المستوى يعمد العديد من المستقبليين الى تفضيل حصر المشاهد بثلاثة منها فقط. ولا يلغي ما تقدم ذهاب أخرون الى الأخذ بفكرة رباعية هذه المشاهد بل وحتى اكثر. ومع ذلك نرى ان تبني فكرة ثلاثية المشاهد يُعد سليما هذا ليس فقط لأنها تتماهى مع انفتاح المستقبل على شتى الإحتمالات وانما أيضا لإنها تُسهل عقد المقارنة الجيدة بين تبايناتها، فضلا عن انها تساعد على الإرتقاء بالإستجابة الى مستوى تحدي بناء مشاهد تتميز بالابداع والإبتكار. وعندنا تعبر المشاهد الإسقاطية والإصلاحية والتحولية عن ثلاثية هذه المشاهد.

واما عن المستوى الخامس فهو ينصرف الى انجاز الصياغة اللغوية السردية للمشاهد المستقبلية التي استقر الراي عليها، وبضمنها وصف ثلاثية العناصر التي يتكون كل مشهد منها: اولا الوضع الاولي للمشهد. وثانيا، التتابع الافتراضي لحركته. وثالثا، الوضع المستقبلي بحد ذاته.

واما عن المستوى السادس فهو يتعلق بإقتراح السياسات وسواها من الإجراءات الاخرى والضرورية لتأمين الوصول الى نقطة بداية المشهد فضلا عن تلك السياسات والإجراءات التي تتحكم في  ديمومة تداعيات المشهد بعد تبلوره وكسواها، تتمييز مقاربة بناء المشاهد بإيجابيات ولا تخلو بالضرورة من سلبيات.

فأما عن الإيجابيات فأبرزها تكمن في فائدتين اساسيتين: الاولى، انها تقدم لصناع القرار رؤية وصفية وتحليلية لما قد يقترن به المستقبل من مشاهد محتملة و/او ممكنة. اما الفائدة الثانية فهي مساعدته على بلؤرة تلك الخطط والسياسات التي تتوافرعلى قدرة التعامل مع ممكنات و/او احتمالات المستقبل بشفافية وكفاءة عالية.

واما عن سلبياتها  فهي تنحصر في الآتي مثلا:

اولا: ان عدم كفاية البيانات والمعلومات المتوافرة عن مستقبل موضوع الإستشراف لا يسهل بلورة فرضيات تؤسس لمشاهد تتماهى وطبيعة المستقبلات التي يمكن او يحتمل ان تكون.

ثانيا: ان الغموض الذي يكتنف مخرجات عملية تغيير العالم، ومن ثم محدودية القدرة الإنسانية على الإدراك الدقيق لمخرجات عدم اليقين الناجمة عن هذه العملية قد يفضي الى الإنطلاق من متغيرات تؤسس لمشاهد قد لا تتماهى مع هذه المخرجات، خصوصا عندما يمتد البعد الزماني لموضوع الإستشراف الى زمان المستقبل البعيد او غير المنظور.

ثالثا: ان احتمالية عدم توافر فريق العمل على قدرة استشراف تلك المتغيرات غير المرئية في الحاضر والمؤثرة في تشكيل معطيات المستقبل قد تفضي الى بناء مشاهد لا تتماهى ومخرجات هذه المتغيرات.

رابعا: ان تباين الخلفيات الثقافية والاكاديمية و السياسية لفريق العمل قد لا يسهل تحديد المتغيرات المؤثرة في مشاهد مستقبل موضوع الإستشراف، وتصنيفها على معايير متفق عليها، فضلا عن تقييم اثارها وبمخرجات قد تؤدي الى الغاء مشروع الإستشراف أو الى بلورة مشاهد لا تتأسس على معطيات موضوعية.

  خامسا: ان امتداد فترة الإنجازعلى زمان طويل نسبيا قد يؤدي الى انسحاب بعض اعضاء فريق العمل، لاسباب ذاتية او موضوعية، الأمر الذي قد يؤدي الى تعطيل الإنجاز او تعثره في الاقل.

  • * استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات

    العدد 87 – تشرين الثاني 2018